جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

على هامش اعتراف ماكرون"بمسؤولية" فرنسا في مقتل موريس أودان/ أيـــن دفـــن رجــــــال الـــــحـــســــن الــثــانــــي الكـــولــــــونـــيـــل مـــحــمـــد عــــــبـــــــابـــو

أيـــن دفـــن رجــــــال الـــــحـــســــن الــثــانــــي الكـــولــــــونـــيـــل مـــحــمـــد عــــــبـــــــابـــو



فتح المغرب بجرأة ملف سنوات الرصاص لكن هذه الجرأة خفت شعلتها في بعض الملفات، أهمها ملف تلاميذ مدرسة هرمومو العسكرية (انظر العدد: 355 والعدد 358) الذين تمت إقصاؤهم من مسلسل المصالحة. هذا الإقصاء طال أيضا عائلات منفذي

الانقلاب. من ضمن هؤلاء عائلة الكولونيل محمد عبابو الذي قاد رفقة أخيه الكولونيل امحمد عبابو، انقلاب الصخيرات للإطاحة بحكم المرحوم الحسن الثاني.
عبد الغني عبابو ابن محمد عبابو بعد أن سرد علاقته بوالده وقدم روايته للانقلاب وما تلاه من مضايقات ضد عائلته وحياته المنفى يستعرض أمام «الوطن الآن» محنة العائلة في البحث عن الحقيقة، حقيقة اختطاف والده بعد الحكم عليه ومطالبا بالإعلان عن مصيره

* كنت الابن الوحيد الذي كتب له أن يرى والده قبل هجومه على القصر الملكي بالصخيرات في يوليوز 1971. كيف تتذكر حادث الانقلاب العسكري؟
** كان أبي مصرا على أن أعود إلى قرية بورد لزيارة جدي، وكنت آنذاك أبلغ من العمر السابعة عشرة، وكشاب كنت أرغب في قضاء العطلة الصيفية في القنيطرة، لكن أبي ألح علي بضرورة العودة إلى القرية الموجودة بنواحي تازة، وكانت تلك آخر رؤيتي له بعد حديث مطول تطرق فيه إلى الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت تعرفها البلاد وعن تهريب أموال البنك الدولي إلى الخارج من طرف الوزراء ومسؤولين كبار في الجيش خربوا ونهبوا واستهزأوا بالشعب المغربي. لذا فما قام به أبي كان ردة فعل غاضبة ضد غطرسة الطغمة الحاكمة التي نهبت خيرات البلاد وعطلت المشاريع التنموية والمجتمعية، وليس انقلابا عسكريا.

* عدت إلى بورد، لكن أباك وضباطا آخرين هاجموا القصر وقاموا باحتلال مقر الإذاعة في الرباط. كيف تلقيت النبأ؟ 
** لم أسمع أي شيء، ولم يتحدث والدنا عن الهجوم، وقد تعرفت عائلتي على ما جرى مثل كل العائلات المغربية عن طريق الراديو بعد إذاعة البيان وإعلان الجمهورية في المغرب.
ساعات بعد العملية، استفسرت أحد أفراد عائلتنا عن التطورات التي تعرفها الرباط، وسألته كذلك عن أخبار والدي وعمي (الكولونيل امحمد عبابو)، إلا أن هذا الشخص لم يتفوه ولو بكلمة، وكان القلق والخوف باديين على وجهه، متنكرا للرابطة العائلية.
وبعد إعلان فشل التمرد العسكري بإعلان الملك في خطاب له أن منفذي الانقلاب لقوا حتفهم، سمعت الخبر لأول مرة في حضور جدتي وأختي وزوجة عمي عبد العزيز عن طريق الراديو. وما زلت أتذكر البيان المقروء بكل لغات المغرب إلى اليوم: «اليوم قد أطيح بالنظام الملكي وأعلنت قيام الجمهورية ونطلب الهدوء»». ««راهم هجمو على الملك»»، هكذا صاحت عمتي بأعلى صوتها ««الجيش هو اللي دارها».. بدأت الأسئلة تلاحقني مسترجعا انتقاد أبي للوضعية السياسية في البلد وشدة غضبه من نهب ممتلكات الشعب وإصراره على ضرورة عودتي إلى بورد، فأدركت آنذاك أن آخر لقاء جمعني بأبي كان بمثابة وداع، وفي الوقت نفسه بداية المعاناة مع المخزن الذي أساء إلينا كثيرا ولسنوات عدة.

* كيف وصلتكم أخبار والدكم بعد إعلان فشل الانقلاب؟ 
** كان الوضع قاتما ولم تكن تصلنا أية معلومات. ودعني أكون صريحا معكّ ««راه حتى واحد مكان يقدر يهضر على اللي طرا، كيفاش بغيتهوم يتكلموا لينا على الوالد ولا يوصلو لينا خبارو؟»».
في أحد الليالي طلب منا ابن عمي مغادرة المنزل، لأننا سنخلق له المتاعب. اضطررنا لمغادرة المسكن، فاحتضنتنا أسرة لمدة ثلاثة أسابيع على سبيل التضامن رغم أنها لا تربطها بنا أية قرابة عائلية. أما ذاك الشخص الذي تحدثت عنه سابقا، فقد شارك في التمرد، وفر من الرباط محاولا تبرئة نفسه من خلال التنكر للدم، إنها المأساة بعينها!

من هو
عبد الغني اعبابو؟

* أنت ابن الكولونيل محمد اعبابو الذي قاد رفقة شقيقه تمرد الجيش في انقلاب الصخيرات، هل يمكنك أن تحدثنا عن بعض ما علق في ذاكرتك عن طفولتك؟
** أنا من مواليد 27 مارس 1954 بقرية بورد. كنت الابن الأكبر في عائلتي، تزوج أبي وهو لم يتجاوز 19 سنة. كان يدرس في الأكاديمية العسكرية بمكناس وتزوج بوالدتي وعمرها 14 سنة. أما منطقة بورد التي ولدت فيها، فتقع في شمال غرب كزنايا، وهي محاذية لمنطقة بني عمارت التابعة لقبيلة بني ورياغل، وهي منطقة جبلية فيها أشجار، ويعيش فلاحوها على الفلاحة المعيشية، ويعتمد سكانها على رعي الماعز والبقر في إطار للكفاف الذاتي. وبعد مجيء الاستعمار قام الفرنسيون بغرس الزيتون والعنب في ما بعد بالهضاب.

* أين تلقيت تعليمك، وهل كانت توجد مدرسة بالقرية التي ولدت بها في تلك الفترة؟
** لم تكن هناك أية مدرسة على الإطلاق، لكن الفضل يرجع إلى الاحتلال الفرنسي في المنطقة في إعادة هيكلة المنطقة وتشجيرها وإقامة مدارس لسكان منطقة كزنايا. وبعد انتكاسة ثورة الريف في أواخر العشرينات، تحولت بورد إلى ثكنة عسكرية مهمة بالنسبة للفرنسيين، خاصة أن المنطقة مجاورة لجبل بوزينب الذي يفصل المنطقة الخاضعة للسلطة الاستعمارية الإسبانية عن تلك الخاضعة للفرنسيين، ومطلة أيضا على مناطق نفوذ الاحتلال الفرنسي الذي قام بتوفير سقايات لضخ الماء وصيانة شلال جبل كوين، وأقامت بساتين خضراء.

لم تقل لنا أين تلقيت تعليمك؟ 
** بعد 1956، تخرج والدي محمد اعبابو من المدرسة العسكرية بمكناس برتبة ملازم أول، وهو مازال شابا في مقتبل العمر. وتصادف التحاقي بأول مدرسة بهرمومو بانتقالنا إلى مدينة افضالة (أي مدينة المحمدية). وكان قد سبق لوالدي أن انتقل إلى تطوان في فترة الحماية. كما صادف ذلك عودة الجنود المغاربة من إسبانيا وإعادة هيكلة الجيش المغربي بعد أن التحق به جيش التحرير، وأيضا انتفاضة الريف في 1958.

* (مقاطعا)كيف تتحدث عن ثورة الريف وعمرك آنذاك كان لا يتعدى 4 سنوات؟ 
** صحيح، لكنني أتحدث عن وقائع عايشها والدي. في تلك الفترة غادرت بورد لألتحق بأول مدرسة بهرمومو الواقعة على طريق فاس- تازة، حيث يقع بئر طمطم في الأطلس المتوسط. عشت هناك ذكريات لا تنسى، حتى أن صورة تلك المعلمة الفرنسية في المدرسة خارج الثكنة العسكرية لا تكاد تفارقني....

هل مازلت تتذكر اسمها؟ ** اسمها فارجي وكانت تدرسنا اللغة الفرنسية، وبالكاد هي التي أتذكر اسمها...

الخيانة أفشلت الانقلاب

* هل تمكنت من رؤية والدك مرة أخرى بعد الانقلاب؟ 
** رأيته بعد ذلك أول مرة بالمحكمة العسكرية رغم أن اللقاء كان عن بعد، حيث لم يسمح لنا بالاقتراب منه. وبعد المحاكمة تم نقله إلى سجن عسكري لشهور عدة، وفي ما بعد إلى السجن المركزي بالقنيطرة، هناك كنت أزوره أسبوعيا. وحوكم والدي ب 20 سنة أما عمي عبد العزيز فقد حوكم بـ 5 سنوات بينما ابن خالي بولماكول فحوكم بـ 5 سنوات، وكنا نزورهم جميعم، وكانت مدد الزيارات قصيرة جدا.

ما الذي دار بينكما آنذاك؟ 
** في 14 يوليوز، سمعنا في الإذاعة والتلفزة أنه تم إلقاء القبض على والدي محمد اعبابو قرب الشاون، وكان رجلا قويا ومعنوياته عالية. زرته مرة مع جدي الذي لامه قائلا ««واش تيقو في اغاربيين؟ كان عليكم تستاشرو نتوما مازال شباب..»».

وبماذا رد والدك عليه؟ 
** التزم أبي الصمت قليلا، لأنه كان يحترم جدي، ولكن رد عليه بأن «فشل العملية يعود إلى الخيانات، ومعك حق لا ثقة في اغاربيين، هؤلاء يخدمون مصالحهم.» لقد كنت أزور والدي من فبراير 1972 إلى أواخر يوليوز 1972، وكنت مواظبا عى الزيارات.

كيف كان رد الفعل الشعبي على هذا الانقلاب؟غاب الحديث عن المحكومين وغيرهم وصمتت الجرائد، وصمت الشعب، وقد تطوع محامون كثيرون ومازلت أتذكر المحامي الشخصي لوالدي الوزير الأسبق للعدل محمد بوزوبع، في آخر لقاء أخبرته بأن أبي تعرض للاختطاف من داخل السجن بعدما حاصرت قوات التدخل السريع السجن المركزي بالقنيطرة، ونقلت إليه ما قاله لي بالحرف أحد أفراد القوات المحاصرة، فرد بوزوبع قائلا: «راه الوليد ديالك داوه سير سول في الرباط هما للي عرفين فين.. هاذ الشي لي عندي ما نقول ليك.»

اعتقل والدك واختطف، فمن كان يعيل الأسرة؟ 
** أنا كنت أدرس، وكان جدي من أمي يمد لنا يد المساعدة، بالإضافة إلى تعاطف أناس لا تربطهم بنا أية قرابة عائلية وقفوا إلى جانبنا في محنتنا ولسنوات طوال. لقد كان أبي يقول لي وهو وراء القضبان ««ما خليت ليكم والو، ماتلومونيش. ولكن نتوما عارفين انا مفكرشيش لعجينة»»، قال لي أيضا: ««تهالا مزيان في الإخوان والأخوات»».

* هل تعرضت العائلة الى مضايقات؟ 
** تعرضنا إلى مضايقات بالجملة وإلى مؤامرات لا يتسع المجال لذكرها. فقد ضرب الحصار على كل عائلة تحمل اسم اعبابو، خاصة في الريف، حيث تمت محاصرة مسكن جدي لسنوات طوال. نفس الضغوطات والمراقبة البوليسية تعرضت لها أسرة عمي، وتم حجز كل الوثائق والصور.

قصة شجار والدي مع الكولونيل العلوي
* ما سبب مغادرة والدك النواصر إلى قصر السوق؟ 
** كان عمري آنذاك 15سنة حين نشب خلاف بين والدي والكولونيل مولاي الطاهر العلوي. فبعدما قام والدي بالسماح للجنود بزيارة أهاليهم وأقاربهم لقضاء عطلة عيد الأضحى مع ذويهم، ثارت ثائرة الكولونيل مولاي الطاهر العلوي الذي اعتبر قرار والدي غير مقبول بحكم غياب أو قلة الجنود. فرد عليه والدي بأن صد العدوان ومواجهته لا علاقة له بالعدد وإنما برفع «المورال» للجنود (أي رفع المعنويات)، وصاح في وجه مولاي الطاهر العلوي «إنك تركب الهيليكوبتر في تنقلاتك، ولكنك لا تعرف أن عودة الجنود إلى ذويهم تحتاج لقطع المسافات الطويلة إلى أيام عدة». وتطور الشجار بينهما إلى تشابك بالأيدي، فقدم والدي استقالته من الجيش وعاد إلى مكناس عام 1967 قضى خلالها أكثر من شهرين في المنزل، إلى أن أقنعه مدير البلاط العسكري آنذاك الجنرال المذبوح - صديق العائلة- بالعدول عن قرار الاستقالة، إلا أن أبي كان مصرا على عدم العودة للاشتغال في الجيش، وكان في هذه الفترة بالذات شديد الانتقاد لمظاهر الفساد والرشوة التي عمت البلاد، خاصة في صفوف الجيش.
وفي هذه الفترة عين الوالد قائدا ممتازا لدائرة اكنول باقليم تازة، تزامنا مع تعيين مجموعة من الضباط كعمال على الأقاليم من قبيل الجنرال حمو الذي عين عاملا بفاس، وبوكرين الذي عين عاملا على مكناس، والجنرال ادريس العلمي على عمالة الدار البيضاء، والشلواطي عين عاملا على وجدة، إضافة إلى قواد آخرون عينوا على دوائر أخرى..
وفيما بعد عين والدي مدرسا ونائب مدير لـمدرسة الأركان بالقنيطرة ولسان حاله يردد ««أنا مشي فكرشي العجينة»». والدي في هاته الفترة كان شخصا هادئا ومتواضعا، ولكنه أيضا كان ثائرا كلما تعلق الأمر بالصراعات والتسلط أيا كان مصدره، خاصة أن المغرب كان يعيش مخاضا سياسيا ومؤامرات داخل وخارج القصر، وحتى الأحزاب السياسية آنذاك ساهمت، بشكل أو بآخر، في التلسط وقمع حرية الاختلاف وسط الشعب المغربي. وسط هذه الدوامة كانت تربط والدي علاقات صداقة وتعاطف مع بعض التقدميين واليساريين والوطنيين، وكان يقول إن المال العام لا يجب أن يضيع أو ينهب، وكان ضد اختلاس أموال الشعب، ولم يكن يقبل بأن يتم الاستحواذ على أراضي الشعب وهم ليسوا بفلاحين. وقبل يوم أو يومين من الانقلاب وفي الطريق على متن سيارة التي كانت تقلنا من العرائش في اتجاه مكناس بدأ يتحدث بعصبية عن ««الشفارة اللي خربو البلاد»»، كانت تلك آخر مرة رأيته، قبل الانقلاب بيوم واحد رافقني ساعتها إلى محطة القطار بالقنيطرة متوجها إلى تازة، ومنها توجهت إلى بورد بالحافلة.

علاقتي بوالدي

كيف كانت علاقتك بوالدك في طفولتك؟ 
** كنت طفلا مشاغبا عنيدا ولا أقبل أن تعطى لي الأوامر. وبسبب كثرة تنقلات والدي في القرى والمدن، كنت أقيم مع جدي (من مواليد 1905 وكان متزوجا من أربع نساء)، وآنذاك لم أكن أرى والدي في البيت إلا في العطل الأسبوعية. لم أذق طعم الاستقرار، حيث درست في مدارس مختلفة بحكم تنقلات والدي والتزاماته المهنية في المدن المغربية. لم يكن لدي أيضا أصدقاء أو عنوان.
عدت إلى بورد في الستينات بعدما كلف والدي بالتوجه إلى الكونغو في بعثة أممية سرعان ما عاد منها، بعد خلاف نشب بينه وبين قائد التجريدة العسكرية بسبب صفعه لجندي مغربي أمام الملأ في مهمته الإفريقية، إذ كان المغرب آنذاك ممثلا بالجنرال الكتاني. 
تابعت تعليمي الابتدائي بالمدرسة التي بناها الفرنسيون بمنطقة بورد التي انطلقت منها أول رصاصة لجيش التحرير، وكانت تعد موقعا استراتيجيا ورمزا للمقاومة وجيش التحرير، وشهدت بورد في تلك الفترة أول زيارة لمحمد الخامس، والكل يتذكر خطابه الذي ألقاه منوها ببسالة المقاومين في بورد وشجاعتهم، واعدا السكان برفع الحيف عن المنطقة، ورد الاعتبار. لكن تلك الوعود لم تتحقق، ومازالت بورد منسية، بل إن بنيتها التحتية الآن أسوا مما كانت عليه إبان الاحتلال الفرنسي.

ماذا وقع بعد عودة والدك من الكونغو؟ 
** لقد تأثر والدي من تصرف الضابط المغربي الذي صفع الجندي أمام البعثة الأممية، واحتج بشدة أمام الضابط رافضا إهانة الجندي، فتم إرجاعه إلى المغرب، ليلتحق بالأكاديمية العسكرية بمكناس لتدريس الضباط. فعدت مجددا إلى مكناس وكان الحسن الثاني آنذاك قد تعرض لمؤامرة من طرف أحزاب سياسية، قام على إثرها بتعيين بعض الضبط كعمال على رأس عدد من الأقاليم المغربية كما قلت لك، ومن بينهم والدي الذي عين قائدا ممتازا على أكنول لمدة سنتين، بعدها عاد مرة أخرى إلى مدينة مكناس.

* يبدو أن حقيبة سفرك لم تكن تفارقك...** لم كن أعرف الاستقرار، إلا أنني استطعت خلال إقامتي في أكنول أن أدرس لمدة أطول في إحدى الداخليات، لاسيما وأن البرنامج الدراسي اليومي كان منظما ومرفوقا بأنشطة رياضية وثقافية. ثم أقفلت عائدا إلى مكناس التي مكثت بها سنة، فالتحقت بمدرسة «لابوكل» التي تحولت اليوم إلى ناد ثقافي لنقابة وودادية المعلمين، لأغادرها صوب مدينة الدارالبيضاء، التي تابعت فيها تعليمي بثانوية بني حبوس. وقد أقنعني والدي -الذي كان في بتايون دوكومندمن وسيرفيس بالنواصر بالجيش- بضرورة الالتحاق بالثانوية العسكرية بالقنيطرة التي كاننت تحت إشراف الأمريكان والفرنسيس، وكانت كل المرافق التعليمية متوفرة وقاعات الرياضة مجهزة، وكل تلميذ خصص له مكان لترتيب كتبه ولوازمه الشخصية، كما كانت الثانوية تتوفر على مكتبة تضم كتبا في مختلف التخصصات.

غادرت المغرب بفضل «أولاد الناس»
* أنت الآن مقيم في أوروبا، كيف استطعت مغادرة البلاد بعد متابعة والدك بتهمة التآمر على قلب النظام؟ 
** لقد رفضت السلطات المغربية تسليمي جواز السفر، كما تمت مضايقتي لإفشال مشروع سفري إلى الضفة الأخرى، إلى أن تمكنت من الحصول على الوثائق الضرورية بفضل تدخل أناس ساعدوني على مغادرة التراب من مطار محمد الخامس.

* كيف تمت المغادرة؟
** تمت في ظروف صعبة وبفضل تعاطف وتضامن بعض موظفي المطار ممن ساعدوني على مغادرة البلاد في أواخر السبعينات. وحين وصلت إلى هولندا طلب مني أصدقائي تقديم طلب اللجوء السياسي للاستفادة من التعويضات والحصول على الإقامة. لكنني رفضت، فأنا شخص يعشق الحرية والاستقلالية.
حطت بي الطائرة في البدء في مطار زافنتم، ومباشرة بعد النزول توجهت إلى العاصمة الفرنسية وتنفست لأول مرة هواء الحرية.

مازلنا نطالب بالكشف عن مصير والدي

* كيف كانت تحركاتك في أوربا للتعريف بقضيتك؟ 
** بعد مغادرتي المغرب، اتصلت بمنظمات حقوقية فرنسية وتنظيمات سياسية مغربية سرية، تحدثت وأثرت موضوع المختطفين وسجناء الرأي العام في المغرب، وقمت بتأسيس إطار جمعوي للدفاع عن حقوق الهجرة والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين المدنيين والعسكريين وعودة المنفيين والمغتربين. لم تكن هناك، آنذاك، منظمات وجمعيات حقوقية، علما أن تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان جاء متأخرا. لكن التنسيق مع الضمائر الحية والشريفة في بلدنا لم ينقطع أبدا، إذ عملنا كجمعية في هولندا خاصة، وفي أوربا عامة، على تنظيم مهرجانات لتعضيد تجاربنا النضالية كمهاجرين وربطها بنضالات الشعب المغربي في الداخل، مع التركيز على مهرجانات تضامنية وأخرى تعريفية بالتجارب المضيئة في تاريخنا السياسي كتجربة عبد الكريم الخطابي وغيره.

* هل اتصلت بك هيأة الإنصاف والمصالحة التي كانت تنقب في سجلات الماضي بخصوص قضية والدك؟ 
** الهيأة التي تحدثت عنها طوقت الموضوع منذ البداية، وتسميتها كانت مطبوخة منذ البداية. فقبل أن نتحدث عن المصالحة وجب البحث عن الحقيقة ومتابعة الجناة أولا، ومحاكمتهم ثانيا. فالمصالحة أمر مرغوب وليس هناك أي مشكل، لكن الحقيقة سحبت من عمل الهيأة؛ ففي جلسات الاستماع تحدث المعذبون كثيرا دون أن نسمع شيئا عن المعذبين (بكسر الدال والباء)..

* هل طالبت أسرتكم بجبر الضرر؟
** المطالبة بجبر الضرر غير واردة بالطريقة التي أريد له أن يكون في المغرب.

* كيف ذلك؟** نحن تريد كشف الحقيقة حول ملابسات اختطاف والدي من السجن المركزي الذي كان تحت مسؤولية وزارة العدل والداخلية. نحن نطالب بالكشف عن مصيره، وعن كل المختطفين.

* هل طلبت منك هيأة الإنصاف والمصالحة المشاركة في جلسات الاستماع؟ 
** اتصل بنا فعلا عضو من الهياة مقيم في أوربا.

* من هو؟ 
** اتصل بنا ادريس اليزمي الرئيس الحالي لمجلس الجالية المغربية، ودعانا إلى المشاركة في لقاء إعلامي يتم فيه الربط بين الهجرة وواقع حقوق الإنسان، وطلب مني شخصيا المشاركة في الندوة. لكني رفضت بحكم أنه سبق لي أن شاركت حول نفس الموضوع في ندوات دولية وفي برلمانات أوروبية وأممية منذ مجيئي إلى أوربا، وقدمت شهادات في البرلمان الفرنسي وفي مقر المفوضية لحقوق الإنسان بجنيف واللجنة الأوربية لحقوق الإنسان بستراسبورغ. كما أنني أشرت، في لقاء ببروكسيل نظمته بعض الجمعيات الحقوقية، إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب، انطلاقا من الكشف عن الحقيقة للشعب المغربي ومعاقبة مرتكبي الجرائم وإبعاد مقترفيها عن المسؤوليات الحكومية والنيابية، احتراما لشهداء ومختطفي ومعتقلي الشعب. وإن اراد الشعب أن يتصالح آنذاك، فليكن له ما يريد.

لم يكن والدي
ينوي قتل أي كان

* راج حديث طويل في بعض تلفزيونات العرب والغرب، وسال حبر كثير ومقالات عدة في بعض الصحف والمجلات عن عائلة اعبابو. أنت كابن وأقرب شخصية من محمد اعبابو، كيف تنظر إلى مختلف هذه التعليقات والكتابات والوثائق؟ 
** أنا لا ألوم الإعلام، لكن كنت أنتظر من الجمعيات الحقيقية والتنظيمات السياسية- على الاقل- أن تلعب دورها وتسخر أدواتها للدفاع عن حقوقنا كأسرة مضطهدة، ومعها ملايين من المواطنين المهمشين والمحرومين؛ فقد عشنا كأسرة أحلك الظروف وأقساها، خاصة في الفترة ما بين 73 و75، حيث كانت ظاهرة الاختطافات متفشية بشكل رهيب. طرقت كل الأبواب، لكن السياسيين والصحافيين والكتاب غضوا الطرف آنذاك و«ضربوها بسكتة»، في الوقت الذي كانت القارة الأمريكية تعطينا دروسا في طرق وأدوات مقاومة ظاهرة الاختطاف، كما وقع في الشيلي، والأرجنتين والبيرو. و«دابا مللي بردات القضية بداو كيهاضرو!»».

* لكن الأحزاب السياسية في المغرب لم تكن تساند الانقلاب لكونها ترفض العنف وإراقة الدماء؟ 
** المشكل هنا ليس الانقلاب في حد ذاته، بل ما قامت به الدولة المغربية من خروقات، حيث اخترقت قوانينها باختطاف المسجونين والمحكومين من داخل سجونها بمن فيهم والدي الذي نجهل مصيره إلى اليوم، أي أن تلك الأحزاب كان مطلوبا منها، على الأقل، أن تكون متضامنة مع أسر المختطفين ومجهولي المصير.. هناك ناشطون سياسيون تدربوا على حمل السلاح في الخارج، ففي أي خانة نصنف هؤلاء؟

* لكن الجنود والضباط أطلقوا الرصاص وقتلوا المدنيين؟ ** في البداية لم تكن هناك نية القتل ضد أي كان، لكن الأمور تطورت وأصيب عمي وعمت الفوضى، خاصة بعدما وجد الجنود أنفسهم أمام موائد وصحون ذهبية مملوءة عن آخها بكل ما لذ وطاب، فثارت ثائرة جنود اهرمومو، وبدأوا بإتلاف الصحون وإطلاق النار في الهواء.

* لكن كيف تنظر أنت إلى قتل ضحايا مدنيين وضباط شباب لم يرتكبوا أي ذنب؟
** كل جيوش العالم ملزمة في قوانينها الداخلية بالذهاب إلى المعارك وتنفيذ الأوامر العسكرية المعمول بها. ليس هناك ضابط في العالم يحارب بصدر رحب. في كل عملية عسكرية أو ثورية ، هناك ضحايا يسقطون. و بما ان الأمور لم تسر كما خطط لها وقع الذي وقع. فوالدي لما كنت أزوره في السجن المركزي بالقنيطرة قال لي بالحرف إنه لم تكن لهم نية قتل أي كان، بل كانوا يرغبون في اعتقال مسؤولي الدولة ومحاكمتهم، وبالتالي إقامة نظام جمهوري.

دور محمد اليازغي في تلطيف الأجواء

* كنت من بين المغترين الذين عادوا إلى أرض الوطن. لماذا عدت إذن؟. 
** عودتي إلى المغرب تمت بعد 30 سنة من الاغتراب. عدت في 1994، حيث نظمت جلسات خاصة بوضعية حقوق الانسان بالمغرب في أميان الفرنسية في شهر مايو من 1994 وشارك فيها برلمانيون وسياسيون وقدمت استشارة للملك الراحل الحسن الثاني آنذاك لتلطيف الاجواء السياسية بفتح ملفات المعتقلين والمغتربين والمختطفين في المغرب وإمكانية عودة المنفيين. فليس من المستبعد أن يكون اليازغي ممن ساهموا في لعب هذا الدور في نقل الاستشارة، لكنني كنت من الذين رفضوا أن تربط عودتهم بالعفو الملكي.

* وما هو سبب عودتك إذن؟** في أكتوبر من 1994 كان هناك اتصال بوالدتي المرحومة، حيث سلمت لها ورقة «وسخة» وليست وثيقة رسمية تدعي بأن والدي محمد اعبابو توفي بالريش 1976. آذاك، عدت إلى المغرب للوقوف مع العائلة والرد على كذب المسؤولين في ما يتعلق بالشهادة الوهمية التي سلمت لأمي المرحومة، وكذلك لطرح أسئلة تهم موضوع والدي واستدعاء طبيب خاص للتأكد من الشهادة ومعرفة إن كان والدي فعلا توفي بالريش، وإن كان هناك فعلا معتقل سري بتلك المنطقة. اتصلت بوزارة حقوق الإنسان للتحدث مع الوزير، لكن هذا الأخير كان في مهمة بمدينة مراكش لحضور مؤتمر، فالتقيت بمدير ديوانه، وسألته عن ملف والدي، وعن «شهادة» الوفاة، وسألته إن كان هناك فعلا سجن في الريش.. أجابني بالنفي، لكنه لم يستطع تقديم أية اجوبة تذكر، وقال إن الملف بيد القصر.

* أسستم بأوروبا جمعية أقارب وأصدقاء المختطفين ومجهولي المصير. هل وصلتم إلى الأهداف التي سطرتموها آنذاك؟ 
** اتصلنا في أوربا بجميع الإطارات الحقوقية، وكانت لدينا لقاءات مع مسؤولي الدول الأوربية وهيئاتهم في كل من جنيف وستراسبورغ. وكان الهدف الأكبر هو البحث عن الحقيقة والكشف عن مجهولي المصير، ونحن مازلنا كأسر وكأصدقاء وكأبناء الشعب المغربي مصرين على تحقيق الهدف إن عاجلا أم آجلا.

* ماذا عن لقاءاتكم بهيأة الإنصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان؟ 
** تحدثنا كثيرا معهم. لقد اصدروا تقريرهم الختامي ولكنهم سحبوا كلمة الاختطاف من قاموسهم، وتحدثوا عن 66 حالة مستعصية، ومازلنا ننتظر الحقيقية. لكنني أجدني مضطرا للقول إن ملفاتنا وقضايانا هي أقوى من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. ونحن ورفاقنا في الداخل مازلنا ننتظر الحقيقة التي أريد لها الإقبار على ما يبدو.

* هل كان لك لقاء مع رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان؟ 
** نعم، جالست أحمد حرزني بأمستردام، وتحدثت معه في قضية والدي، وناقشت معه الشهادة التي سلمت للأسرة، ثم ذكرته بالتناقض مع وثيقة أخرى مكتوب عليها إن السيد محمد اعبابو كان ضابطا في الجيش أبوه..... ووالدته..... أنه رهن الاعتقال.. وهي الوثيقة التي تعود إلى 1982، وأن والدي كان متابعا قانونيا. هذه الوثيقة سلمتها سلطات البلاد إلى لجنة حقوق الإنسان الأممية، فكيف يعقل أن يعترف بوفاة والدي في السبعينات، ويكون متابعا قانونيا في الثمانينات؟
رد السلطات المغربية كان عبارة عن مراسلة توصلت بها من المفوضية الدولية لحقوق الإنسان، وموقعة من طرف رئيسها مكارتي. وقد سلمته، في جلسات أميان (1994)، لليازغي الذي كان حاضرا لقراءتها لكونه خبيرا قانونيا، فقال لي اليازغي «السي عبد الغني.. الحمد لله إلى حدود التاريخ المشار إليه في المراسلة فهو على قيد الحياة، مادام هو متابع قانونيا»». طرحنا ذلك على رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ومدير ديوان وزارة حقوق الإنسان، فلم نتلق أي جواب من الاثنين معا، مما يؤكد أن الملف أقوى، مادام الطرفان معا يتحدثان عن وجود جهات عليا.

مازلت أعيش كوابيس السبعينات

* هل ستعود يوما ما كي تستقر نهائيا في المغرب بعد وفاة المرحومة أمك وغياب الحقيقة التي تنتظرها؟ 
** هذا طموحي دائما، ويشغل بالي. فالمغرب هو بلدي. لقد أمضيت 30 سنة في هولندا، وفي عدة أحيان مازلت أعيش كابوس أحداث السبعينات. لقد توقف عمري حقيقة في 17 سنة، لكن عودتي إلى البلد في الظرف الحالي غير واردة، غير أن حياتي هنا أو هناك مرتبطة بالارتياح.

على ما يبدو أنت غير مرتاح لا في المغرب ولا في هولندا؟ 
** كتب علي أن أعيش في العذاب.

الانقلاب وقع جوابا عن الظروف التي كان يعيشها المغرب

* قال بوزوبع محامي محمد اعبابو في المحكمة أثناء مرافعته إن محمد اعبابو هو ضحية الثقة في أخيه امحمد وضحية رابطة الدم، فهل تساير بوزوبع في رأيه؟
** كل محام له طريقته ووسائله في محاولة الدفاع عن موكله. بالنسبة لوالدي كانت تربطه علاقة قوية بعمي وقد سبق لوالدي أن تحدث معي خلال مقابلاتي له في السجن المركزي ولم يتفوه ولو بكلمة عن هذه الترهات...

* هناك ملاحظة مثيرة وهي: إن الكولونيل محمد اعبابو والدك وعمك الكولونيل امحمد عبابو وعمك الآخر ضابط صف عبد العزيز عبابو كلهم شاركوا في انقلاب الصخيرات، هل هناك جينات انقلابية في عائلتكم؟
** الانقلاب وقع جوابا عن الظروف التي كان يعيشها المغرب، أي بلغة أكثر وضوحا، ففكرة تغيير النظام وقلبه لم تكن لتعبر عن إرادة شخصية أو عائلية. فكان من الأجدر طرح السؤال حول الأسباب الحقيقية التي أدت إلى العملية.

* في المحاكمة قال والدك محمد عبابو «إني اؤكد لكم بأني لم أقم بخيانة وتصرفت كضابط نموذجي، كل ما أتمناه -أيا كان مصيري - هو الا يتم بصم عائلتي ببصمة الخيانة». ما تعليقك على هذا القول؟ 
** لدى زياراتي لوالدي بالسجن المركزي بالقنيطرة بعد المحاكمة لاحظت أنه كان قلقا على مصير البلاد التي تعرضت للنهب واستحواذ مسؤولين ووزراء الدولة على الأراضي وتحويل القروض الدولية إلى أبناك خارج المغرب، وكان والدي يعي جيدا بأن العقلية الانتقامية كانت حاضرة لدى الحاكمين وتجلت في تازمامارت والمخافر السرية و... و... فيما بعد وكابن مقاوم في جيش التحرير مع محمد بن عبد الكريم الخطابي في ثورته وابن أول قرية «بورد» انطلقت منها أول رصاصة ضد المحتل، كيف سيكون موقف محمد اعبابو في المحاكمة إذا تعلق الامر بأمن ومستقبل أسرته ومجموع أسر الشعب المغربي، أيا كان مصيره.
كتب بواسطة: Driss Raougui



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *