محمود حسين يتحدث عن علاقة المصريين بالسلطة بعد ثورة يناير
محمود حسين يتحدث عن علاقة المصريين بالسلطة بعد ثورة يناير
أخيراً، بدأ محمود حسين كتابة سيرته الذاتية التي طالما طالبتُه بها، وبخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة. في بداية أي كلام عنه يجد الكاتب نفسه مضطراً لتوضيح مهم: أن محمود حسين اسم مستعار. وهو ليس اسماً لشخص وإنما لشخصين معاً، هما الكاتبان المصريان المقيمان منذ منتصف ستينات القرن العشرين في باريس: بهجت النادي وعادل رفعت، مشكلين تجربة فريدة في الحياة وفي الكتابة. تعود قصة حملهما لاسم مشترك مستعار إلى مصادفة غريبة. فعندما ذهبا إلى الناشر الفرنسي المعروف، ماسبيرو، لنشر كتابهما الأول «صراع الطبقات في مصر»، رحَّب بنشره لكنه قال لهما إنه لا يمكنه نشر كتاب يحمل اسمين لمؤلفين غير معروفين لأنه لن يباع، وطلب منهما أن يختارا كتابة اسم أحدهما فقط على الغلاف. لم يستسيغا المقترح لأنه سينفي الآخر الذي لن يكتب اسمه. واقترحا أن يختارا اسماً مشتركاً لهما، واختارا محمود حسين الذي لم يكن يعني لهما شيئاً سوى أنه اسم شائع في مصر وربما في بقية الدول العربية. نجح الكتاب الأول وبدأ اسم محمود حسين يشتهر، فواصلا الكتابة به... هكذا ببساطة!
الأهم هو لماذا واصلا الكتابة معاً؟ ليس فقط لأنهما صديقان حميمان استطاعا الحفاظ على هذه العلاقة الشخصية طوال عمرهما، ولكن لأنهما أيضاً اختارا وأحبَّا العمل الفكري معاً بدءاً من التفكير في مواضيع أو معالجات جديدة لم يتطرق إليها أحد قبلهما، ثم البحث عن المراجع والمصادر المتنوعة بما فيها المصادر الحيَّة ودراستها، وانتهاء بالصياغة باللغة الفرنسية التي أتقناها تماماً والتي تمر بمراحل عدة حتى الصياغة النهائية بأسلوب ميَّز كتابتهما. لا يعني هذا أنهما ينطلقان من نظرة أو رأي مشترك في الأحوال كافة، فهما في الواقع شخصيتان مختلفتان في كثير من السمات بدءاً من الشكلية. لكن النقاش الذي لا يتوقف بينهما ينتهي على اتفاق على ما هو مشترك لصوغه ونشره. إنه حقاً تاريخ شخصي/ فكري على حدة، وهذا عرض مبسط له، لكن يبقى من المؤكد أن شيئاً سرياً أو سحرياً قدرياً فوق هذا العرض يجمع بينهما، على رغم إيمانهما بالمذهب العلمي السياسي.
التقى بهجت وعادل للمرة الأولى في مناسبة «ثورية»: كانا طالبين، بهجت في السنة الأولى في كلية الطب بجامعة القاهرة وعادل في المدرسة الثانوية. كان مؤتمر باندونج بدأ في 18 نيسان (أبريل) 1955 في أندونيسيا وجمع قادة دول أفريقية وآسيوية ومهَّد لإنشاء حركة عدم الانحياز. أراد شباب يساري في القاهرة تكوين لجنة للدفاع عن مبادئ هذا المؤتمر. كانت تلك وسيلة لممارسة سياسية مستقلة عن النظام. التقيا أثناء أحد اجتماعات هذه اللجنة. بعد ذلك بسنوات قليلة، وبعد أن اعتقل عبدالناصر قيادات في جماعة «الإخوان المسلمين» للمرة الأولى، جاء الدور على الماركسيين في حملة كبرى. هكذا التقى بهجت وعادل مرة أخرى داخل أحد المعتقلات عام 1959، وبدأ تاريخ مشترك جديد بينهما. تنقلا بين سجون ومعتقلات عدة حتى العام 1964. انتهى تاريخ المعتقلات عندهما بالأسوأ وهو معتقل «الخارجة»، في قلب الصحراء الغربية. كان يستغرق الوصول إليه في ذلك الوقت من القاهرة 18 ساعة متواصلة. توقف تعذيب المعتقلين بعدما مات أحد قادة اليسار من التعذيب. ثم أفرج عبدالناصر عنهم ليس بسبب براءتهم، فهم لم يحاكموا أبداً، ولكن بسبب زيارة خروشوف، زعيم الحزب الشيوعي ورئيس الوزراء السوفياتي لمصر للمشاركة في الاحتفالات بتحويل مجرى نهر النيل لإنشاء السد العالي في منتصف آيار (مايو) 1964.
هكذا خرج بهجت وعادل من المعتقل ومن بعد من مصر كلها. في إحدى المرات التي طالبتهما فيها بكتابة مذكراتهما قال لي بهجت: أنا لا أرى أن حياتي مهمة لدرجة أن أكتب سيرتها. واختلفتُ معه في الرأي، لست هنا بصدد استعراض مبررات أهمية تجربة محمود حسين الحياتية وما مرَّا به من خبرات وتجارب ومواقف ومعارف وعلاقات شخصية مع سياسيين وأدباء وفنانين من أنحاء مختلفة من العالم، بدءاً بتجربة المعتقل التي كرَّسا لها روايتهما الأولى، ثم فترة عملهما الطويلة في اليونسكو، ومسؤوليتهما عن تحرير مجلتها الدولية، والكتب الفكرية التي أصدراها. في العام الماضي أبلغاني أنهما بدءاً في كتابة أول رواية لهما، وأنها مزيج من الواقع والخيال، وأن ما بها من واقع يتضمن أحداثاً من سيرتهما الذاتية. فرحتُ، فها هما يتسربلان بغطاء يمنحهما حرية حكي سيرة ذاتية ليس فيها ما يخجل على الإطلاق بل العكس. كنت أتابع أخبار الرواية في أحاديثنا الهاتفية التي لا تنقطع وبخاصة خلال فترة مرضي الأخيرة. أخبار التقدم في الكتابة، وتوقيع العقد مع الناشر (غاليمار)، وحتى صدور الرواية أخيراً بالفرنسية.
ومع أول مسافر أعرفه من باريس حمَّلاه الرواية بإهداء دال يؤكد السيرة الذاتية في الرواية: «إلى الصديق والأخ سمير غريب، هذه الصفحات من تاريخ قديم لا يكف عن ملاحقتنا. مع خالص الود. بهجت – عادل». كتبا الرواية بأسلوب مختلف عما اعتادا عليه في كتبهما الفكرية السابقة. أسلوب فاجأني شخصياً بشاعريته وعاطفيته. ليستعيدا ذكريات مصر في سنوات المعتقلات بما فيها من أحداث ولدت حينها، ولكن أيضاً ليرويا قصة حب رائعة متخيَّلة. فيها شخصيتان أو بطلان: طالب وطالبة في كلية الطب التي دخلها بهجت بالفعل ولم يكمل تعليمه فيها. في هذه القصة يتداخل الواقعي بالمتخيل. فالطالب شاب وطني مثالي متمرد يؤمن بفكرة العدالة. لديه إحساس قوي بذاته. رأته زميلته الفتاة الجميلة «نادية»، فقررت التعرف إليه، ذلك لأنه رغم شجاعته لا يبادر بالتعرف إلى الفتيات! الفتاة هي المبادِرة، وهي أيضاً من وسط اجتماعي أعلى منه بكثير. لكن الحب غلب. فجأة تم اعتقال الحبيب/ الطالب/ الراوي مع آخرين ضمن حملة عبدالناصر العام 1959 ضد الشيوعيين. ظل متنقلاً بين معتقلات النظام حتى 1964. تتشابك الرواية عبر أزمنة عدة: زمن حياته اليومية في معتقل الفيوم في قلب الصحراء، زمن طفولته وسط عائلة متواضعة في إحدى قرى دلتا مصر، زمن تفتحه على حب جعل نقاءه يجلي الاختبارات التي يمر بها. تنتظره حبيبته «نادية» تسعة أشهر كان فيها معتقلاً. كانت تكتب له خلالها كل يوم رسالة طويلة تحكي له فيها عما تفعل، وما تفكر فيه. كانت تتحدث إليه كما لو كان يجلس بجانبها. وهي لا تعرف ما إذا كانت رسائلها تصل إليه. إلى متى تظل شابة جميلة ومستقلة متمسكة به؟ وإلى متى يوافق على أن تستمر في تعلقها به؟ هكذا قدم لنا محمود حسين رواية ملهمة، تأسرنا بتصويرها لعقليات وأحداث فترة قليلاً ما تناولها الأدب، وتغوينا بموسيقى تذكرنا بهؤلاء الذين آمنوا بأحلامهم، وبأن للعالم، حتى في قلب المحن، صباح. في المعتقل الوقت كله للتأمل والتذكر. تترى ذكريات طفولة الراوي في قريته التي تشبه قرى مصر كافة، وبخاصة في الدلتا. ذكرياته مع أسرته وزملائه وأهل القرية منسوجة بمحبة وشجن. منهم «عزيزة»، جارتهم في فارسكور، التابعة لمحافظة دمياط، في شمال مصر، وزوجها البحار، التي كانت تحكي له حكايات أسعدته. ولم ينس قوات التدخل السريع في ذلك الوقت «الهجَّانة»، وهم من بلاد النوبة والسودان يركبون الجمال.
ويتحدث الراوي الشاب عن اكتشافه الكتب والكلاسيكيات ومنها الإلياذة والأوديسة وأهم ما استفاد منهما وبخاصة قيم الحرية والعدالة، ومنها استمد عنوان روايته «تحدي الآلهة». وتذكره بمحبة، اكتشافه للكاتب الإسلامي خالد محمد خالد وتعرفه إليه ومحاولته الجمع بين الدين والسياسة في فكر واحد. وهذا من جوانب السيرة الذاتية في الرواية البديعة. إنها قصة حب شخصية، لكنها أيضاً قصة حب للوطن وللناس. قصة رومانسية ولكنها سياسية أيضاً. فهذه الفتاة مثلت مصر للفتى في شكل أو آخر وبطريقة غير مباشرة. استلهم محمود حسين عنوان الرواية «تحدي الآلهة» من «أوديسيوس»، ملك «إيتاكا» في ملحمتي هوميروس الشهيرتين «الإلياذة والأوديسة»، الذي تحدى إله البحر «بوسيدون» وتحدى بحارته المتعددو الإلوهية «أبولو». لكن لا آلهة ولا أساطير إغريقية في رواية محمود حسين. فيها تحدٍ حديث هو تحدي بطل الرواية وزملائه لنظام الرئيس جمال عبدالناصر، وفيها أيضاً ما يذكرك بحب «بنيلوب»، زوجة أوديسيوس الخالد لزوجها الغائب. هكذا كانت «نادية» بالنسبة الى حبيبها المعتقل، وقد انتهت الرواية بالنسبة إليها نهاية مفتوحة، فلا نعرف هل استمرت على حبه منتظرة الإفراج عنه، أم انصرفت عنه بعد طول انتظار؟
عن موقع
عن موقع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق