الكاتب أحمد بوزفور يرثي صديقه المناضل محمد المُلاقات
الكاتب أحمد بوزفور يرثي صديقه المناضل محمد المُلاقات
ــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــ
رأيتُه، أولَ ما رأيتُه، خطيبا. كان يخطب فينا نحن تلاميذَ الثانوية، ويحرضنا على الإضراب. شدني إليه صوتُه الجهوري، ثم فصاحتُه التلقائية، ثم أفكارُه المنظمة. وجدتُ أن كثيرا من المستمعين يعرفونه: إنه ( المزكَلدي زعيم الطلبة ). ثم التقيت به في بيت صديق مشترك، وناقشته وعرفتُ اتجاهه السياسي الكامن خلف المطالب القطاعية التي يطرحها أمام الطلبة. وأقنعني بالانضمام إلى اللجنة المدبرة للإضراب، وكتابة بلاغاتها ومنشوراتها، والتواصل مع الصحف لنشرها.
ومنذ ذلك اليوم البعيد في بداية ستينيات القرن الماضي ونحن رفاق وأصدقاء، بالرغم من اختلاف اتجاهاتنا فيما بعد.
عشتُ معه لياليَ بيضاء، قضيناها في النقاش مع الطلبة، وعرفتُ فيه خلالها حنكةَ السياسي الذي لا تُتعبه مقارعةُ خصومه بقدر ما تتعبه مناقشةُ أنصاره، ولا سيما حين تدفعه الظروف إلى التراجع خطوةً أو التنازل درجة.
وعشتُ معه لياليَ بيضاءَ قضيناها في الكوميسارية، وهو معزول عنا في ( الكاشو )، مكبَّلَ اليدين معصوبَ العينين، ونحن محشورون في زاوية ضيقة من الساحة الداخلية للكوميسارية، نرفع أصواتنا ــ رغم الضرب والسب ــ بالغناء والأناشيد والآيات لنخفف عنه من جهة، ولنُسمع المارةَ في الشارع القريب من جهة أخرى.
وعشتُ معه النفيَ إلى معسكرات الجيش في الجنوب، وهو يناقش الرفاقَ ليصمدوا، ويناقش الضباطَ ليقنعهم بقضيتنا.
وعشت معه محاولات العلاج من الضرب الوحشي الذي تلقاه، وسبَّبَ له نعاسا مستمرا نتندَّرُ به أمامه ويتندَّرُ معنا دون حَرَج.
ثم فرقتنا ظروفُ العمل والعائلة واستمرارُه الصامد في النضال السياسي والنقابي، وانصرافي إلى القراءة والكتابة.
ولكنه ظل وفيا للصداقات القديمة دائما. وكان يزورني في بيتي بين الحين والحين، ويزودني بأخبار رفاقنا وأصدقائنا الذين كان يزورهم خلال رحلاته النضالية في أصقاع المغرب المختلفة.
آخر مرة زارني لم يستطع صعود درج العمارة إلى الطابق الرابع حيث أسكن. اتصل بي هاتفيا، وقال لي:
ــــ أنا في باب عمارتك
ــــ عمارتي؟ بشرك الله بخير. اصعد
ــــ انزل أنت
ونزلت فوجدتُه جالسا بباب العمارة على كرسي أعطاه له مشكورا صاحبُ المصبغة المجاورة الطيّب. ورأيت في يده عصا. يتكلم بصعوبة. ويتحرك بصعوبة. ويشكو من السكّر أساسا. جلسنا طويلا في المقهى القريب، وحين كنا نتذكر أيام الستينيات القديمة، كان يُصحح لي ما أرويه عنها. ذاكرتُه أقوى من ذاكرتي، ومعرفتُه بالجديد من أخبار أصدقائنا أحدث من معرفتي، والجلسةُ معه في هذا الجو الشَّجيّ لا تُقدَّرُ بثمن.
لن أتحدث عن صموده وثباته على مبادئه ولا عن نزاهته وبذله لوطنه وشعبه كل ما يستطيع، دون أن يأخذ لنفسه شيئا، فذلك يعرفه الناس.
أنا أتحدث فقط عن حزني.. وعن ألمي.. وعن دهشتي: ( الملاقات ) مات؟
كيف تستطيع كلمة صغيرة كهذه ( مات ) أن تستوعب كوكبا بهذا الحجم، وبهذا الغنى، وبهذا الإشعاع، وبهذا الحب الغامر للناس.. ثم تغيب به في حيث لا أدري من الكون كثقب أسود؟؟ كيف؟
رحمك الله صديقي العزيز، وجازاك بقدر ما أعطيتَ وأجزل.
نلتقي هناك قريبا ياصديقي، ونستعيد معا ذكرياتنا العزيزة:
وإنَّ امْرَأً قد سار سبعين حِجَّةً = إلى منهلٍ، من وِردِهِ لقريبُ.
ومنذ ذلك اليوم البعيد في بداية ستينيات القرن الماضي ونحن رفاق وأصدقاء، بالرغم من اختلاف اتجاهاتنا فيما بعد.
عشتُ معه لياليَ بيضاء، قضيناها في النقاش مع الطلبة، وعرفتُ فيه خلالها حنكةَ السياسي الذي لا تُتعبه مقارعةُ خصومه بقدر ما تتعبه مناقشةُ أنصاره، ولا سيما حين تدفعه الظروف إلى التراجع خطوةً أو التنازل درجة.
وعشتُ معه لياليَ بيضاءَ قضيناها في الكوميسارية، وهو معزول عنا في ( الكاشو )، مكبَّلَ اليدين معصوبَ العينين، ونحن محشورون في زاوية ضيقة من الساحة الداخلية للكوميسارية، نرفع أصواتنا ــ رغم الضرب والسب ــ بالغناء والأناشيد والآيات لنخفف عنه من جهة، ولنُسمع المارةَ في الشارع القريب من جهة أخرى.
وعشتُ معه النفيَ إلى معسكرات الجيش في الجنوب، وهو يناقش الرفاقَ ليصمدوا، ويناقش الضباطَ ليقنعهم بقضيتنا.
وعشت معه محاولات العلاج من الضرب الوحشي الذي تلقاه، وسبَّبَ له نعاسا مستمرا نتندَّرُ به أمامه ويتندَّرُ معنا دون حَرَج.
ثم فرقتنا ظروفُ العمل والعائلة واستمرارُه الصامد في النضال السياسي والنقابي، وانصرافي إلى القراءة والكتابة.
ولكنه ظل وفيا للصداقات القديمة دائما. وكان يزورني في بيتي بين الحين والحين، ويزودني بأخبار رفاقنا وأصدقائنا الذين كان يزورهم خلال رحلاته النضالية في أصقاع المغرب المختلفة.
آخر مرة زارني لم يستطع صعود درج العمارة إلى الطابق الرابع حيث أسكن. اتصل بي هاتفيا، وقال لي:
ــــ أنا في باب عمارتك
ــــ عمارتي؟ بشرك الله بخير. اصعد
ــــ انزل أنت
ونزلت فوجدتُه جالسا بباب العمارة على كرسي أعطاه له مشكورا صاحبُ المصبغة المجاورة الطيّب. ورأيت في يده عصا. يتكلم بصعوبة. ويتحرك بصعوبة. ويشكو من السكّر أساسا. جلسنا طويلا في المقهى القريب، وحين كنا نتذكر أيام الستينيات القديمة، كان يُصحح لي ما أرويه عنها. ذاكرتُه أقوى من ذاكرتي، ومعرفتُه بالجديد من أخبار أصدقائنا أحدث من معرفتي، والجلسةُ معه في هذا الجو الشَّجيّ لا تُقدَّرُ بثمن.
لن أتحدث عن صموده وثباته على مبادئه ولا عن نزاهته وبذله لوطنه وشعبه كل ما يستطيع، دون أن يأخذ لنفسه شيئا، فذلك يعرفه الناس.
أنا أتحدث فقط عن حزني.. وعن ألمي.. وعن دهشتي: ( الملاقات ) مات؟
كيف تستطيع كلمة صغيرة كهذه ( مات ) أن تستوعب كوكبا بهذا الحجم، وبهذا الغنى، وبهذا الإشعاع، وبهذا الحب الغامر للناس.. ثم تغيب به في حيث لا أدري من الكون كثقب أسود؟؟ كيف؟
رحمك الله صديقي العزيز، وجازاك بقدر ما أعطيتَ وأجزل.
نلتقي هناك قريبا ياصديقي، ونستعيد معا ذكرياتنا العزيزة:
وإنَّ امْرَأً قد سار سبعين حِجَّةً = إلى منهلٍ، من وِردِهِ لقريبُ.
أحمد بوزفور ،
**********
رحيل مناضل كبير كان لا يغمض عينيه
إلا ليحلم بالوطن
ولا يفتحها إلا على الوطن
و داعا القائد المناضل محمد الملاقات
كان رجلا فريدا انصهر في زمن الجمر،
ومناضلا طلابيا صلبا لا يلين ،عرفته الساحة النضالية قائدا في انتفاضة 23 مارس 1965 ،ونقابيا صلبا في الحركة العمالية والتعليمية،وفاعلا رائدا في حركة دعم القضية الفلسطينية.
وُلد لينذر حياته للنضال الوطني والقومي والعالمي، سار على طريق المناضل الأممي الشهيد المهدي بنبركة ، اعتمر قبعة تشي غيفارا واتشح بالكوفية الفلسطينية وظل وفيا لجبة المجاهد عبد الكريم الخطابي، وفِي كل هذا المسار النضالي ظل ماسكا بقوة على المبادئ الثورية العالمية والقيم الإنسانية الكونية بروح القروي ابن الجبل العنيد وسليل الفلاحين الفقراء.
اعتقل أكثر من مرة وتعرض لأبشع أنواع التعذيب بهدف تصفيته أو إعطابه كان من آثارها ارتجاج حاد في الدماغ جعله يفقد خط التماس بين اليقظة والحلم والحضور والغياب حالة رافقته طوال حياته وأدت به في الأخير إلى أن يغمض عينيه إلى الأبد.
وكما عرفته مناضلا صامدا عرفته إنسانا شهما ومثقفا واسع الاطلاع ، قضيتُ معك سنة سجن كاملة في زنزانة صغيرة مشتركة بالكاد كانت تتسع لنا بسجن لعلو بالرباط ،علمني فيها الإيثار ونكران الذات والصبر وبساطة أبناء البادية، كما كانت فرصة لي للاطلاع من خلال تجربته النضالية الثرية على الكثير من خفايا السياسة والنضال السري في المغرب خاصة في فترة اليد الحديدية والحكم المطلق للملك الحسن الثاني و سيادة الطاغية الجنيرال أوفقير والرهانات الكبرى التي كانت تجري وراء الستار وكان حاضرا فيها مساهما وفاعلا إلى جانب القامات الوطنية الكبرى وهو مازال في مقتبل العمر..
برحيل المناضل الكبير الملاقاة المعروف بالمزكلدي نكون قد فقدنا روحا وطنية بهوية عالمية ظلت مشتعلة بيننا منذ انتفاضة 23 مارس 1965 .
وداعا أيها القائد.
لن تغيب عن أعيننا أبداً.
إلا ليحلم بالوطن
ولا يفتحها إلا على الوطن
و داعا القائد المناضل محمد الملاقات
كان رجلا فريدا انصهر في زمن الجمر،
ومناضلا طلابيا صلبا لا يلين ،عرفته الساحة النضالية قائدا في انتفاضة 23 مارس 1965 ،ونقابيا صلبا في الحركة العمالية والتعليمية،وفاعلا رائدا في حركة دعم القضية الفلسطينية.
وُلد لينذر حياته للنضال الوطني والقومي والعالمي، سار على طريق المناضل الأممي الشهيد المهدي بنبركة ، اعتمر قبعة تشي غيفارا واتشح بالكوفية الفلسطينية وظل وفيا لجبة المجاهد عبد الكريم الخطابي، وفِي كل هذا المسار النضالي ظل ماسكا بقوة على المبادئ الثورية العالمية والقيم الإنسانية الكونية بروح القروي ابن الجبل العنيد وسليل الفلاحين الفقراء.
اعتقل أكثر من مرة وتعرض لأبشع أنواع التعذيب بهدف تصفيته أو إعطابه كان من آثارها ارتجاج حاد في الدماغ جعله يفقد خط التماس بين اليقظة والحلم والحضور والغياب حالة رافقته طوال حياته وأدت به في الأخير إلى أن يغمض عينيه إلى الأبد.
وكما عرفته مناضلا صامدا عرفته إنسانا شهما ومثقفا واسع الاطلاع ، قضيتُ معك سنة سجن كاملة في زنزانة صغيرة مشتركة بالكاد كانت تتسع لنا بسجن لعلو بالرباط ،علمني فيها الإيثار ونكران الذات والصبر وبساطة أبناء البادية، كما كانت فرصة لي للاطلاع من خلال تجربته النضالية الثرية على الكثير من خفايا السياسة والنضال السري في المغرب خاصة في فترة اليد الحديدية والحكم المطلق للملك الحسن الثاني و سيادة الطاغية الجنيرال أوفقير والرهانات الكبرى التي كانت تجري وراء الستار وكان حاضرا فيها مساهما وفاعلا إلى جانب القامات الوطنية الكبرى وهو مازال في مقتبل العمر..
برحيل المناضل الكبير الملاقاة المعروف بالمزكلدي نكون قد فقدنا روحا وطنية بهوية عالمية ظلت مشتعلة بيننا منذ انتفاضة 23 مارس 1965 .
وداعا أيها القائد.
لن تغيب عن أعيننا أبداً.
محمد خلاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق