الشريط المغربي أحمد بولان «علي وربيعة والآخرون»عن اعتقالات السبيعينات بالمغرب
الشريط المغربي أحمد بولان «علي وربيعة والآخرون» شخصياته كائنات مجتثة من محيطها الاجتماعي
عن الجريدة الالكترونية الشرق الاوسط
الرباط : لطيفة العروسني
منذ المشهد الاول لشريط «علي وربيعة والآخرون» لمخرجه احمد بولان الذي افتتح به الموسم السينمائي المغربي، تشاهد احداث شريط سياسي تعود بك احداثه الى سنوات السبعينات : داخل مركز للشرطة يتم استنطاق احد الشبان «ادريس»، فيعترف بسهولة ويدل الشرطة على اسم ومنزل زميله «علي» باعتباره متزعم مجموعة من الشبان المتهمين بتوزيع منشورات سياسية، وبعد مطاردة عنيفة «هوليوودية» على الطريقة المغربية فوق اسطح المنازل القديمة يسقط «علي» في يد الشرطة ويتم اعتقاله. ثم يعود بك الشريط الى الوراء لسرد تفاصيل درامية عن واقع اربعة اصدقاء (علي و ادريس وحميد وعبد الله) يمثلون واقع جيل كامل من الشباب المغربي الذي عاش في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب السياسي، والتي ساهمت بشكل من الاشكال في تشكيل وعيه الثقافي، متأثرا بفلسفات ونظريات ثورية كانت سائدة آنذاك على المستوى العالمي في اوساط الشباب: النظرية الماركسية ومفهوم الصراع الطبقي، وشعارها الشهير «الدين افيون الشعوب»، آرنستو تشي جيفارا احدرموز النضال اليساري، ظاهرة الهيبيس غيرها من الطروحات والآيديولوجيات التي كانت تقود الشباب نحو التمرد. يصور الشريط النموذج المغربي لهؤلاء الشباب: اربعة شبان وفتاة (ربيعة) يجتمعون في غرفة داخل احد البيوت يوحد بينهم الفقر والمخدرات والكحول والجنس والموسيقى وقليل من السياسة. شباب ضائع ومحبط، متمرد على السلطة وعلى القيم الاخلاقية، تدور بينهم حوارات متقطعة، غير مركزة وخالية من اي عمق او رؤية واضحة لما يجري حولهم، وربما يكون المخرج قد تعمد ذلك حتى لا يسقط في فخ المباشرة والشعارات السياسية، وترك للمشاهد ان يتصور قناعات هؤلاء الشباب استنادا الى خلفيته التاريخية ومرجعيته السياسية عن هذه المرحلة من تاريخ المغرب حيث كانت السلطة لا تمثل سوى رمز من رموز القمع. الا ان الشريط لم يشر تماما الى الظروف التي كان يعيشها هؤلاء والتي دفعتهم الى هذا المسار، فهو يصورهم عبارة عن كائنات «مجتثة» من محيطها الاجتماعي «الاسري»، لا نعرف عنها شيئا، ولذا لا يمكنك ان تتعاطف لا مع علي ور بيعة ولا مع الآخرين.بعد عشرين عاما قضاها «علي» الذي يجسد دوره المطرب والممثل يونس مكري، في المعتقل، يخرج من السجن فلا يجد سوى منزل ربيعة كملجأ، لأنها الوحيدة التي دأبت على زيارته من حين لآخر وهو في السجن. ربيعة هذه التي تؤدي دورها الممثلة الفلسطينية هيام عباس شخصية سلبية غير مؤثرة لم تكن سوى موضوع جنسي بين الاصدقاء الاربعة. ونتيجة لذلك لديها ابنة غير شرعية (الممثلة سامية اقريو)، تجهل من يكون والدها، واوهمت ابنتها ان والدها مات وهي طفلة. الا ان عودة علي ستكون سببا في نبش الماضي من جديد، وتنكشف الحقيقة للابنة التي ستقبل الامر باستسلام، وستحرص على استمرار علاقة «علي» بوالدتها، وتقترح عليها ان تتزوجه كنوع من التعويض عن والدها المجهول.
وبحثا عن مورد للرزق لا يجد «علي» بديلا عن صيد السمك، تلك الهواية التي عشقها منذ الطفولة، وسيجد متعة كبيرة في ذلك ربما لانها المهنة الوحيدة التي يستطيع ان يمارسها بحرية مطلقة من دون ان يكون مجبرا على الدخول في علاقات متشابكة او مواجهة مع اي احد.
من الطبيعي ان يسأل «علي» بعد خروجه من السجن عن مصير اصدقائه الآخرين، وما هو الطريق الذي سلكه كل واحد منهم بعد اعتقاله، وكيف يعيشون الان بعد عشرين عاما؟
«عبدالله» الممثل حسن الفذ، ينتهي الى مصير مأساوي، متشردا في ازقة الحي، شبه مجنون بفعل تأثير المخدرات، وفي مشهد دراماتيكي يجده ميتا في مزبلة ! يجسد منتهى العبث و التلاشي والمأساوية. «حميد» الممثل محمد المروازي يصبح مؤذنا في احد المساجد يختار التدين كنوع من الخلاص من ماضيه «الجاهلي» كما اسماه. لكنه ما زال يحتفظ في بيته بـ«الجيتار» التي كان يجيد العزف عليه اغاني «البيتلز» و«البينك فلويد». اما «ادريس» الممثل عمر الشرايبي الذي كان سببا في اعتقاله، فقد التقاه صدفة ودعاه الى منزله الفخم ليكتشف انه المستفيد الوحيد من الماضي بعد ان «كوفئ» جيدا، وقد برر خيانته له بأن السلطة كانت اقوى وانه اجبر على الاعتراف. عندما يغادر منزل صديقه القديم يتجه «علي» نحو قنطرة تطل على الوادي، فيقذف بنفسه في المياه، كأنه مشهد انتحار، الا انه سرعان ما يطفو فوق سطح المياه ويتجه سباحة نحو الضفة، هذا المشهد الاخير في الشريط يحمل اكثر من دلالة رمزية: مواجهة الحياة من جديد ومحاولة التخلص من آثارالماضي.
منذ المشهد الاول لشريط «علي وربيعة والآخرون» لمخرجه احمد بولان الذي افتتح به الموسم السينمائي المغربي، تشاهد احداث شريط سياسي تعود بك احداثه الى سنوات السبعينات : داخل مركز للشرطة يتم استنطاق احد الشبان «ادريس»، فيعترف بسهولة ويدل الشرطة على اسم ومنزل زميله «علي» باعتباره متزعم مجموعة من الشبان المتهمين بتوزيع منشورات سياسية، وبعد مطاردة عنيفة «هوليوودية» على الطريقة المغربية فوق اسطح المنازل القديمة يسقط «علي» في يد الشرطة ويتم اعتقاله. ثم يعود بك الشريط الى الوراء لسرد تفاصيل درامية عن واقع اربعة اصدقاء (علي و ادريس وحميد وعبد الله) يمثلون واقع جيل كامل من الشباب المغربي الذي عاش في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب السياسي، والتي ساهمت بشكل من الاشكال في تشكيل وعيه الثقافي، متأثرا بفلسفات ونظريات ثورية كانت سائدة آنذاك على المستوى العالمي في اوساط الشباب: النظرية الماركسية ومفهوم الصراع الطبقي، وشعارها الشهير «الدين افيون الشعوب»، آرنستو تشي جيفارا احدرموز النضال اليساري، ظاهرة الهيبيس غيرها من الطروحات والآيديولوجيات التي كانت تقود الشباب نحو التمرد. يصور الشريط النموذج المغربي لهؤلاء الشباب: اربعة شبان وفتاة (ربيعة) يجتمعون في غرفة داخل احد البيوت يوحد بينهم الفقر والمخدرات والكحول والجنس والموسيقى وقليل من السياسة. شباب ضائع ومحبط، متمرد على السلطة وعلى القيم الاخلاقية، تدور بينهم حوارات متقطعة، غير مركزة وخالية من اي عمق او رؤية واضحة لما يجري حولهم، وربما يكون المخرج قد تعمد ذلك حتى لا يسقط في فخ المباشرة والشعارات السياسية، وترك للمشاهد ان يتصور قناعات هؤلاء الشباب استنادا الى خلفيته التاريخية ومرجعيته السياسية عن هذه المرحلة من تاريخ المغرب حيث كانت السلطة لا تمثل سوى رمز من رموز القمع. الا ان الشريط لم يشر تماما الى الظروف التي كان يعيشها هؤلاء والتي دفعتهم الى هذا المسار، فهو يصورهم عبارة عن كائنات «مجتثة» من محيطها الاجتماعي «الاسري»، لا نعرف عنها شيئا، ولذا لا يمكنك ان تتعاطف لا مع علي ور بيعة ولا مع الآخرين.بعد عشرين عاما قضاها «علي» الذي يجسد دوره المطرب والممثل يونس مكري، في المعتقل، يخرج من السجن فلا يجد سوى منزل ربيعة كملجأ، لأنها الوحيدة التي دأبت على زيارته من حين لآخر وهو في السجن. ربيعة هذه التي تؤدي دورها الممثلة الفلسطينية هيام عباس شخصية سلبية غير مؤثرة لم تكن سوى موضوع جنسي بين الاصدقاء الاربعة. ونتيجة لذلك لديها ابنة غير شرعية (الممثلة سامية اقريو)، تجهل من يكون والدها، واوهمت ابنتها ان والدها مات وهي طفلة. الا ان عودة علي ستكون سببا في نبش الماضي من جديد، وتنكشف الحقيقة للابنة التي ستقبل الامر باستسلام، وستحرص على استمرار علاقة «علي» بوالدتها، وتقترح عليها ان تتزوجه كنوع من التعويض عن والدها المجهول.
وبحثا عن مورد للرزق لا يجد «علي» بديلا عن صيد السمك، تلك الهواية التي عشقها منذ الطفولة، وسيجد متعة كبيرة في ذلك ربما لانها المهنة الوحيدة التي يستطيع ان يمارسها بحرية مطلقة من دون ان يكون مجبرا على الدخول في علاقات متشابكة او مواجهة مع اي احد.
من الطبيعي ان يسأل «علي» بعد خروجه من السجن عن مصير اصدقائه الآخرين، وما هو الطريق الذي سلكه كل واحد منهم بعد اعتقاله، وكيف يعيشون الان بعد عشرين عاما؟
«عبدالله» الممثل حسن الفذ، ينتهي الى مصير مأساوي، متشردا في ازقة الحي، شبه مجنون بفعل تأثير المخدرات، وفي مشهد دراماتيكي يجده ميتا في مزبلة ! يجسد منتهى العبث و التلاشي والمأساوية. «حميد» الممثل محمد المروازي يصبح مؤذنا في احد المساجد يختار التدين كنوع من الخلاص من ماضيه «الجاهلي» كما اسماه. لكنه ما زال يحتفظ في بيته بـ«الجيتار» التي كان يجيد العزف عليه اغاني «البيتلز» و«البينك فلويد». اما «ادريس» الممثل عمر الشرايبي الذي كان سببا في اعتقاله، فقد التقاه صدفة ودعاه الى منزله الفخم ليكتشف انه المستفيد الوحيد من الماضي بعد ان «كوفئ» جيدا، وقد برر خيانته له بأن السلطة كانت اقوى وانه اجبر على الاعتراف. عندما يغادر منزل صديقه القديم يتجه «علي» نحو قنطرة تطل على الوادي، فيقذف بنفسه في المياه، كأنه مشهد انتحار، الا انه سرعان ما يطفو فوق سطح المياه ويتجه سباحة نحو الضفة، هذا المشهد الاخير في الشريط يحمل اكثر من دلالة رمزية: مواجهة الحياة من جديد ومحاولة التخلص من آثارالماضي.
السينما المغربية تنبش في ملفات «الاعتقال السياسي»عن الجريدة الالكترونية الشرق الاوسط
أفلام عن القمع والتعذيب لا تصل حد المحاكمة الصريحة
مصطفى المسناوي*
ولعل من المثير هنا ملاحظة أن الفيلم الوحيد الذي دخل في منافسة حقيقية مع «ذاكرة معتقلة» كان مغربيا بدوره، هو «الرحلة الكبرى» لإسماعيل الفروخي، الذي تخلصت منه لجنة التحكيم بإعطائه جائزة كبرى من نوع آخر، هي جائزة العمل السينمائي الأول. والواقع أن الفيلمين المذكورين يؤشران إلى اتجاهين رئيسين يهيمنان في الوقت الحالي على السينما المغربية: اتجاه يتناول مشكلة الهجرة وما تطرحه من توزع وجداني بين بلد الإقامة والوطن الأم (أفلام حكيم بلعباس ونور الدين الخماري وحسن لكزولي ورشيد بوتونس، مثلا)، واتجاه يتناول تجربة أو محنة الاعتقال السياسي كما خبرها العديد من المناضلين في ستينات القرن الماضي وسبعيناته بالخصوص. وهو أمر مفهوم تماما مادام المخرجون المغاربة ينقسمون اليوم بدورهم إلى فئتين: شابة، تعيش خارج الوطن، و«مخضرمة» تعيش داخله; لكن ما يبدو عصيا على الفهم حتى الآن أن تكون الفئة الأخيرة أكثر جرأة من الأولى وتذهب إلى حد تناول موضوعات شائكة مثل موضوع الاعتقال السياسي.يرجع ذلك إلى رغبة بعض السينمائيين في كسر جدار من الصمت تشكل من رقابة ذاتية ترفض الإعلان عن نفسها أكثر مما تشكل من رقابة أو ضغوطات خارجية.* مطلع الألفية انطلاقة المغامرة
* يحضر في الذهن هنا، وعلى وجه التحديد، أول شريط سينمائي تناول تجربة الاعتقال السياسي في المغرب وهو «منى صابر» الذي أخرجه عبد الحي العراقي عام 2001، أي ثلاث سنوات بعد تعيين المعارض والمنفي السابق عبد الرحمن اليوسفي رئيساً للوزراء، وسنتان بعد وفاة الملك الحسن الثاني. يروي الفيلم حكاية منى، التي تعرف يوم بلغت ربيعها الخامس والعشرين، أن الشخص الذي تقف أمام شاهد قبره لم يكن أباها الحقيقي، وأن والدها الفعلي مغربي، كان يدرس بفرنسا وذهب إلى بلده في إحدى العطل إلا أنه لم يعد بعد ذلك إلى أمها، واختفت آثاره تماماً. يثير الخبر فضول البنت فتقرر الذهاب إلى المغرب بحثا عن أبيها، ومن رحلة تبدأ من مدينتي الدارالبيضاء والرباط، وتنتهي جنوبا في مدينة الصويرة. تكتشف الفتاة أن أباها تعرض، مثل كثيرين غيره، للاعتقال وأنه اختفى (لعله قتل أثناء التعذيب) ولم يظهر له أثر. وينتهي الفيلم بمشهد يصور حشدا من الأشخاص يجلسون ليلا أمام باب أحد المعتقلات السياسية حاملين في أيديهم شموعا وصورا لمناضلين اختفوا في غياهب المعتقلات من دون أن يعرف شيء عن مصيرهم ( أو مختطفين مجهولي المصير، بتعبير شائع اليوم).وإذا كان يحسب لهذا الفيلم أنه كان سباقا إلى تناول موضوع شبه محرم، فإنه لم يستطع الإفلات، مع ذلك، من نظرة تبسيطية وساذجة في آن واحد، للواقع المغربي بوجه عام، كما لم يستطع التخلص من بعض الثوابت السردية التقليدية الموروثة عن السينما التجارية المصرية بالخصوص، حيث تحضر الراقصة (وهي راقصة شريفة طبعا، وبالضرورة) كشخصية محورية في بناء الفيلم. أليس عشيقها «المناضل» هو من يقف إلى جانب منى ويساعدها في تقفي آثار أبيها؟في فيلم «ألف شهر» (2003) لفوزي بنسعيدي، وهو أحد أجمل الأفلام المغربية التي أخرجت في السنوات الخمس الأخيرة، يحضر الاعتقال السياسي بقوة، لكن دون أن يعلن عن نفسه، من خلال الأب المدرس الذي غيب في السجن وأرغمت زوجته على حمل ابنهما الصغير والانتقال من المدينة إلى البادية للعيش في بيت صهرها، أب الزوج الذي يعيش وحيدا في قرية نائية تعاني من ويلات الجفاف.لم يكن حديث بنسعيدي الموارب عن تجربة الاعتقال السياسي وجعلها الموضوع الغائب ـ الحاضر الذي ينتظم السرد حوله نابعا من خوف أو من حذر بقدرما كان تعبيرا عن خيار جمالي يفضل التركيز بهدوء على جزيئات المعيش اليومي لأنها أقدر، في رأي المخرج، على نقل الإحساس بعمق المعاناة.بخلاف ذلك يصر المخرج سعد الشرايبي في فيلمه على أن يجعل من الاعتقال موضوعا مركزا في فيلمه «جوهرة بنت الحبس»(2003) مع تضخيمه إلى حد بعيد، وذلك، من جهة، بإعطاء دور البطولة الرئيسية للمرأة المعتقلة، ومن جهة ثانية بتكثيفه، إلى درجة الإفراط، لحالات عدة معروفة من الاعتقال السياسي بالمغرب وجمعها في حالة واحدة وحيدة هي حالة الطفلة جوهرة التي ولدت بعد اغتصاب أمها صفية في المعتقل، وظلت في السجن ست سنوات كاملة، شاهدة على عالم الأسر بمختلف تلويناته وأشكاله.يبدأ الفيلم بجوهرة، وقد صارت الآن امرأة ناضجة، تتذكر سنوات الماضي عن طريق «الفلاش باك»، وتأخذنا معها إلى سنوات يفترض أنها كانت أليمة في تاريخ المغرب المعاصر. ومنذ المشاهد الأولى نفهم أن صفية كانت تحب سعيدا وأنهما معا كانا عاشقين لفن المسرح; وبينما هما غارقان في سعادتهما، بفضل الحب والمسرح معا، إذا بالشرطة تداهم المسرح لاعتقال الفرقة بأكملها. وبينما يفر سعيد، تقع صفية في الأسر. ولأنها تصمد وترفض البوح بمكان اختباء سعيد ( الذي يتحول هنا إلى مجرد شخص خائف هارب لا يستحق تضحيتها من أجله) يتم تنقيلها من معتقل إلى معتقل لمدة سبع سنوات كاملة قبل أن يتم الإفراج عنها في النهاية.إن مخرج الفيلم، سعد الشرايبي، لم يكف عن قول إنه قرأ حوالي 21 كتابا صدرت بالمغرب وتضمنت شهادات لأشخاص مروا بتجربة الاعتقال السياسي، ومن هنا نفترض أنه حاول تكثيف كل ما قرأه في فيلم واحد يتضمن حكايات عديدة مختلفة باختلاف تجارب أصحابها التي لا يمكنها أن تكون متماثلة بالتأكيد. إلا أن ما يظل غائبا عن فيلم «جوهرة» بالتحديد هو سبب اعتقال صفية: هل اعتقلت فقط لأنها كانت تهوى المسرح؟ ذلك ما يخرج به المشاهد في النهاية، وذلك غير صحيح طبعا، لأن الاعتقالات في مغرب الفترة الممتدة من ستينات القرن الماضي إلى ثمانيناته شملت، وبوجه خاص، نوعين من الناس: المناضلين المنتمين إلى تنظيمات وأحزاب سياسية، سرية أو علنية، تسعى إلى قلب نظام الحكم عن طريق المنشورات والمظاهرات; والمناضلين الذين حملوا السلاح ضد الدولة; أما حكاية المسرح فتظل مجرد تعبير إما عن عدم إلمام بتجربة الاعتقال السياسي في حقيقتها، أو عن استمرار المخرج في ممارسة مزيد من الرقابة الذاتية على نفسه وإن كانت الظروف المستجدة قد ألغت الحاجة إليها بشكل كبير.
* مخرجون يفشلون في الدفاع عن أبطالهم
* وما يقال عن فيلم «جوهرة» ينطبق إلى حد بعيد على شريط «درب مولاي الشريف» (2004) لحسن بنجلون. فرغم أن المخرج اعتمد في كتابة سيناريو فيلمه على شهادة لمعتقل سياسي سابق (جواد مديدش) ضمنها كتاب نشره باللغة الفرنسية تحت عنوان «الغرفة السوداء» إلا أنه لم يستطع أن يجعلنا نتعاطف مع أبطاله، رغم كثرة مشاهد التعذيب والاستنطاق التي أمطرنا بها، وذلك لسبب بسيط هو أنه لا يجعلنا نعرف السبب الذي اعتقلوا من أجله.
إن التعاطف مع الشخصيات الروائية من طرف المتلقي ينشأ كلما كانت هذه الشخصيات في موقف المظلوم، ويزداد هذا التعاطف أكثر إذا كان الأبطال شبانا معتقلين من أجل أفكار أو أحلام تدور حول العدالة والحرية والمساواة. وفي فيلم «درب مولاي الشريف» لا يختلف المعتقلون الذين نراهم أمامنا عن معتقلي الحق العام، وبالتالي فإن تعاطفنا معهم لا يختلف عن التعاطف الذي نحس به تجاه أي سجين يتعرض للإهانة والضرب.يبقى آخر فيلم ظهر حتى الآن ضمن سلسلة الأفلام هذه، وهو فيلم «ذاكرة معتقلة» (2004) للجيلالي فرحاتي. وبخلاف فيلمي الشرايبي وبنجلون، اللذين حاولا التصدي بشكل مباشر لتجربة الاعتقال السياسي يعطي الجيلالي فرحاتي لنفسه نوعا من المسافة تجاه الموضوع تتيح له تناوله بمرونة أكبر، وبالتالي تعفيه من المساءلة المباشرة حول اقترابه من الواقع أو ابتعاده عنه، وتجعل المشاهد أمام نوع من «الحدوتة» التي تحول الاعتقال إلى مجرد خلفية للسرد تنطلق منها لكي تنثر الرموز والإشارات في كل الاتجاهات.
تدور قصة الفيلم حول سجين سياسي يدعى المختار (لعب دوره الجيلالي فرحاتي نفسه) عليه ضغوطات نفسية شديدة تعرض لها إبان اعتقاله; ورغم أن وقت إطلاق سراحه حان منذ زمن فإن إدارة السجن وجدت نفسها عاجزة عن الإفراج عنه لأنه لا أحد يعرف له أهلا أو عنوانا يمكن إرساله إليه. وحين يطلق سراح الزبير، المعتقل الشاب في قضية نصب واحتيال، والذي كانت تربطه علاقة صداقة بالمختار، ينتهز مدير السجن الفرصة فيطلب من الزبير مرافقة السجين للبحث عن فرد محتمل من أهله أو أصحابه.هكذا تبدأ رحلة السجينين السابقين معا عبر مناطق مختلفة من شمال المغرب سعيا وراء بعض العلامات التي قد توصلهما إلى أحد أصدقاء المختار أو أحد أقربائه وبالتالي تقربهما من الذاكرة المفقودة. وشيئا فشيئا، كلما أوغل البحث في المكان، وموازاة مع بحث امرأة عائدة من المنفى (تدعى زهرة) عن معلم كانت تعرفه قبل ثلاثين سنة اسمه المختار، يستعيد هذا ذاكرته بالتدريج إلى أن يسترجعها تماما لينهار باكيا مثل طفل. نعم، فالذاكرة مؤلمة، لأن الماضي مؤلم كذلك، والأكثر ألما منه أنك مضطر لمصالحته لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتصالحك مع نفسك، وللإفراج عن «ذاكرتك المعتقلة».إنه، إذن، نوع من التأمل شبه الفلسفي في تجربة الاعتقال السياسي منظورا إليها عبر ما يشبه جلسة مغلقة بين شخصيتين متنافرتين لا شيء يجمع بينهما، ومع ذلك يجدان نفسيهما مضطرين للتعايش، وإن كانت لفترة محدودة، تتيح لهما أن يتعرفا على بعضهما البعض بل وعلى ذاتيهما أكثر، بحكم أن العبور نحو الذات لا يمكنه أن يتم إلا عن طريق الآخر. وبطبيعة الحال فإن اختيار شكل «الحدوتة» المصحوبة بقراءات شعرية تتلوها من خارج الإطار المرأة العائدة زهرة يقصي من أذهاننا، ولو للحظة، طرح السؤال حول إمكانية التحقق الواقعي لحكاية مثل هذه في مغرب أواخر القرن الماضي، حيث كانت الأنفاس محصية كلها بشكل لا يسمح لأحد، خاصة إذا كان معتقلا سياسيا، أن «يتوه» عن أهله وأحبابه ويفقد لهم كل أثر.والحقيقة أن هذا السؤال لا يمكن طرحه، في النهاية، حتى بالنسبة لباقي الأفلام التي تناولت موضوع الاعتقال السياسي مادامت كلها مجرد محاولات للاقتراب من سنوات مظلمة في تاريخ المغرب الحديث. تعبر (المحاولات) عن جو الانفتاح الذي تعيشه البلاد في الوقت الحالي أكثر مما تنقل لمشاهد اليوم صفحة من صفحات الأمس، أي أنها، بعبارة أخرى، شهادة على تحولات الحاضر أكثر منها شهادة على مآسي الماضي القريب التي وجدت أخيرا تعبيرا أكثر وضوحا وقوة عنها في جلسات الاستماع العمومية لضحايا القمع التي تم بثها قبل بضعة أشهر على شاشة التلفزيون التي نجحت على غير المعتاد في اختطاف الأضواء من الشاشة الكبيرة التي باتت مطالبة بجرأة أكبر تمكنها من المساهمة فيما تعرفه البلاد من تحولات بدل أن تظل مجرد تعبير باهت عنها.
ولعل من المثير هنا ملاحظة أن الفيلم الوحيد الذي دخل في منافسة حقيقية مع «ذاكرة معتقلة» كان مغربيا بدوره، هو «الرحلة الكبرى» لإسماعيل الفروخي، الذي تخلصت منه لجنة التحكيم بإعطائه جائزة كبرى من نوع آخر، هي جائزة العمل السينمائي الأول. والواقع أن الفيلمين المذكورين يؤشران إلى اتجاهين رئيسين يهيمنان في الوقت الحالي على السينما المغربية: اتجاه يتناول مشكلة الهجرة وما تطرحه من توزع وجداني بين بلد الإقامة والوطن الأم (أفلام حكيم بلعباس ونور الدين الخماري وحسن لكزولي ورشيد بوتونس، مثلا)، واتجاه يتناول تجربة أو محنة الاعتقال السياسي كما خبرها العديد من المناضلين في ستينات القرن الماضي وسبعيناته بالخصوص. وهو أمر مفهوم تماما مادام المخرجون المغاربة ينقسمون اليوم بدورهم إلى فئتين: شابة، تعيش خارج الوطن، و«مخضرمة» تعيش داخله; لكن ما يبدو عصيا على الفهم حتى الآن أن تكون الفئة الأخيرة أكثر جرأة من الأولى وتذهب إلى حد تناول موضوعات شائكة مثل موضوع الاعتقال السياسي.يرجع ذلك إلى رغبة بعض السينمائيين في كسر جدار من الصمت تشكل من رقابة ذاتية ترفض الإعلان عن نفسها أكثر مما تشكل من رقابة أو ضغوطات خارجية.* مطلع الألفية انطلاقة المغامرة
* يحضر في الذهن هنا، وعلى وجه التحديد، أول شريط سينمائي تناول تجربة الاعتقال السياسي في المغرب وهو «منى صابر» الذي أخرجه عبد الحي العراقي عام 2001، أي ثلاث سنوات بعد تعيين المعارض والمنفي السابق عبد الرحمن اليوسفي رئيساً للوزراء، وسنتان بعد وفاة الملك الحسن الثاني. يروي الفيلم حكاية منى، التي تعرف يوم بلغت ربيعها الخامس والعشرين، أن الشخص الذي تقف أمام شاهد قبره لم يكن أباها الحقيقي، وأن والدها الفعلي مغربي، كان يدرس بفرنسا وذهب إلى بلده في إحدى العطل إلا أنه لم يعد بعد ذلك إلى أمها، واختفت آثاره تماماً. يثير الخبر فضول البنت فتقرر الذهاب إلى المغرب بحثا عن أبيها، ومن رحلة تبدأ من مدينتي الدارالبيضاء والرباط، وتنتهي جنوبا في مدينة الصويرة. تكتشف الفتاة أن أباها تعرض، مثل كثيرين غيره، للاعتقال وأنه اختفى (لعله قتل أثناء التعذيب) ولم يظهر له أثر. وينتهي الفيلم بمشهد يصور حشدا من الأشخاص يجلسون ليلا أمام باب أحد المعتقلات السياسية حاملين في أيديهم شموعا وصورا لمناضلين اختفوا في غياهب المعتقلات من دون أن يعرف شيء عن مصيرهم ( أو مختطفين مجهولي المصير، بتعبير شائع اليوم).وإذا كان يحسب لهذا الفيلم أنه كان سباقا إلى تناول موضوع شبه محرم، فإنه لم يستطع الإفلات، مع ذلك، من نظرة تبسيطية وساذجة في آن واحد، للواقع المغربي بوجه عام، كما لم يستطع التخلص من بعض الثوابت السردية التقليدية الموروثة عن السينما التجارية المصرية بالخصوص، حيث تحضر الراقصة (وهي راقصة شريفة طبعا، وبالضرورة) كشخصية محورية في بناء الفيلم. أليس عشيقها «المناضل» هو من يقف إلى جانب منى ويساعدها في تقفي آثار أبيها؟في فيلم «ألف شهر» (2003) لفوزي بنسعيدي، وهو أحد أجمل الأفلام المغربية التي أخرجت في السنوات الخمس الأخيرة، يحضر الاعتقال السياسي بقوة، لكن دون أن يعلن عن نفسه، من خلال الأب المدرس الذي غيب في السجن وأرغمت زوجته على حمل ابنهما الصغير والانتقال من المدينة إلى البادية للعيش في بيت صهرها، أب الزوج الذي يعيش وحيدا في قرية نائية تعاني من ويلات الجفاف.لم يكن حديث بنسعيدي الموارب عن تجربة الاعتقال السياسي وجعلها الموضوع الغائب ـ الحاضر الذي ينتظم السرد حوله نابعا من خوف أو من حذر بقدرما كان تعبيرا عن خيار جمالي يفضل التركيز بهدوء على جزيئات المعيش اليومي لأنها أقدر، في رأي المخرج، على نقل الإحساس بعمق المعاناة.بخلاف ذلك يصر المخرج سعد الشرايبي في فيلمه على أن يجعل من الاعتقال موضوعا مركزا في فيلمه «جوهرة بنت الحبس»(2003) مع تضخيمه إلى حد بعيد، وذلك، من جهة، بإعطاء دور البطولة الرئيسية للمرأة المعتقلة، ومن جهة ثانية بتكثيفه، إلى درجة الإفراط، لحالات عدة معروفة من الاعتقال السياسي بالمغرب وجمعها في حالة واحدة وحيدة هي حالة الطفلة جوهرة التي ولدت بعد اغتصاب أمها صفية في المعتقل، وظلت في السجن ست سنوات كاملة، شاهدة على عالم الأسر بمختلف تلويناته وأشكاله.يبدأ الفيلم بجوهرة، وقد صارت الآن امرأة ناضجة، تتذكر سنوات الماضي عن طريق «الفلاش باك»، وتأخذنا معها إلى سنوات يفترض أنها كانت أليمة في تاريخ المغرب المعاصر. ومنذ المشاهد الأولى نفهم أن صفية كانت تحب سعيدا وأنهما معا كانا عاشقين لفن المسرح; وبينما هما غارقان في سعادتهما، بفضل الحب والمسرح معا، إذا بالشرطة تداهم المسرح لاعتقال الفرقة بأكملها. وبينما يفر سعيد، تقع صفية في الأسر. ولأنها تصمد وترفض البوح بمكان اختباء سعيد ( الذي يتحول هنا إلى مجرد شخص خائف هارب لا يستحق تضحيتها من أجله) يتم تنقيلها من معتقل إلى معتقل لمدة سبع سنوات كاملة قبل أن يتم الإفراج عنها في النهاية.إن مخرج الفيلم، سعد الشرايبي، لم يكف عن قول إنه قرأ حوالي 21 كتابا صدرت بالمغرب وتضمنت شهادات لأشخاص مروا بتجربة الاعتقال السياسي، ومن هنا نفترض أنه حاول تكثيف كل ما قرأه في فيلم واحد يتضمن حكايات عديدة مختلفة باختلاف تجارب أصحابها التي لا يمكنها أن تكون متماثلة بالتأكيد. إلا أن ما يظل غائبا عن فيلم «جوهرة» بالتحديد هو سبب اعتقال صفية: هل اعتقلت فقط لأنها كانت تهوى المسرح؟ ذلك ما يخرج به المشاهد في النهاية، وذلك غير صحيح طبعا، لأن الاعتقالات في مغرب الفترة الممتدة من ستينات القرن الماضي إلى ثمانيناته شملت، وبوجه خاص، نوعين من الناس: المناضلين المنتمين إلى تنظيمات وأحزاب سياسية، سرية أو علنية، تسعى إلى قلب نظام الحكم عن طريق المنشورات والمظاهرات; والمناضلين الذين حملوا السلاح ضد الدولة; أما حكاية المسرح فتظل مجرد تعبير إما عن عدم إلمام بتجربة الاعتقال السياسي في حقيقتها، أو عن استمرار المخرج في ممارسة مزيد من الرقابة الذاتية على نفسه وإن كانت الظروف المستجدة قد ألغت الحاجة إليها بشكل كبير.
* مخرجون يفشلون في الدفاع عن أبطالهم
* وما يقال عن فيلم «جوهرة» ينطبق إلى حد بعيد على شريط «درب مولاي الشريف» (2004) لحسن بنجلون. فرغم أن المخرج اعتمد في كتابة سيناريو فيلمه على شهادة لمعتقل سياسي سابق (جواد مديدش) ضمنها كتاب نشره باللغة الفرنسية تحت عنوان «الغرفة السوداء» إلا أنه لم يستطع أن يجعلنا نتعاطف مع أبطاله، رغم كثرة مشاهد التعذيب والاستنطاق التي أمطرنا بها، وذلك لسبب بسيط هو أنه لا يجعلنا نعرف السبب الذي اعتقلوا من أجله.
إن التعاطف مع الشخصيات الروائية من طرف المتلقي ينشأ كلما كانت هذه الشخصيات في موقف المظلوم، ويزداد هذا التعاطف أكثر إذا كان الأبطال شبانا معتقلين من أجل أفكار أو أحلام تدور حول العدالة والحرية والمساواة. وفي فيلم «درب مولاي الشريف» لا يختلف المعتقلون الذين نراهم أمامنا عن معتقلي الحق العام، وبالتالي فإن تعاطفنا معهم لا يختلف عن التعاطف الذي نحس به تجاه أي سجين يتعرض للإهانة والضرب.يبقى آخر فيلم ظهر حتى الآن ضمن سلسلة الأفلام هذه، وهو فيلم «ذاكرة معتقلة» (2004) للجيلالي فرحاتي. وبخلاف فيلمي الشرايبي وبنجلون، اللذين حاولا التصدي بشكل مباشر لتجربة الاعتقال السياسي يعطي الجيلالي فرحاتي لنفسه نوعا من المسافة تجاه الموضوع تتيح له تناوله بمرونة أكبر، وبالتالي تعفيه من المساءلة المباشرة حول اقترابه من الواقع أو ابتعاده عنه، وتجعل المشاهد أمام نوع من «الحدوتة» التي تحول الاعتقال إلى مجرد خلفية للسرد تنطلق منها لكي تنثر الرموز والإشارات في كل الاتجاهات.
تدور قصة الفيلم حول سجين سياسي يدعى المختار (لعب دوره الجيلالي فرحاتي نفسه) عليه ضغوطات نفسية شديدة تعرض لها إبان اعتقاله; ورغم أن وقت إطلاق سراحه حان منذ زمن فإن إدارة السجن وجدت نفسها عاجزة عن الإفراج عنه لأنه لا أحد يعرف له أهلا أو عنوانا يمكن إرساله إليه. وحين يطلق سراح الزبير، المعتقل الشاب في قضية نصب واحتيال، والذي كانت تربطه علاقة صداقة بالمختار، ينتهز مدير السجن الفرصة فيطلب من الزبير مرافقة السجين للبحث عن فرد محتمل من أهله أو أصحابه.هكذا تبدأ رحلة السجينين السابقين معا عبر مناطق مختلفة من شمال المغرب سعيا وراء بعض العلامات التي قد توصلهما إلى أحد أصدقاء المختار أو أحد أقربائه وبالتالي تقربهما من الذاكرة المفقودة. وشيئا فشيئا، كلما أوغل البحث في المكان، وموازاة مع بحث امرأة عائدة من المنفى (تدعى زهرة) عن معلم كانت تعرفه قبل ثلاثين سنة اسمه المختار، يستعيد هذا ذاكرته بالتدريج إلى أن يسترجعها تماما لينهار باكيا مثل طفل. نعم، فالذاكرة مؤلمة، لأن الماضي مؤلم كذلك، والأكثر ألما منه أنك مضطر لمصالحته لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتصالحك مع نفسك، وللإفراج عن «ذاكرتك المعتقلة».إنه، إذن، نوع من التأمل شبه الفلسفي في تجربة الاعتقال السياسي منظورا إليها عبر ما يشبه جلسة مغلقة بين شخصيتين متنافرتين لا شيء يجمع بينهما، ومع ذلك يجدان نفسيهما مضطرين للتعايش، وإن كانت لفترة محدودة، تتيح لهما أن يتعرفا على بعضهما البعض بل وعلى ذاتيهما أكثر، بحكم أن العبور نحو الذات لا يمكنه أن يتم إلا عن طريق الآخر. وبطبيعة الحال فإن اختيار شكل «الحدوتة» المصحوبة بقراءات شعرية تتلوها من خارج الإطار المرأة العائدة زهرة يقصي من أذهاننا، ولو للحظة، طرح السؤال حول إمكانية التحقق الواقعي لحكاية مثل هذه في مغرب أواخر القرن الماضي، حيث كانت الأنفاس محصية كلها بشكل لا يسمح لأحد، خاصة إذا كان معتقلا سياسيا، أن «يتوه» عن أهله وأحبابه ويفقد لهم كل أثر.والحقيقة أن هذا السؤال لا يمكن طرحه، في النهاية، حتى بالنسبة لباقي الأفلام التي تناولت موضوع الاعتقال السياسي مادامت كلها مجرد محاولات للاقتراب من سنوات مظلمة في تاريخ المغرب الحديث. تعبر (المحاولات) عن جو الانفتاح الذي تعيشه البلاد في الوقت الحالي أكثر مما تنقل لمشاهد اليوم صفحة من صفحات الأمس، أي أنها، بعبارة أخرى، شهادة على تحولات الحاضر أكثر منها شهادة على مآسي الماضي القريب التي وجدت أخيرا تعبيرا أكثر وضوحا وقوة عنها في جلسات الاستماع العمومية لضحايا القمع التي تم بثها قبل بضعة أشهر على شاشة التلفزيون التي نجحت على غير المعتاد في اختطاف الأضواء من الشاشة الكبيرة التي باتت مطالبة بجرأة أكبر تمكنها من المساهمة فيما تعرفه البلاد من تحولات بدل أن تظل مجرد تعبير باهت عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق