جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

حانوتيون من الهدى هولدينغ للكاتب المرحوم أحمد طليمات

 الكاتب أحمد طليمات يستشرف موته ( تقاعده المريح) قبل ثمان سنوات ... يكتبها في خمسة أشهر ..

...................................................................................................................
حانوتيون من الهدى هولدينغ
................................ للكاتب المرحوم أحمد طليمات
..................................
لما جاءني الموت ، جاءني سلسا ، مسالما ، بل ومنادما ، إذ كنا معا على موعد ، مع آخر ثمالة في آخر كأس .
استقبلته بإبهام مرفوعة ، ذات دلالة استحسانية ، بدلا من تلك السبابة المرفوعة المفزوعة منذ الأزل ...
ذلك أن الموت ، في آخر المطاف ، ليس إلا تقاعدا جد مريح ، بعد أن نكون قد شبعنا وحتى التخمة ، من تدافعات واصطخابات الحياة ...
وأنا ما أزال أموت ، امتدت يد أحدهم ، أو إحداهن ، لتنزل إبهام الاستحسان والانتشاء ، رافعة بدلها ، تلك الإصبع التي طالما عرفت لدى قومنا بالبراغماتية الفائقة ، والرعب الفائق ... والتي ظلت طيلة مقامها بيميني أنا ، مستقلة في اتخاذ قراراتها ...
لم أكن غير مبال بما يحدث حولي ، بل كنت منخرطا بكل ما تبقى لدي من إمكانات التقاطية ، في التقاط النواح ، وصيغ الندب ، والترحمات ، فضلا عن تلك الكليشهات المناسباتية ، من قبيل : ( كلنا هنا ) و ( لله ما أعطى وله ما أخذ ) ومن قبيل تعداد فضائل المقنفج ، حتى وإن كان قد عاش حياته منقوعا في النقائص والرذائل ، ما كبر منها وما صغر ...
فكرت حينها في أن أفرج عما تبقى في حنجرتي من صحيح الكلام ، لأقول لهم : " رجاء يا ناس ، لا تغنصوا علي مماتي ، فلكم هو لذيذ هذا الذي تخافونه " ، ولكني أحجمت ، لأن بعض المعزيات والمعزين ممن أعرف آراءهم في ، كانوا سيعقلون حينها : " إنه غريب الأطوار حتى في مماته " .
بعد لأي ، التقطت تعزية خاصة من معزين خاصين ، موفدين ــ كما قدموا أنفسهم ــ من لدن الهدى هولدينغ ، ثم ما لبث هؤلاء الموفدون ذوو السمت الموحد ، والحركات والسكنات والتلفظات الموحدة ، أن عرضوا على زوجة المرحوم ــ الذي هو أنا ــ خدماتهم المماتية الإحسانية ، من الغسل إلى التكفين إلى الدفن ، مع التكفل بجميع اللوازم والكلفات ، فضلا عن التبرع على المشيعين بخطبة في الموضوع .
وإن كان إكرام الميت في دفنه فإن هذا الدفن لا ينبغي له أن يتأخر ...
هذه ( اللاينبغي ) ، أثارت اعتراضات زوجة المرحوم ــ الذي هو أنا ــ وأصهاره ، وأقاربه ، الذين قالوا بوجوب انتظار أبناء المرحوم وأحفاده الموجودين خارج الديار ، وتأجيل الجنازة ــ جنازتي أنا ــ إلى اليوم الموالي .
واحتدم الجدال بين أخذ ورد ، وحجاج ، وحجاج مضاد ، ليحسم في النهاية لصالح الموفدين الفوريين ، المسلحين بمعارف متينة في الموت والموتى ، ومنذ أن كان هناك موت ، ومنذ أن كان هناك مسلمون يموتون ...
فكرت مرة أخرى ، في أن أفتح فمي لأبين لهم تهافت معارفهم ، ولكني أحجمت ، مخافة أن أتهم بأنني ــ وكعادتي على الدوام ــ أتدخل فيما لا يعنيني ...
ولأن الموت قد جاءني بغرفة لخلواتي الخاصة ، بالطابق العلوي ، فقد انسحب المتجادلون ، المنتصرون منهم ، والمنهزمون ، ليحضروا لوازم غسلي ، وتكفيني بالطابق التحتي من البيت .
فكرت فور انسحابهم ، وبما تبقى لدي من مخ ، في أن علي أن أفشل القرار التحكمي للفوريين ، فخاطبت موتي ــ والحال أننا معا على نوع ما من الحلول ــ : رجاء ، هلا ساعدتني يا سيدي الموت ، في الوصول إلى غرفة بالسطح ، خصصناها لما استغنينا عنه من متقادم أو متلاش ...
وأنا ممدد على ظهري ، وعلى الهيئة التي يقضيها الموت ، كنت أتساءل ــ وبما تبقى لدي من شغب التسآل ــ عما إذا كانت الأحلام تزورنا في الموت ، وتمنيت لو أنها تزورني ، فتاتي الأولى ، وحروفي الهجائية في الحب والاندغام ...
عندما عاد الموفدون الفوريون ، وبعض من أهلي إلى الطابق العلوي ، حيث تركوني في حراسة الموت ، قصد إنزالي إلى غرفة تحتية فارغة ، للشروع في أولى ممارستهم التحكمية على المغسل ، أصابهم ــ وكما يمكن لكم أن تتصوروا ــ مس من انذهال ، واحتيار وانخراس ، قبل أن تندلق تفسيرات الموفدين وتأويلاتهم ، مستنجدين بمعارفهم الجاهزة ... فمنهم من شيطن اختفائي ، ومنهم من رحمنه ، ومنهم من جعل الأرض تبلعني، ومنهم من جعل السماء ترفعني .
أما أهلي الطيبون ، فعندما يقررون البحث عني ، بقليل من الفطنة واليقظة ، وعندما يتخلصون من إغواء الأسطرة و الأكرمة ، فسينتبهون إلى غرفة المتلاشيات ، وحدها لم يطلها التفتيش ...
هناك إذن سيجدونني ممددا على ظهري ، مغمض العينين ، وضيء المحيا ، باسم الثغر ، لأني مكرت بأولئك الموفدين الفوريين وببروتوكولات فقهائهم ...
ولأني بت الليلة الأولى لموتي، على وعد أكيد ، بحلم أكيد ... وفاكهة ...
فبراير ــ يونيو 2012
...........................................................................ــــ
ــــ أحمد طليمات ، الهدى هولدينغ ، أقاصيص ، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش ، ط 1 / 2018 ، ص . 57 / 62 ..
...............................................................
مع محبتي الشعرية
...........................


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *