ولد القابلة من الخميسات الى درب مولاي شريف
نقش على جدران الزنازين
مذكرات الاعتقال السياسي ولد القابلة
اعتقلت على يد الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بمساعدة أشخاص تابعين للأمن بمدينة الخميسات والقنيطرة. في أحد الأيام الخريفية بالخميسات استدعاني مدير ثانوية موسى بن نصير ، حيث كنت أدرس الرياضيات ، لحضور اجتماع للمجلس التأديبي. بعد توديع المدير، وبمجرد وصولي إلى مخرج الثانوية، كان رجلان واقفين أمام الباب، يرتديان جلابيب صوفية وكانا منتصبين أمام الباب في وضعية تدعو إلى الاستغراب. عندما اقتربت منهما أتاني واحد عن اليمين والآخر عن الشمال إلى حد ملامستي. قال أحدهما ستأتي معنا خمس دقائق ثم تذهب حال سبيلك. وإذا بسيارة سوداء تستقر بجوارنا ويفتح بابها الخلفي، وكان بها شخصان، السائق وآخر مستقر بالمقعد الخلفي...دفعني الاثنان نحو الباب الخلفي المفتوح واستقر أحدها بجانبي والثاني المقعد الأمامي وانطلقت السيارة بسرعة البرق..خيم السكون على النظرات وكانت الأنفاس تسمع بوضوح غريب غير معتاد رغم ضجيج محرك السيارة..وقطع هذا السكون صوت أحد رجال الحال الغلاظ، وكانوا كلهم أقوياء البينة أجسامهم ضخمة أكثر من اللازم.
هل أنت فلان.
أنتم عارفون أنني هو أنا فلماذا السؤال؟
نطق السائق: راسو سخون هذا...دابا نشوفو واش غادي يبرد ولا لا ؟
قالها وهم بلكمي لكمة مباشرة إلى الوجه اصابت جبهتي فتألم، فهم الجالس على يمني بدوره للكمي فأوقفه المستقر على يساري قائلا:
" باركا..سوف تثيرون الانتباه، إنه معروف في الثانوية وفي المدينة.
أنتم عارفون أنني هو أنا فلماذا السؤال؟
نطق السائق: راسو سخون هذا...دابا نشوفو واش غادي يبرد ولا لا ؟
قالها وهم بلكمي لكمة مباشرة إلى الوجه اصابت جبهتي فتألم، فهم الجالس على يمني بدوره للكمي فأوقفه المستقر على يساري قائلا:
" باركا..سوف تثيرون الانتباه، إنه معروف في الثانوية وفي المدينة.
" أين تأخذونني قلتها وأنا هادئ بمكاني دون حركة...ساد صمت ثم نطقت الكتلة اللحمية الضخمة التي كانت تنازعني جزءا من المقعد الخلفي.
لا علم لنا....قالوا لنا جيبوه فين ما كان وصافي...هذا كل ما في الأمر.
وما أن ولجت السيارة باب الكوميسارية حتى تحولت الكتلة اللحمية الضخمة إلى كائن آخر غير ذلك الذي كلمني بلطف منذ قليل، فشرع في السب والشتم والإهانة.
تم اختطافي إذا واقتيادي إلى مخفر الشرطة بالخميسات وأودعت بمكتب دون أن يكلمني أحد رغم وجود رجال الحال بكثرة غير معتادة، وكلما سألت أحدهم كان الجواب واحدا:" عندهم ستعرف كل شيء..، وكان نفس الشخص هو الذي يجيبني في كل مرة، إنه أكبرهم سنا، أما الآخرون فلم ينبس أحدهم ببنت شفة ولو مرة واحدة.
حضر أحد رجال الأمن بلباس مدنس، أصدر أوامره لأحد الحاضرين فأخذوني مرة ثانية إلى السيارة تحت جنح الظلام..ركبت بالمقعد الخلفي محاطا بشخصين غير اللذين تكلفا باستقبالي أمم باب الثانوية..تحركت السيارة فتبعتها أخرى..بعد لحظة قصيرة أيقنت أنهم يتوجهون إلى مقر إقامتي بالخميسات لا محالة للتفتيش.
أين هي غرفتك ؟....أشرت إليها صامتا.
افتحها سنقوم بتفتيشها..وقلت لهم: هل لديكم أمر رسمي بذلك..قبل أن أنهي كلامي صفعني أحدهم...أراد إعادة الكرة فرفعت يدي المكبلتين لصده فانقض علي ثلاثة من الحاضرين..اتجهوا مباشرة إلى الركن الذي توجد فيه الكتب والأوراق واستمروا في تقليبها والعبث بها أكثر من ساعة...أخدوا بعض الكتب والأوراق المرقونة والمخطوطات من ضمنها أعداد من نشرة ّ إلى الأمام " ونشرة " الشعلة " وهو منبر خاص بالنقابة الوطنية للتلاميذ آنذاك وبعض أعداد نشرة " الوحدة " وهي نشرة داخلية لمنظمة " إلى الأمام" تعنى بالتنسيق مع فصائل الحركة الماركسية اللينينية المغربية..وفي كل مرة كان يعثر أحدهم على وثيقة مهمة كان يسألني:" هذا أشنو "؟ لكنني أدركت عقم المناقشة والرد وفضلت الصمت، وكلما استمر صمتي زاد غيظ رجال الحال وكثرت توعداهم....وعلمت هول ما ينتظرني وحاولت جاهدا لأستعد نفسيا باستحضار تعليمات كتيب " كيف تواجه القمع البوليسي ؟" الذي كان أعده الرفيق عبد الرحمان نودا والذي كان مثالا رائعا في الصمود بدرب مولاي الشريف.
**********
قضيت الليلة الأولى بمخفر الشرطة بالخميسات، بزنزانة ضيقة مظلمة ومبتلة على الدوام من جراء جريان صنبور معطل. في اليوم الموالي صباحا شاهدت من كوة باب الزنزانة أحد الجلادين، قصير القامة ذميم الوجه، ملامحه لا تبعث على الارتياح بتاتا، آتيا بحقيبتين...حبال. يلقي بمحتواهما على الأرض..حبال .أسلاك. ...قماش وسياط " العصبة " في ساحة المخفر على مرأى عيون ثلة من البشر، ضيوف كوميسارية الخميسات ذلك اليوم...أخرجوني من الزنزانة وأوقفوني في الصف الأول لمعاينة المنظر المرهب عندما هم الجلاد بمناداة أول ضحاياه.
صفعة وركلة..." لا تريد أن تتكلم ...سوف ترى...آنذاك حضر أحد المفتشين...شاب أنيق..أظن أنه المنصوري حارس مرمى الاتحاد الزموري للخميسات آنذاك..اقترب مني قائلا للجلاد:" هذا لا، ارجعوه إلى السيلون ".
وتابعت مشهد التعذيب من كوة باب الزنزانة الحديدي السميك...إنه كان آنذاك مشهدا يوميا لفرقة الاستنطاق بكوميسارية الخميسات. كانت خطة للترهيب والتخويف لا يفلت منها أحد، ما عدا القليل، أصحاب التدخلات والتدويرات. ما زالت عبارات الجلاد، قصير القامة ذميم الوجه، لاصقة بذاكرتي بالحرف الواحد:" الحفلة غادي تبدا..من الأحسن لي عندوا ما يقول خصوا يقولو وإلا غادي يرجع عندي باش نكرمو مزيان.."
...في حدود الساعة العاشرة من ذلك اليوم المشؤوم حضر أحد الضباط واقترب من الزنزانة وأمر الشرطي بفتح الباب...كبل يدي بالأصفاد ووضع عصابة سوداء على عيني وقادني إلى مكان لا أعلمه..إلى ذلك الحين يمكن وصف المعاملة التي عوملت بها بالقسوة والإهانة والدوس على الكرامة والسب السخيف وليس بالتعذيب رغم بعض الصفعات والدفعات هنا وهناك.
علاوة على عصابة العينين ألبسوني جلبابا فضفاضا فأحكموا قبه" على رأسي ثم أودعوني بالمقعد الخلفي لسيارة بين شخصين ، فانطلقت مسرعة لا أعرف إلى أين؟
بدأت تراودني أسئلة كثيرة. كيف وصلوا إلي ؟ عبر رفاق القنيطرة أو رفاق الرباط أو رفاق الدار البيضاء ؟..وإلى أين أنا منقاد؟ ....هل هو اعتقال أم اختطاف ؟
من " بيجي " القنيطرة إلى درب مولاي الشريف.
أخرجوني من زنزانة مخفر الشرطة بالخميسات وألبسوني جلبابا صوفيا بعد أن عصبوا عيني وقيدوني، ثم أحكموا القب على رأسي وأودعوني سيارة صغيرة بين شخصين ضخمي البنية وكان عمري آنذاك 22 سنة.
بعد مدة من السير ، بين الساعتين والساعتين والنصف توقفت السيارة وسمعت السائق يتكلم مع أحد المارة سائلا إياه عن " البيجي " في تلك اللحظة بالذات وصلت إلى أنفي رائحة مألوفة لدي، كنت أشمها منذ طفولتي ، إنها رائحة نهر سبو ، فعلمت أنني بالقنيطرة. قال السائق لذلك الشخص:
" أجي ما تخافش..ابغينا نسولوك".
" أجي ما تخافش..ابغينا نسولوك".
لاشك أن ذلك الشخص تملكه الرعب عندما أبصرني بين الشخصين الضخمين مغطى الرأس لا أكاد أبان، ولا محالة أنه تعرف على راكبي السيارة وأيقن أنهم من أصحاب الحال، لأن أغلب رجال الحال ببلادنا لاسيما آنذاك، كانت سيماهم على وجوههم، فهم لا يستطيعون إخفاء صفتهم رغم أنهم ينعتون بالبوليس السري.
توقفت السيارة ولاحظت أن معاملة رجال الحال صارت أكثر خشونة..ربما كان أحد المسؤولين واقفا وأرادوا إظهار " حنة يدهم" وأنهم قائمون بالمطلوب وزيادة. كنا على عتبة مقر " البيجي " الكائن بشارع الاستقلال ، والذي هو حاليا بناية مخصصة لعيادة الدكتور السلجماسي وشقق للسكن، وهي مفارقة غريبة ....إن المكان الذي يستعمله الآن الدكتور للتخفيف عن آلام البشر كان بالأمس فضاء للتعذيب وإلحاق الأذى بهم...إنه مكان تلطخ أكثر من مرة بدماء المعتقلين في عهد الكوميسير الغنيمي والكوميسير الطرفاوي وزبانيتهما...وأشهر الجلادين آنذاك كان ملقبا " بالوحش" وكان لا يفقه إلا في التعذيب والرفس والركل...وقيل إنه كان مقاوما، وفعلا قاوم ضربا وتعذيبا وتنكيلا في المعتقلين الذين قضوا آنذاك مدة " بالبيجي" قبل نقلهم إلى درب مولاي الشريف...وإذا لم تخني الذاكرة فإنه كان ضمن فرقة الضابط جسوس آنذاك، وأجمع المعتقلون السياسيون، ضيوف " البيجي" على وصفه بالمتجهم النظرة تبدو عليه إمارات البغاء والغلظة.
أدخلوني على الضابط جسوس وهو محاط بزبانيته ومن ضمنهم " الوحش"، كان الضابط النحيل بامتياز يبدو لي كأنه قطعة من الحجرة الصماء الباردة الملامح لولا " شطحات " " الوحش" الذي ينط هنا وهناك لينتهي به الأمر إلى قلع معطفه وشمر على ساعديه، وما هي إلا لحظة حتى دارت الأسئلة سريعة متلاحقة اسمك..سنك...مهنتك...عنوانك....سوابقك...اخلع الحزام ورابطة الحذاء...اقلع النظارة...اعترضت على خلع النظارة لأنها كانت بالنسبة لي ضرورية..فهجم علي " الوحش" لكما وصفعا قائلا:" هذا راسو سخون...إنه لا يدري ماذا ينتظره ؟
لم أعد أذكر بالضبط المدة التي قضيتها ضيفا عند " البيجي «، لكنها كانت كلها حافلة بحصص التعذيب ولاسيما في القسط الأخير من الليل.
وجاء اليوم الموعود...نادوا علينا في الصباح وأخرجونا إلى الساحة أمام الزنازين، كبلوا أيدينا وساقونا نحو سيارة، داخلها كان يجلس اثنان من " السيمي " قرب الباب الخلفي...كنا عشرة ونيف...عصبوا أعيننا وانطلق المحرك نحو المجهول...حالة سيئة من الخوف كانت تركبنا..كنا نجلس القرفصاء صفر الوجوه ناكسي الرؤوس.
قبل أن يضعوا " البانضة " على عيني رأيت عناصر " السيمي " وهم ينظرون إلينا نظرة مليئة بالشفقة والرثاء العميق لأنهم كانوا يعلمون علم اليقين " أين نحن ذاهبون " ويعرفون حق المعرفة أن درب مولاي الشريف هو فضاء للعذاب والتنكيل، ولعل هذه آثار الشفقة في قلوب بعضهم رغم التظاهر بالتحجر الشديد والقسوة التي كانوا يتعاملون بها معنا.
كنا مكدسين في السيارة كتلة واحدة يوحدنا الألام والإرهاب الشديد الموجه ضدنا..بعد برهة من الصمت ، عندما انطلقت السيارة نطق أحد السيمي " لإلقاء التحذير الأول والأخير : من يفتح شفتيه بكلمة سيكون مصيره الضرب دون رحمة ولا شفقة .
وبعد حوالي ساعتين ونيف من السير، انطلقت خلالها السيارة مخترقة مدينة القنيطرة ثم سلا فالرباط...تقف تارة وتسرع أخرى...لا محالة أن أناسا شاهدونا لكن دون أن يعلموا أن السيارة الموبوءة تحمل في جوفها منكوبين مختطفين مقتادين إلى حيث لا يدرون..لا هم ولا ذويهم.
وبعد حوالي ساعتين ونيف من السير، انطلقت خلالها السيارة مخترقة مدينة القنيطرة ثم سلا فالرباط...تقف تارة وتسرع أخرى...لا محالة أن أناسا شاهدونا لكن دون أن يعلموا أن السيارة الموبوءة تحمل في جوفها منكوبين مختطفين مقتادين إلى حيث لا يدرون..لا هم ولا ذويهم.
وقفت السيارة. في تلك اللحظة تجمد الزمن في ذهني من الخوف...أمرونا بالوقوف فلم أكد أسمع إلا صدى الخطوات وصوت الأصفاد التي تكبل الأيدي..نزلنا الواحد تلو الآخر ونحن نتعثر..صعدنا أدراجا معدودة وبمجرد ولوجنا الباب أوقفونا الواحد جنب الآخر ووجوهنا إلى الحائط..وبدأ الصراخ والسباب والأوامر والأوامر المضادة والتهديدات والوعيد...وصلنا إلى درب مولاي الشريف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق