جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

في ضرورة الاهتمام بالمسألة الثقافية أناس عوينات

 

في ضرورة الاهتمام بالمسألة الثقافية
أناس عوينات
الثقافة بنية معقدة و مركبة تشكل المرجعية الوحيدة للفعل الفردي و الاجتماعي. فهي أساس التمثلات الاجتماعية للعالم و التاريخ و المجتمع التي تحدد نمط الإدراك و السلوك. إنها الثقافة بمعناها الأنتروبولوجي العام الذي يعتبرها تتشكل من مجموع العادات و التقاليد و الأعراف و الدين و القانون و العلوم و كل ما يدخل في إطار الإنتاج الفكري التاريخي للمجتمع.
العادة:
تهيمن الثقافة على السلوك عبر آلية التعود فتخلق له نمطا محددا يؤطر التفاعل و العلاقات الاجتماعية . صحيح أن أنظمة العلاقات الاجتماعية تتغير بفعل عمليات عقلية تستند إلى قراءة و تحليل الواقع و البراهين و الأدلة المنطقية التي تفرض تغيرات معينة في العلاقات و أنماط السلوك، إلا أن هذه التغيرات تبقى وسط النظام الاجتماعي العام مجرد تغيرات طفيفة أمام فعل العادة التي تجر البنية العامة لهذا النظام برمتها. أما التغيرات الكبرى التي تقلب أنظمة العلاقات بشكل عام فتستوجب حدوث طفرات حقيقية في البنيات الاجتماعية لتحدث قطائع كبرى في الوعي الاجتماعي العام و بالتالي في الثقافة نفسها.
الإيديولوجيا:
من نظرة أفقية على التاريخ السياسي للعالم، نصادف قصصا متكررة لحروب غير متكافئة العدة و العدد. تنهزم فيها الفئة القوية. أو على الأقل تصمد الفئة الضعيفة صمودا أسطوريا يسجله التاريخ. و من نماذج ذلك، صمود الإغريق أمام حملات الأخمينيين الفرس المتفوقين عددا و عدة، و أبرز ملاحم الصمود هاته معركة ثرموبلاي التي حاول فيها الجيش الإغريقي قليل العدد بقيادة ليونيداس الاسبارطي، إيقاف جيش أحشوريوش الأول. و غزوات دولة الإسلام الأولى التي استمات في المسلمون لتوحيد العرب و بناء الدولة و توسعها. و معركة أنوال الخالدة في تاريخ المغرب الحديث التي نهزمت فيها آلة الحرب الإسبانية أمام استماتة جيش الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، و استمرار المقاومة الفلسطينية الباسلة في الصمود أمام آلة الحرب الصهيو-أمريكية ... إلخ. صحيح أن صمود أو انتصار هذه الجيوش الضعيفة أمام الجيوش التي تفوقها عدة و عددا يرجع بنسبة معينة لأسباب مرتبطة بالجغرافيا و الخطط الحربية و مدى جاهزية الجيوش، إلا أن السبب الرئيس في الدفع بالصمود أمام القوى الكبيرة إلى مداه هو سبب نفسي-اجتماعي، هو قوة دافعة موحدة للجيش الضعيف و الذي عادة ما يكون في حالة دفاع عن الأرض و الحق في الوجود. إنها إيديولوجيا موحدة تستمد عناصرها المحركة من ثقافة الشعب من دينه و عاداته و تقاليده و علاقاته الاجتماعية و تاريخه و ذاكرته الجماعية. فالجيوش المهاجمة غالبا ما تكون قوتها في عددها و ضعفها أيضا فيه. فهي تكون غالبا جيوش لقيطة من قوميات مختلفة لا توحدها ثقافة إثنية معينة و هذا بالتأكيد مصدر ضعف في الحروب القديمة.
هكذا تحدد الإيديولوجيا نمط الفعل الاجتماعي.و تقوم عمليات التنشئة الاجتماعية التي تهدف إلى إعادة الإنتاج الاجتماعي و الثقافي على البناء المتجدد لهذه الإيديولوجيا المحركة وسط التناقض البنيوي بين العناصر الثقافية التقدمية و العناصر الثقافية المحافظة ، أي بين نمطين من عمليات التثقيف، نمط ينطلق من الثقافة الشعبية بهدف تجاوز بنياتها المعيقة للتطور الطبيعي للمجتمع، و نمط ينطلق أيضا من الثقافة الشعبية ولكن بهدف إعادة إنتاجها كما هي من جديد.
في التناقض بين التثقيف التقدمي و التربية:
مفهوم التثقيف مفهوم تفاعلي يضع الأشخاص فوق صعيد الثقافة بشكل متساو حيث يكون التفاعل في اختيار عناصر الثقافة المستعملة و طرق استعمالها و محاولة إحداث تغيير مزدوج في بنية الثقافة نفسها و في أثرها في الفعل الاجتماعي، و ذلك ضمن اتجاهين متناقضين، اتجاه يأخذ منحى حركة التاريخ التقدمية الذي يفرضه تطور البنيات الاجتماعية و ما يحدثه في الوعي و الثقافة من تغيرات ضرورية للاستمرار و التطور الطبيعي و اتجاه يسعى للحفاظ على البنيات الثقافية، و من خلالها يسعى إلى كبح التطور الطبيعي للبنيات الاجتماعية و في هذا الاتجاه بالذات يتماهى التثقيف مع التنشئة الاجتماعية التي تحدث عبر المؤسسات الاجتماعية الأساسية كالأسرة و المدرسة و المؤسسات الدينية و الإعلام و التي تعمل على إعادة الإنتاج بتعبير بيير بورديو.
تشكل العادات و التقاليد و الأعراف و الدين، الجزء الأكبر من البنية الداخلية للثقافة، فالعادة و التقليد هما أهم مصادر الإدراك، و أساس اشتغال آليات التنشئة الاجتماعية. فتشكلان وعي الفرد و إدراكه للعالم و المجتمع، منذ طفولته، و تستمران في التحكم في الجانب الكبير من هذا الوعي و الإدراك عند نضجه الفكري و المعرفي. و لهذا يشكل هذان العنصران مجال تدخل و مصدر آليات "التثقيف المحافظ" أو "التنشئة الاجتماعية" أو "التربية". التي تقوم على علاقة تراتبية سلطوية تجعل المربي هو وحده المتمثل للثقافة أما الخاضع لعملية التربية فهو فقط متلقي لا يعرف شيئا و عليه أن يخضع لتلقي هذه الثقافة و تتجسد هذه العلاقة بشكل واضح في علاقة الشيخ بالمريد الصوفية.
أما العلوم و مجمل العناصر الثقافية الواردة من التطور الطبيعي للبنيات الاجتماعية و الاقتصادية فلا تحتل إلا حيزا ضئيلا من الثقافة العامة للمجتمع. و لا تتوغل بعض هذه العناصر في قلب البنية الداخلية للثقافة إلا بعد صراع مرير ضد العناصر القديمة. هذا الصراع بالضبط هو الذي على القوى التقدمية في المجتمع أن تحمله محمل الجد. فلا يمكن التخلص من القوى الثقافية التي تجر الفعل الاجتماعي إلى الوراء إلا إذا تحمل من يسميه غرامشي المثقف العضوي مسؤولية التثقيف التقدمي أي حمل العناصر الثقافية الواردة من تطور البنيات الاجتماعية إلى قلب ثقافة المجتمع. و مصارعة القديم و البائد فيها. و عملية التثقيف هاته ليست عملية تعليمية أو تربوية، فهي ليست من عمليات التنشئة الاجتماعية. بل هي عملية تفاعلية تنطلق من الواقع الثقافي لإزالة ما يكبح تطوره الطبيعي. هي إذا عملية سلبية بمعنى أنها تزيل و لا تضيف لأن الإضافات الثقافية التقدمية هي إضافات طبيعية تنبع من التقدم العلمي و من تطور البنيات الاجتماعية و الاقتصادية نفسها.

فعملية التثقيف التقدمي بهذا المعنى هي عملية تكسير التقليد و ما ينتجه من عادة تعرقل التقدم العام للمجتمع، تهدف إلى جعل الفاعل الاجتماعي يسائل فعله باستمرار، و لا سبيل إلى ذلك إلا بعرض و تحليل الواقع الملموس كما هو. و لهذا أنتج التطور الطبيعي للتفكير في المجتمع و التاريخ هذا الصرح الفكري الذي يسمى بالفكر الماركسي. فإذا كان الفكر الماركسي هو تحليل الواقع الملموس كما يقول لينين فكيف يمكن أن نعتبر أن الفكر الماركسي أهمل المسألة الثقافية.
هل أهملت الماركسية المسألة الثقافية؟
لا يتسع المجال للرد على الادعاءات الما بعد حداثية التي تقول أن الماركسية أهملت المسألة الثقافية و التي للأسف أصبح يتردد صداها عند بعض المتمركسين الذين يغيب عنهم الفهم الصحيح للثقافة بل وتغيب عنهم أصلا فلسفة الماركسية، التي هي فلسفة الفعل و التغيير مقابل فلسفات الفهم و التأويل و التفسير.
هناك انحرافان في فهم الماركسية يقودان إلى التماهي مع هذا الطرح: أولهما الفهم البنيوي التجزيئي الذي يتعامل مع الكليانية الماركسية كتركيب لمجموعة من البنى المعرفية المنفصلة، و الذي يفصل في الماركسية بين المنهج و النظرية و يقسم النظرية إلى فلسفة و علم اجتماع و علم التاريخ و علم الاقتصاد السياسي. فتنحصر المسألة الثقافية بهذا الفهم في بنية الفلسفة الماركسية، مع صعوبة حصر حدود علم الاجتماع الماركسي، حيث يتم التعامل مع هذه الفلسفة ابستمولوجيا كباقي الفلسفات المادية منها و المثالية من حيث البحث في موضوع الفلسفة الذي تم تقزيمه في منظومة القيم و الأخلاق بعد تصدير كافة موضوعاتها لما يسمى علم الاجتماع بشتى فروعه.
و الانحراف الثاني هو الفهم الميكانيكي لنظرية البنى الماركسية الذي يفصل تماما بين البنية الفوقية و البنية التحتية و يجعل العلاقة بينهما علاقة تفاعل خارجية. يقود هذا الفهم إلى اعتبار الأساس المادي للمجتمع منفصلا عن تمظهرات الوعي الاجتماعي و العناصر الثقافية المكونة للبنية الفوقية فتصبح بهذا المعنى البنية الفوقية منتوج للبنية التحتية منفصل عنها و تأثيره فيها يكون تأثيرا موضوعيا مثل تأثير أي مصنوع في صانعه . بيد أن علاقة البنية الفوقية للمجتمع ببنيته التحتية تتجاوز هده العلاقة الميكانيكية السطحية فهي علاقة وحدة منسجمة لا يمكن أبدا فصل أجزائها عن بعضها. فلا البنية التحتية للمجتمع يمكنها أن تقوم دون بنيته الفوقية و لا العكس. فهل يمكن أن نتحدث مثلا عن علاقات الإنتاج بشكل منفصل عن البعد الاجتماعي لهذه العلاقات ؟ أبدا. فالماركسية تستعمل مفهوم "العلاقات الاجتماعية للإنتاج" و لا تتحدث عن علاقات الإنتاج كعلاقات اقتصادية جافة تنحصر في بنية تحتية معزولة عن الأبعاد الاجتماعية و الثقافية.
هكذا يقود الانحراف الأول إلى جعل الماركسية لا تتناول المسألة الثقافية إلا لماما. بينما يقود الانحراف الثاني إلى جعلها تتناول المسألة الثقافية كقضية ثانوية متأثرة بالصراع الطبقي و غير مؤثرة فيه. بيد أن الماركسية أعلنت حربا مزدوجة على المادية الميكانيكية و فلسفتها التفسيرية و على المثالية الفلسفية معا معلنة فلسفة الفعل و التغيير في فهم كلي للمجتمع و التاريخ لا تنفصل فيه بنيات المجتمع عن بعضها إلا في الدراسة بالقدر الذي يسهل تحليل الواقع الملموس لكن الصراع الطبقي محرك التاريخ و المجتمع لا يدور في بنية بمعزل عن الأخرى و لا يمكن للطبقات التقدمية أن تكسب رهان التغيير إلا إذا وعت ضرورة خوض هذا الصراع على جميع مستوياته إذ لا يمكن تأجيل جزء هو أصلا لا يتجزأ من الصراع الطبقي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *