جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

خريف الذئب/الرفيق تاشفين الاندلسي

الصباحات الخريفية تكون عادة ثقيلة بل إنها تشكل للذئب رسالة مشؤومة تنذره باقتراب فصل الشتاء الذي يرعبه ببرده وجوعه الطويل ، يتلقف هذه الرسالة و هو يجول حول حقول الصبار لأخذ وجبة حلوة من ثمارها الشائك الموجود في متناوله بكثرة سواء ساقطا على الأرض أو على فرع غير مرتفع ، لا مشكلة لديه مع أشواكه الدقيقة فذنبه كفيل بمسحها باحترافية عالية .
تكون رسالة الشؤم عبارة عن قشور فاكهة الرمان المتناثرة على جنبات الطريق معلنة أن أوان البرد و الجوع قد اقترب .
كل شيء في هذا الفصل يأخذ اللون الأصفر ، ابتداء من أشعة الشمس ، أوراق الأشجار ، ثمار الصبار الشائك ، قشور فاكهة الرمان ثم الإبتسامات البهلوانية لأبناء بلدتي المعدمين ، حتى أني أتخيل فصل الخريف عبارة عن عقرب صفراء يتشابه سمها مع لسعات أشعة الشمس في الضهيرة .
ليست معاناة الذئب وحده هي التي تبدأ في هذا الفصل بل أيضا معاناة المعدمين من أبناء بلدتي فيتساوى الذئب و الإنسان وما يشترك بينهما ، أعني قطعان الماشية الهزيلة التي ستتوزع معاناتها بين الجوع لقحط الفصل و رغبة الذئب في اقتراف معصيته الأبدية مرغما و هو يحاول أكل نعجة عجفاء على مشارف فصل الشتاء الشيء الذي لا يستسيغه و يعفعه ، و بذلك يكون مرغما لا بطل .
في فصل الخريف يبدأ موسم معاناة أطفال بلدتي التعساء البؤساء و هم يتهيأون لبداية مشوار صعب يدخلون فيه في معارك لا تخطر على بال من لم يسقط رأسه في خلاء شاسع ، السقوط هنا فعلا و ليس مجازا ، إن أول ما يجب أن يتعلمه الطفل و هو ذاهب الى المدرسة مع نهاية الخريف هو أن يتجنب العناد مع مجرى الوادي بعد هطول الأمطار الغزيرة ، فإن كان لزاما عليه أن يقطعه فليفعل ذلك وهو يطاوعه بشكل غير عمودي لكي لا يجرفه ، كم هي متعددة تلك الوديان الجافة و التي تنتفض كل بداية فصل شتاء و تنتقم لجفافها بجرف ما تجده في وسطها كان حيا أو جمادا .
على فصل الخريف تضبط عقارب السنة هنا ضدا على تقاويم الأقوام الغابرة الذين ضبطوا بداية سنواتهم على منتصف فصل الشتاء الذي فيه تحصد الأرواح من دون حساب . لكل زمن عقارب سنته و لكل قوم علامات انطلاق هذه العقارب لتؤرخ لمآسيهم و اندحاراتهم المحتومة.
أعترف أنني أكره النباتات و الأشجار التي تزهر في هذا الفصل باستثناء الصفصاف رغم أن زهورها تكون مصدر أحسن أنواع العسل و أجودها ، يوجد من بين هذه النباتات من لا تغري النحل لمرارتها كالدفلة و"ترهل" ذلك الذي نسميه بلهجتنا في الريف "باكرامان" مع أن لهذه النباتات المرة عند الناس مآرب أخرى كالكي و صنع المراهم للجروح و الدمل . من هذه النباتات المزهرة خريفا هناك نبات شوكي مصدر عسل لذيذ و ذو شهرة عالية ، إنه " الفتشراس" ، هكذا نطلق عليه في بلدتنا ، نبات متوسط الفروع علوه لا يتعدى 20 سنتيمترا أشواكه حادة ، اوراقه رمادية و زهوره صفراء كما هي كل ألوان الخريف . لي مع هذا النبات قصة مثيرة ، كان ذلك في بداية شبابي و في ليلة ضلماء و أنا راجع من عند أخوالي في مدشر بعيد بحوالي ثمانية كيلومترات عن منزلنا ، هذه المسافة عبارة عن خلاء ممتد يثير الخوف في النفوس نهارا ، أما ليلا فلابد أنك ستعيش فصولا من أساطير الأولين و انت تتوهم عالما غير مرئي يصر على الظهور في خيالك المرتع بسطوة الخوف فيتحول قي مخيلتك حجر منتصب إلى إمرأة لابسة البياض أو وقع خطى كلب أو ذئب الى نذير اقتراب "سكان" المكان الغير مرئيين من الجن أو ضل سحابة خريفية صغيرة في ليلة مقمرة مكتملة البدر الى حيوان غريب يدب إلى مسعاه و ينتمي أيضا الى العالم الغير مرئي . في منتصف الطريق هناك مكان مميز للغاية نسجت حوله أساطير لا تحصى حول "سكانه" من الجن الذين لا يتوانون في الظهور نهارا في بعض الأحيان حول شجرة زيتون بري عتيقة جدا ربما كانت هناك لما كانت المنطقة مستوطنة من طرف أهل سوس منذ زمن الموحدين ، إنه "أزمور أمحار" .
كنت عائدا تلك الليلة عبر ذلك المكان حوالي الساعة الواحدة فجرا و الليل بهيم و الصمت المطبق مخيف ،كنت أشك كثيرا في روايات أبناء بلدتي و يحضرني في بعض الأحيان التحدي بالمرور ليلا متعمدا على مثل تلك الأمكنة ، لكن ذلك اليوم و بعد أن تجاوزت "أزمور أمحار" بقليل منحدرا عبر منعرجات حادة فإذا بعيناي ترمقان في لحظة قياسية شيءا شبيها بأرنب بري يقفز أمامي قاطعا الطريق الضيقة فاستقر قريبا مني على قارعة الطريق من دون أن يتحرك بعد ذلك ، اختلطت مشاعري بشكل لم أعد أميز هل أنا نائم فاستحوذ علي كابوس أم أن كل تحدياتي لأساطير أقراني في البلدة هو نوع من النزق الفارغ بعيدا عن تقييم الوضع و أنا في المحك ؟ لكن ما هو مؤكد أن فروة رأسي أصبحت منتصبة كجلدة قنفوذ متأهب ، كل هذا في غضون ثواني معدودة ، رغم ذلك احتفظت بشيء من التحدي الذي شيئا فشيئا سيتغلب على المشاعر الأخرى التي كادت أن تجعلني أحكي قصتي مع الجن لأجيال قادمة ، ثم وقفت أتأمل الأمر مليا و إذا بالمستقر على قارعة الطريق نبات "الفتشراس" الشائك فهدأ روعي و ارتخت فروة رأسي فواصلت الطريق الى منزلنا و أنا متأكد أن ادعاء صديقنا "الشريك" الذي فقد كلبه في ذلك المكان و هو يطارد ارنبا في مثل ذلك الوقت متهما الجن لم تكن إلا هلوسة ليلية و لو أنه من هواة السير ليلا طوال حياته ، إن "الشريك" يؤمن حد الهوس بما تبقى من الديانات الوثنية التي كانت سائدة هنا منذ الزمن الغابر ، يتقاسم عالمه بين الإنس من بني جلدته نهارا مستعملا كل الحيل مرغما مستفيدا من عالم الحيوان في هذا المجال و الجن من "سكان" المكان ليلا ، نصف حياته تدور في تفاعل مع هؤلاء المخلوقات اللامرئية مما يفرض عليه أخذهم بعين الإعتبار كل وقت وحين من لياليه في الفلوات بل حتى داخل بيته ، إنه دوما حريص على أن لا يزعجها فهو يتصرف بتعقل تام ليلا أكثر من النهار ، لا يسكب الماء الساخن أبدا حيثما اتفق و لا يقتل الكائنات لعلها بنات الجن خصوصا الضفادع فهي عنده من دون شك بنات شرعيات لها . لا يستغني عن الملح و هو راجع من السوق إن تبضع قليلا من اللحم أو السمك فهو سلاح فتاك بالجن من غير أن يقتله ، همه أن يبعد الأشرار من هذه المخلوقات لكن لا بأس أن يتعامل بود مع الأخيار من بينها لأنها حسب ما يعتقد أنها متسامحة لكن من دون أن يتسبب في قتل ابناءها ، لكنه يبقى حائرا فمن يدريه أي صنف قد يصطدم معه كل مرة .
في الخريف يتحرك المدى الحراري بشكل حاد ، فحرارة النهار مرتفعة تلسع من يتعرض لها ، أما في آخر الليل تنزل بحدة خصوصا مع اقتراب فصل الشتاء ، في هذا الوقت بالضبط يكون المعدمون من فلاحي بلدتي يهيؤون الأرض و الأدوات لبداية موسم الحرث الشاق فيبدأون في نقل مزابل الروث الهائلة الى الفدادين المجاورة لمنازلهم بل في بعض الأحيان الى أماكن بعيدة ، فيندمج الصغار و الكبار مع مزابل الروث المعتقة فتنعدم المسافة بين الوقاية و العلاج و احتمال الإصابة بالأمراض كما يوصي بذلك طبيب القرية لكنهم يحسبونها سخافة من طرف أحدهم لم يلج بعد باب المحن . تنتشر تلك الأزبال على الفدادين عبارة عن كومات صغيرة تحترم فيما بينها المسافات . لكن الأصعب هو يوم يتقرر تغبير الأرض بتشتيت تلك الكومات على بساط الفدان ، من أجل ذلك تستعمل الأيادي في بعض الأحيان فتصطدم الأصابع بأحجار الأرض و تظهر ربائب الأصابع بانسلاخ جلد الأصابع من خلف أضافرها بداية بشكل سطحي ثم رويدا رويدا تتعمق الى ما تحت الجلد بشكل مائل و تغور في اللحم ، إنها ربائب الأضافر ، هكذا نطلق عليها في بلدتي إنها مؤلمة جدا . يصحب هذا العمل جمع الأحجار التي تكون باردة في الصباح و غالبا ما تكون العقارب كامنة تحتها و قد تودي بحياتك
تاشفين الأندلسي
طنجة
25/07/2017


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *