حكايا الرفيق محمد فكري عن الاعتقال والامهات
*/ تحية لأمهاتنا الغائبات منهن والحاضرات
وأنا أحاول نبش ما بقي عالقا في الذاكرة من تجربة الاعتقال والاضرابات عن الطعام التي خضناها مجموعة ومتفرقة، والتي تكاد تتعدى 80 يوما إن لم تكن أكثر.. تذكرت معاناة الأمهات والزوجات والنضال البطولي الذي خضناهن من أجل إنقاذ حياة المعتقلين وإيصال قضيتهم إلى الرأي العام الوطني والدولي. أنا والدتي كانت متوفية قبل الاعتقال، ولكني عرفت الكثير من أمهات رفاقي أصبحن في منزلة أمي. من بين الأمهات، من لم يسافرن خارج مقر سكناهن ومنهن من لم يسبق لهن أن عرفن حتى المنطقة التي يسكنها.. ففرضت عليهن ظروف إعتقال أبنائهن الخروج من منازلهن وركوب الحافلة والسفر لمسافات بعيدة والمبيت خارج منازلهن والبقاء في الشارع أحيانا أياما وليالي، وأصبحن محاورات ومدافعات شرسات عن حقوق أبنائهن وقضيتهم العادلة، ويفرقن بين التناقض الأساسي والتناقض الثانوي، وكن يواجهن المسؤولين بقوتهن ووحدتهن وصمودهن ووعيهن بما هو أساسي في نضالهن.. تحية لأمهاتنا العظيمات منهن من انتقل إلى دار البقاء ومنهن من لا زلن يكابدبن معاناتهن.. تحية لروح أمي عائشة والدة رفيقنا المرحوم مداد ولروح أم زعزاع ومصطفى نفلوس، ولروح أمي فاطمة السملالي التي كان منزلها مقرا ومستقرا لكل الأمهات والزوجات القادمات من كل أنحاء الوطن، وتحية كذلك لروح أم الرفيق الأزهر والرفيق بنشقرون وكل الأمهات العظيمات.. ولا أنسى والدة الرفيق الشهيد عبد السلام الموذن، التي كانت تعتبرني من أحد أبنائها والتي شملتني بعطفها وفيض حنانها، أوجه لها أخلص التحيات وأصدقها وأتمنى أن تكون بخير وأن يمد الله في عمرها..
وتحية لروح المناضلة ثورية السقاط الشاعرة والمكافحة، زوجة قائد مناضل ووالدة مناضلات ومناضلين من أجل وطن جميل خال من القمع والاضطهاد، وطن المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة والديمقراطية الحقيقية
**********
*=* عدت يا يوم اعتقالي وهو يوم مولدي حقيقة *=*
في مثل هذا اليوم من سنة 1974 وكان نهار سبت مشمس وحار، شبيه بخريفنا هذا، شديد الحرارة وبلا أمطار، تنتشر الأمراض وتنتقل بسرعة، ويعلوا الحزن والكآبة وجوه الفلاحين وهم يرون حيواناتهم جوعى وعطشى، بسبب انعدام الكلأ وشحة المياه.
في مثل هذا اليوم من سنة 1974 وحوالي الساعة الواحدة زوالا تم اعتقالي من مقر اللجنة التقنية التي كانت تسهر على إعداد وثائق ومنشورات منظمة 23 مارس وخاصة النشرة المعروفة بنفس الاسم والتي كنا نطبع منها آلاف النسخ وقد كنت أنا والرفيق محمد الغريسي المنوطة بنا هذه العملية، أقوم برقن المواد على الآلة الكاتبة وتصحيحها وبعد ذلك تتم عملية الطبع بواسطة طبيعة يدوية (الرونيو) وبعد الطبع ترتيب الصفحات وتجميعها (بالكرافوز) ليخرج العد للتوزيع في المدن المغربية . المكان الذي تتم فيه هذه العملية كان عبارة عن منزل يقع في أكبر شارع وأجمله آنذاك، شارع الزرقطوني، وفي البناية كانت تسكن، على ما أتذكر، عائلتان; عائلة أوربية وعائلة مغربية، لهذا كان بعيدا عن أنظار الفضوليين، وكنا حين نشرع في العمل نطلق صوت الموسيقى بشكل مرتفع حتى لا يسمع صوت آلة الرقن أو الرنيو.
انطلقت الاعتقالات ليلة الجمعة 1 نوفمبر بعد أن اضطر الكرفاتي للاعتراف بحقيقة هويته حتى لا تلصق به تهمة سارق لأنه اعتقل ممتطيا دراجة نارية بدون أوراق. من هنا ابتدأت الكارثة.
جئت للمقر لأستطلع الأمر لأني كنت في قرارة نفسي متوجسا من أن هناك شيئا ما سيقع لذلك ذهبت ليلة الجمعة للمبيت لدى أحد معارفي بقرية الجماعة. وفي صباح السبت حين عدت للمنزل الذي أقيم فيه مع الرفيق الشهيد عبد السلام الموذن والرفيقان علال الأزهر وعبد العالي بنشقرون والذي يقع في كراج علال عمارة رزق، لاحظت نوافذ الشقة مغلقة على غير العادة وسيارة شرطة متوقفة بباب العمارة والحارس يدخل ويخرج بشكل مرتبك، طبعا كنت واقفا في مكان بعيد شيئا ما يصعب عليه رؤيتي لأنه كان ضعيف البصر، من هنا حدست أن الأمر ليس عاديا وأن هناك شيئا ما وقع، فاتجهت إلى شارع الزرقطوني من كراج علال مشيا على الأقدام وأنا بدون وعي وعاجزا عن أي تفكير فساقتني قدمايا إلى مقر 23 مارس، وفي باب المنزل وجدت أشخاصا منظرهم يبعث الرعب في النفوس، أحدهم يتصفح مجلة الحرية والآخر مجلة الهدف، وقع في يدي ولم أجد ما أقول، فجاء أحدهم من خارج البناية وضع (المينوت) الحديدي في يدي ونادى سيارة أجرة وذهب بي إلى مركز الشرطة المشهور المسمى المعارف ولما وصلنا رفض سائق الطاكسي أن يتسلم منه أجرته، ظنا منه أنني من عتاة المجرمين رغم أن مظهري يوحي بعدم قدرتي إداء بعوضة.. ولله في خلقه شؤون.
تحياتي لكل رفاقي الذين عشت معهم معاناة المعتقل والسجن. وسلاما لأرواح الذين غادرونا وذهبوا في رحلتهم الأبدية.. وهذه أيامنا تداولنا وسنستمر رافعين رؤوسنا دوما لن نستسلم وسنصمد حتى النهاية..
************
*=* مواصلة الحكي *=*
لما أدخلت كوميسارية المعاريف، أبصرت الآلة الكاتبة "أوليفتي" حبيبتي التي نسجت معها علاقة مودة، كيف لا وهي لا تطاوع أي شخص آخر حاول الاقتراب منها، تصبح حرونة وعصية. ولهذه الآلة حكاية، فحين استعاد تنظيم ب، والذي أصبح 23 مارس، عافيته وجمع شتاته بعد اعتقالات 1972، والتي أفلتت منها بمحض الصدفة. فقد كنت أقيم بمنزل يقع في زنقة أكادير كان هو مقر اجتماعات التنظيم ب وكانت به آلة كاتبة أطبع عليها نشرات وبيانات التنظيم وتعميماته، وكانت المكلفة بالمبنى الذي يضم عدة منازل والمكون من طبقين. سيدة إسبانية هي التي تتسلم واجب الكراء الشهري من السكان، ومن حسن حظي أنها لا تستطيع التفاهم بغير الاسبانية وقليلا من الكلمات الفرنسية، والمنزل كان مكتريا باسم أحد أصدقاء الرفيق محمد السمهاري ـ القايد ـ والسمهاري هو الذي كان يسلمها واجب الكراء والوحيد الذي يتفاهم معها بقليل من الكلمات والكثير من الإشارات. وفي أسفل المبنى كان يوجد محلا لبيع المواد الغذائية، ينتمي صاحبه لجنوب المغرب، نسجنا معه علاقة صداقة نأخذ منه كل ما نحن في حاجة إليه من مواد غذائية وغيرها، كان إنسانا طيبا كأغلب هذه الشريحة من تجار المواد الغذائية أصحاب الحوانيت الصغيرة الذين يتعاملون بثقة وحسن نية، وكثيرا ما ذهبوا ضحية هذه الثقة أدت ببعضهم إلى الإفلاس.
في اليوم الذي وصلنا خبر الاعتقالات كان لي موعدا مع الرفيق المعطي ـ أسيدون ـ والذي صنع طابعة خاصة كان سيأخذني لأطلع عليها ويجد وسيلة كي أقيم بمنزل والدته والذي قرر أن يصبح مقرا للجنة الطبع والنشر التي تضمني أنا وإياه. ابتعدت عن الاقتراب من زنقة أكادير وبقيت على اتصال مع الرفيق السمهاري والذي أخبره صاحب الحانوت الذي ذكرته آنفا بأن الشرطة جاءت المنزل وسألته إن كان يعرف الأشخاص الذين يترددون عليه أو الذي يقيم فيه، لأنهم لم يستطيعوا التفاهم مع الاسبانية التي كانت تشير إليهم أن من يقيم في المنزل شخصا قصيرا طبعا لا تعرف الاسم ولم تستطع إكمال بقية الصفات.
بعد هذه الاعتقالات، غادرت مدينة الدار البيضاء وتابعت الأحداث عن طريق الصحافة والإذاعات الخارجية وبقيت على اتصال بالرفيق السمهاري عن طريق المراسلة إلى أن هدأت الأحوال فطلب مني العودة للبيضاء والالتحاق بالتنظيم. ولما عدت كان أول من استقبلني محمد الكرفاتي الذي كان مشرفا على التنظيم آنذاك وقد كان متابعا لأن اسمه ورد في تحقيقات الشرطة، والكرفاتي من شرق المغرب طويل القامة قسمات وجهه توحي بالصرامة وقوة الانضباط، ولكن حين تعاشره وتقترب منه تجده إنسانا لطيفا بشوشا طيب المعشر.. أول ما استقبلني، وأنا أراه لأول مرة، بدأ يوجه لي نقدا حادا مؤداه أنني ذهبت وتركت التنظيم وهو في حاجة إلي، طبعا هو يعرف أن سبب غيابي هو حملة الاعتقالات واضطرار العديد من الرفاق إلى الاختفاء والتواري عن الأنظار.. طبعا أنا لم أجبه بقيت صامتا أتأمل شخصيته وأفكر في كلامه ونقذه الحاد. بعد ذلك أخذني إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الرفيق الشهيد عبد السلام المؤذن حيث عقدنا اجتماعا حُددت فيه مهامنا حيث أصبحنا مكلفين بإعداد وطبع كل ما يتعلق بالتنظيم سواء منها النشرات الداخلية والتوجيهات والتعميمات التنظيمية، أو النشرات الموجهة للعموم والتي تعكس رأي التنظيم في الأحداث الوطنية والعربية والدولية. ومنها جاءت الحاجة إلى آلة كاتبة حديثة. فذهبت أنا والرفيق رشيد فكاك إلى شارع محمد الخامس وقصدنا محلات بيع آلات الكتابة والطباعة، فاشترينا آلة من نوع أوليفتي وهي من مصنع إيطالي، على ما أتذكر، وكان ثمنها آنذاك 1500 درهم وهو مبلغ مرتفع بالنسبة لنا آنذاك، على هذه الآلة التي صادرتها شرطة القمع، من بين ما صادرت، تم رقن النشرات الداخلية للتنظيم "الانطلاقة الثورية" ومطبوعات عدة، والعدد الأول والثاني من إلى الأمام وكراسات عديدة لم أعد أتذكر اسمها. وبها كنت أطبع جريدة 23 مارس وبواسطتها طبعت منشور النقابة الوطنية للتلاميذ الذي وزع في الدار البيضاء تضامنا مع المناضلة فاطنه بيه، ومنشورات الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين، وقد كان المرحوم الرفيق الموذن يجلب أوراق الطبع من محلات درب عمر في شاحنة صغيرة.. وهنا لا بد أن أحكي طرفة حدثت في أحد الأيام. كانت أمي حليمة أم الرفيق الموذن لازالت تقيم مع المرحوم زوجها وأولادها في قلعة السراغنة وقد اضطرت للمجيء للدار البيضاء هي والمرحوم زوجها لزيارة الطبيب، وطبعا ستجيء لمنزل ابنها وتصادف مجيئها مع الإعلان عن الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين وكنت طيلة اليوم منهمكا في طبع آلاف المناشير على ألة الرونيو ولما وصلوا للمنزل اضطررت أن أتوقف عن الطبع وانتظرت حتى خلودهم للنوم لأستأنف عملية الطبع مغلقا باب المنزل حتى لا يسمع صوت الآلة، وكان رشيد فكاك هو المكلف بأخذ المناشير وتسليمها لمن يوصلها للجامعة بالرباط، يتردد على المنزل حاملا حقيبة كبرى يملؤها بالمناشر.. في الصباح سمعت أم حليمة تقول للمرحوم زوجها: "الطوبات ما خلاونيش ننعس الليل كلو وهما يحفرو".. "وواحد الولد داخل خارج بشاكوشو".
حكايتي مع أوليفتي من هنا بدأت ولن تنتهي.. وللحكاية بقية.. وأعتذر إن لوحظ أي ارتباك أو تفكك في ربط الأحداث أو أخطاء لغوية أو نحوية.
مع تحياتي لكل رفاقي الذين قاسموني هذه التجربة الجميلة والغنية
ملاحظة
وأنا أحاول نبش ما بقي عالقا في الذاكرة من تجربة الاعتقال والاضرابات عن الطعام التي خضناها مجموعة ومتفرقة، والتي تكاد تتعدى 80 يوما إن لم تكن أكثر.. تذكرت معاناة الأمهات والزوجات والنضال البطولي الذي خضناهن من أجل إنقاذ حياة المعتقلين وإيصال قضيتهم إلى الرأي العام الوطني والدولي. أنا والدتي كانت متوفية قبل الاعتقال، ولكني عرفت الكثير من أمهات رفاقي أصبحن في منزلة أمي. من بين الأمهات، من لم يسافرن خارج مقر سكناهن ومنهن من لم يسبق لهن أن عرفن حتى المنطقة التي يسكنها.. ففرضت عليهن ظروف إعتقال أبنائهن الخروج من منازلهن وركوب الحافلة والسفر لمسافات بعيدة والمبيت خارج منازلهن والبقاء في الشارع أحيانا أياما وليالي، وأصبحن محاورات ومدافعات شرسات عن حقوق أبنائهن وقضيتهم العادلة، ويفرقن بين التناقض الأساسي والتناقض الثانوي، وكن يواجهن المسؤولين بقوتهن ووحدتهن وصمودهن ووعيهن بما هو أساسي في نضالهن.. تحية لأمهاتنا العظيمات منهن من انتقل إلى دار البقاء ومنهن من لا زلن يكابدبن معاناتهن.. تحية لروح أمي عائشة والدة رفيقنا المرحوم مداد ولروح أم زعزاع ومصطفى نفلوس، ولروح أمي فاطمة السملالي التي كان منزلها مقرا ومستقرا لكل الأمهات والزوجات القادمات من كل أنحاء الوطن، وتحية كذلك لروح أم الرفيق الأزهر والرفيق بنشقرون وكل الأمهات العظيمات.. ولا أنسى والدة الرفيق الشهيد عبد السلام الموذن، التي كانت تعتبرني من أحد أبنائها والتي شملتني بعطفها وفيض حنانها، أوجه لها أخلص التحيات وأصدقها وأتمنى أن تكون بخير وأن يمد الله في عمرها..
وتحية لروح المناضلة ثورية السقاط الشاعرة والمكافحة، زوجة قائد مناضل ووالدة مناضلات ومناضلين من أجل وطن جميل خال من القمع والاضطهاد، وطن المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة والديمقراطية الحقيقية
**********
*=* عدت يا يوم اعتقالي وهو يوم مولدي حقيقة *=*
في مثل هذا اليوم من سنة 1974 وكان نهار سبت مشمس وحار، شبيه بخريفنا هذا، شديد الحرارة وبلا أمطار، تنتشر الأمراض وتنتقل بسرعة، ويعلوا الحزن والكآبة وجوه الفلاحين وهم يرون حيواناتهم جوعى وعطشى، بسبب انعدام الكلأ وشحة المياه.
في مثل هذا اليوم من سنة 1974 وحوالي الساعة الواحدة زوالا تم اعتقالي من مقر اللجنة التقنية التي كانت تسهر على إعداد وثائق ومنشورات منظمة 23 مارس وخاصة النشرة المعروفة بنفس الاسم والتي كنا نطبع منها آلاف النسخ وقد كنت أنا والرفيق محمد الغريسي المنوطة بنا هذه العملية، أقوم برقن المواد على الآلة الكاتبة وتصحيحها وبعد ذلك تتم عملية الطبع بواسطة طبيعة يدوية (الرونيو) وبعد الطبع ترتيب الصفحات وتجميعها (بالكرافوز) ليخرج العد للتوزيع في المدن المغربية . المكان الذي تتم فيه هذه العملية كان عبارة عن منزل يقع في أكبر شارع وأجمله آنذاك، شارع الزرقطوني، وفي البناية كانت تسكن، على ما أتذكر، عائلتان; عائلة أوربية وعائلة مغربية، لهذا كان بعيدا عن أنظار الفضوليين، وكنا حين نشرع في العمل نطلق صوت الموسيقى بشكل مرتفع حتى لا يسمع صوت آلة الرقن أو الرنيو.
انطلقت الاعتقالات ليلة الجمعة 1 نوفمبر بعد أن اضطر الكرفاتي للاعتراف بحقيقة هويته حتى لا تلصق به تهمة سارق لأنه اعتقل ممتطيا دراجة نارية بدون أوراق. من هنا ابتدأت الكارثة.
جئت للمقر لأستطلع الأمر لأني كنت في قرارة نفسي متوجسا من أن هناك شيئا ما سيقع لذلك ذهبت ليلة الجمعة للمبيت لدى أحد معارفي بقرية الجماعة. وفي صباح السبت حين عدت للمنزل الذي أقيم فيه مع الرفيق الشهيد عبد السلام الموذن والرفيقان علال الأزهر وعبد العالي بنشقرون والذي يقع في كراج علال عمارة رزق، لاحظت نوافذ الشقة مغلقة على غير العادة وسيارة شرطة متوقفة بباب العمارة والحارس يدخل ويخرج بشكل مرتبك، طبعا كنت واقفا في مكان بعيد شيئا ما يصعب عليه رؤيتي لأنه كان ضعيف البصر، من هنا حدست أن الأمر ليس عاديا وأن هناك شيئا ما وقع، فاتجهت إلى شارع الزرقطوني من كراج علال مشيا على الأقدام وأنا بدون وعي وعاجزا عن أي تفكير فساقتني قدمايا إلى مقر 23 مارس، وفي باب المنزل وجدت أشخاصا منظرهم يبعث الرعب في النفوس، أحدهم يتصفح مجلة الحرية والآخر مجلة الهدف، وقع في يدي ولم أجد ما أقول، فجاء أحدهم من خارج البناية وضع (المينوت) الحديدي في يدي ونادى سيارة أجرة وذهب بي إلى مركز الشرطة المشهور المسمى المعارف ولما وصلنا رفض سائق الطاكسي أن يتسلم منه أجرته، ظنا منه أنني من عتاة المجرمين رغم أن مظهري يوحي بعدم قدرتي إداء بعوضة.. ولله في خلقه شؤون.
تحياتي لكل رفاقي الذين عشت معهم معاناة المعتقل والسجن. وسلاما لأرواح الذين غادرونا وذهبوا في رحلتهم الأبدية.. وهذه أيامنا تداولنا وسنستمر رافعين رؤوسنا دوما لن نستسلم وسنصمد حتى النهاية..
************
*=* مواصلة الحكي *=*
لما أدخلت كوميسارية المعاريف، أبصرت الآلة الكاتبة "أوليفتي" حبيبتي التي نسجت معها علاقة مودة، كيف لا وهي لا تطاوع أي شخص آخر حاول الاقتراب منها، تصبح حرونة وعصية. ولهذه الآلة حكاية، فحين استعاد تنظيم ب، والذي أصبح 23 مارس، عافيته وجمع شتاته بعد اعتقالات 1972، والتي أفلتت منها بمحض الصدفة. فقد كنت أقيم بمنزل يقع في زنقة أكادير كان هو مقر اجتماعات التنظيم ب وكانت به آلة كاتبة أطبع عليها نشرات وبيانات التنظيم وتعميماته، وكانت المكلفة بالمبنى الذي يضم عدة منازل والمكون من طبقين. سيدة إسبانية هي التي تتسلم واجب الكراء الشهري من السكان، ومن حسن حظي أنها لا تستطيع التفاهم بغير الاسبانية وقليلا من الكلمات الفرنسية، والمنزل كان مكتريا باسم أحد أصدقاء الرفيق محمد السمهاري ـ القايد ـ والسمهاري هو الذي كان يسلمها واجب الكراء والوحيد الذي يتفاهم معها بقليل من الكلمات والكثير من الإشارات. وفي أسفل المبنى كان يوجد محلا لبيع المواد الغذائية، ينتمي صاحبه لجنوب المغرب، نسجنا معه علاقة صداقة نأخذ منه كل ما نحن في حاجة إليه من مواد غذائية وغيرها، كان إنسانا طيبا كأغلب هذه الشريحة من تجار المواد الغذائية أصحاب الحوانيت الصغيرة الذين يتعاملون بثقة وحسن نية، وكثيرا ما ذهبوا ضحية هذه الثقة أدت ببعضهم إلى الإفلاس.
في اليوم الذي وصلنا خبر الاعتقالات كان لي موعدا مع الرفيق المعطي ـ أسيدون ـ والذي صنع طابعة خاصة كان سيأخذني لأطلع عليها ويجد وسيلة كي أقيم بمنزل والدته والذي قرر أن يصبح مقرا للجنة الطبع والنشر التي تضمني أنا وإياه. ابتعدت عن الاقتراب من زنقة أكادير وبقيت على اتصال مع الرفيق السمهاري والذي أخبره صاحب الحانوت الذي ذكرته آنفا بأن الشرطة جاءت المنزل وسألته إن كان يعرف الأشخاص الذين يترددون عليه أو الذي يقيم فيه، لأنهم لم يستطيعوا التفاهم مع الاسبانية التي كانت تشير إليهم أن من يقيم في المنزل شخصا قصيرا طبعا لا تعرف الاسم ولم تستطع إكمال بقية الصفات.
بعد هذه الاعتقالات، غادرت مدينة الدار البيضاء وتابعت الأحداث عن طريق الصحافة والإذاعات الخارجية وبقيت على اتصال بالرفيق السمهاري عن طريق المراسلة إلى أن هدأت الأحوال فطلب مني العودة للبيضاء والالتحاق بالتنظيم. ولما عدت كان أول من استقبلني محمد الكرفاتي الذي كان مشرفا على التنظيم آنذاك وقد كان متابعا لأن اسمه ورد في تحقيقات الشرطة، والكرفاتي من شرق المغرب طويل القامة قسمات وجهه توحي بالصرامة وقوة الانضباط، ولكن حين تعاشره وتقترب منه تجده إنسانا لطيفا بشوشا طيب المعشر.. أول ما استقبلني، وأنا أراه لأول مرة، بدأ يوجه لي نقدا حادا مؤداه أنني ذهبت وتركت التنظيم وهو في حاجة إلي، طبعا هو يعرف أن سبب غيابي هو حملة الاعتقالات واضطرار العديد من الرفاق إلى الاختفاء والتواري عن الأنظار.. طبعا أنا لم أجبه بقيت صامتا أتأمل شخصيته وأفكر في كلامه ونقذه الحاد. بعد ذلك أخذني إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الرفيق الشهيد عبد السلام المؤذن حيث عقدنا اجتماعا حُددت فيه مهامنا حيث أصبحنا مكلفين بإعداد وطبع كل ما يتعلق بالتنظيم سواء منها النشرات الداخلية والتوجيهات والتعميمات التنظيمية، أو النشرات الموجهة للعموم والتي تعكس رأي التنظيم في الأحداث الوطنية والعربية والدولية. ومنها جاءت الحاجة إلى آلة كاتبة حديثة. فذهبت أنا والرفيق رشيد فكاك إلى شارع محمد الخامس وقصدنا محلات بيع آلات الكتابة والطباعة، فاشترينا آلة من نوع أوليفتي وهي من مصنع إيطالي، على ما أتذكر، وكان ثمنها آنذاك 1500 درهم وهو مبلغ مرتفع بالنسبة لنا آنذاك، على هذه الآلة التي صادرتها شرطة القمع، من بين ما صادرت، تم رقن النشرات الداخلية للتنظيم "الانطلاقة الثورية" ومطبوعات عدة، والعدد الأول والثاني من إلى الأمام وكراسات عديدة لم أعد أتذكر اسمها. وبها كنت أطبع جريدة 23 مارس وبواسطتها طبعت منشور النقابة الوطنية للتلاميذ الذي وزع في الدار البيضاء تضامنا مع المناضلة فاطنه بيه، ومنشورات الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين، وقد كان المرحوم الرفيق الموذن يجلب أوراق الطبع من محلات درب عمر في شاحنة صغيرة.. وهنا لا بد أن أحكي طرفة حدثت في أحد الأيام. كانت أمي حليمة أم الرفيق الموذن لازالت تقيم مع المرحوم زوجها وأولادها في قلعة السراغنة وقد اضطرت للمجيء للدار البيضاء هي والمرحوم زوجها لزيارة الطبيب، وطبعا ستجيء لمنزل ابنها وتصادف مجيئها مع الإعلان عن الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين وكنت طيلة اليوم منهمكا في طبع آلاف المناشير على ألة الرونيو ولما وصلوا للمنزل اضطررت أن أتوقف عن الطبع وانتظرت حتى خلودهم للنوم لأستأنف عملية الطبع مغلقا باب المنزل حتى لا يسمع صوت الآلة، وكان رشيد فكاك هو المكلف بأخذ المناشير وتسليمها لمن يوصلها للجامعة بالرباط، يتردد على المنزل حاملا حقيبة كبرى يملؤها بالمناشر.. في الصباح سمعت أم حليمة تقول للمرحوم زوجها: "الطوبات ما خلاونيش ننعس الليل كلو وهما يحفرو".. "وواحد الولد داخل خارج بشاكوشو".
حكايتي مع أوليفتي من هنا بدأت ولن تنتهي.. وللحكاية بقية.. وأعتذر إن لوحظ أي ارتباك أو تفكك في ربط الأحداث أو أخطاء لغوية أو نحوية.
مع تحياتي لكل رفاقي الذين قاسموني هذه التجربة الجميلة والغنية
ملاحظة
أصدرت قيادة المنظمة بسجن غبيلا أولى القرارات التنظيمية وعلى رأسها اعتبار محمد الكرفاتي ورشيد الفكاك خائنين وهما قياديين سابقين لمنظمة "23 مارس" لعبا دورا خطيرا في تلك الإعتقالات. كما تم توقيف كل من عبد الله زعزاع و مصطفى التمسماني وهما عضوان بمنظمة "إلى الأمام".
فيما بعد اتخذت قرارات توقيف أو تجميد من العضوية لكل من المشتري بلعباس وعبد الفتاح الفاكهاني و عبد الله زعزاع و عبد الله المنصوري ...
و اتخذ قرار الطرد في حق مصطفى فزوان .
و اتخذ قرار الطرد في حق مصطفى فزوان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق