جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

بوحمارة ومن معه في "درب مولاي الشريف" عبد الرحيم التوراني*

 بوحمارة ومن معه في "درب مولاي الشريف"

عبد الرحيم التوراني*
بعد أعوام طويلة، سمحت لي العائلة بالدخول إلى الغرفة التي تحتضن خزانة جدي من والدي. كان جدي موظفا عدليا بمحكمة فاس في عهد السلطان المولى عمر بن إدريس الجيلالي الأول.
بقيت أياما أتأمل وأشاهد الرفوف المليئة بالمجلدات والملفات والجذاذات القديمة، وقد علاها الغبار وأتلفتها الأَرَضَة وحشرات الورق. رهبة المكان كانت تتملكني وتسيطر علي، فأغادر على الفور هاربا.
ذات مرة تشجعت، قلت لأهزم التردد الذي يقهرني، ربما لن تتاح لي هذه الفرصة التي تمنيتها زمنا وطال انتظاري لها.
مددت يدا مرتعشة، وببطء أخذت مجلدا ضخما. نفخت فوق غلافه فتطاير الغبار على وجهي. بسْمَلْتُ وفتحت الكتاب. كان مكتوبا بخط مغربي قديم، وحواشي صفحاته منمقة بالزعفران ومُح البيض. لم أتبين كل الكلمات والحروف. أخذت أتهجاها. فجأة رأيت الحروف تتجمع وسط الصفحة ثم تتضاءل حتى تصير بحجم نقطة. ورأيت النقطة تطير كنملة مجنحة وتحط فوق بؤبؤ عيني.
تكرر الأمر مع كل صفحة كنت أفتحها، حتى عاد الكتاب عبارة عن أوراق بيضاء.
دخلت "سين"، ثم وقفت تحدق في وجهي قبل أن تنطق. قالت مندهشة:
- أوووه.. ما أجمل عينيك. لقد زينهما الكحل الذي وضعته بشكل فاتن وساحر.
وسألتني قليلا من نفس الكحل.
جريت إلى المرآة، فإذا بي أراني وقد أصبحت بعينين واسعتين شديدتي السواد.
طوقتني "سين"، وهي تتوسل وتلح في طلبها أن أمنحها قليلا من الكحل السحري. أعطيتها الكتاب الذي كان بيدي، نسيت أنه صار مجرد أوراق بيضاء فارغة.
ما أن فتحت "سين" صفحات الكتاب تقلبها حتى طار بياض الصفحات إلى عينيها. ثم صاحت تبكي وتولول:
- عيني.. عيني.. لا أرى شيئا، هل أطفأت النور؟
هرعت إليها مفزوعا، لأرى، فرأيتُ عيني "سين" من دون بؤبؤ، فقط البياض يجللهما. لم أعرف ما الذي علي فعله. فإذا بصوت مكتوم يطالبني بأن أجلس وأكتب سيرة جدي على صفحات الكتاب الفارغة . حينها عاد فجأة البصر إلى "سين". لكني وجدتني عاجزا عن التذكر. لا أعرف ما أقدم ولا ما أؤخر.
أتى نداء مكتوم إلى سين، فأخذت هي أيضا تولول. وطالبها ذلك النداء بالتوقف عن البكاء والقيام بإملاء ما سيخطر ببالها علي.
عندما وصلنا إلى ملء منتصف صفحات الكتاب، عاد البصر إلى العين اليمنى ل"سين". وعندما أنهينا تسويد الكتاب كله، عاد البصر لعينها اليسرى، لكن بدرجة أقل، وعندما استرجعتُ وعيي، لاحظتُ أن الأمر استغرق أعوامًا.
فرحنا وغادرنا المكان القديم، لنحتفل بنجاتنا. لكنني وجدتني وحدي في الحديقة العمومية المعروفة باسم"جردة مردوخ"، القريبة من القصر الملكي بحي الأحباس. كنت أتفرج على أطفال صغار يركضون وراء كرة حمراء ويلعبون. ناديت على "سين" فلبت ندائي طفلة صغيرة بضفيرة، وقفت أمامي وقالت مبتسمة:
- ياه.. ما أحلى عينيك يا بابا، أكيد ستعجبان ماما.
وعادت للعب مع أقرانها من الأطفال.
تعجبت للشبه الكبير للطفلة الصغيرة ب"سين"، لكن"سين" لم أكن أنا والدها، فأنا لم أكن متزوجا آنذاك.
تركت الطفلة الصغيرة مع الأطفال يلعبون، واتصلت بوالدتي أسألها عن مصير خزانة جدي. ردت علي مستغربة أنها لا تعرف عما أتكلم.
قلت، كيف نسيت أن الزهايمر سيطر على آخر قلاع ذاكرة والدتي.
اتصلت بأفراد آخرين من العائلة، أسألهم عن مصير خزانة جدي، وكانوا كلهم يردون علي بنفس الجواب.
- لا علم لنا بكون جدك كانت لديه خزانة كتب.
- متى كان جدك متعلما ليمتلك خزانة كتب؟
- جدك كان فلاحا أميا، لا يقرأ ولا يكتب.
لكن... ألم يكن جدي موظفا بالعدلية زمن المولى عمر الأول، بل إنه كاد يبلغ مرتبة الصدر الأعظم؟
ضحكوا مني، ورثى بعضهم لحالي. تساءل آخرون مستنكرين:
- ما هذا الهذيان الصادر منك يا ابن العم؟
ابتعدت عنهم ووصفتهم جميعا في سري بالأغبياء الجاهلين لتاريخهم وللتاريخ.
ذهبت إلى المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، على مقربة من "باب الرواح". استقبلتني القيّمة على المكتبة بود. تسأل مساعدتي. طلبت منها كتابا حول السلطان المولى عمر بن إدريس الجيلالي. نظرت إلي نظرات لم أفهم معناها، وتكلمتْ فأنكرتْ أن يكون أحد من السلاطين عبر السلالات المتعاقبة على حكم المغرب منذ دولة الأدارسة، قد يكون حاملا لمثل هذا الاسم الغريب. ابتسمت معبرا عن استخفافي بهذه المرأة وجهلها. كيف يضعون شخصا في مكان لا يناسبه.
لكن القيّمة على المكتبة تسلحت بالصبر والأناة، وحاولت مسايرتي. سألتني عن الفترة التاريخية التي أقصد، فقلت لها نهاية القرن التاسع عشر. فردت علي:
- هذه فترة عهد المولى الحسن الأول، من سلاطين الدولة العلوية.
لما ألححت وأصررت، ساقتني القيّمة إلى مكتب مدير المكتبة الذي استقبلني ببشاشة، ثم أخبرته الموظفة بأمري، فرأيته يتخلى عن لباقته وينخرط في ضحك مسترسل. استرجع المدير توازنه بعدها، وأخذ يطالع قسمات وجهي، سألني هل أنا في كامل قواي العقلية أو شارب لمسكر أو محشش.
لم ينتظر المتجرئ جوابي، طلب كتابا قديما يشبه تماما المجلد الذي في خزانة جدي. وبدأ يقرأ علي من صفحاته، بعد أن طلب من القيّمة العودة إلى مكتبها. أخذت أنا أستمع إليه باهتمام بالغ.
قرأ المدير بصوت مبحوح:
- هو عمر بن إدريس الجيلالي بن ادريس محمد اليوسفي الزرهوني، لقَّبه خصومه بالرُّوكي وسموه باسم "بوحمارة"، هو ثائر ومعارض مغربي نازع على حكم المغرب. سيطر على المغرب الشرقي وأصبح يهدد السلطة المركزية .
ثم توقف المدير ليلاحظ وقع ما قرأه على وجهي. طلبت أنا منه بأدب متابعة القراءة:
ابتسم الرجل الأصلع وأكمل:
- درس الجيلالي في سلك الطلبة المهندسين، حيث تمدرس في فاس وتلمسان والجزائر العاصمة وباريس. وخدم كطوبوغرافي في الجيش، وصار بعد ذلك موظفا في القصر السلطاني في مراكش.
ثم رأيت المدير يقلب الصفحات، ويقفز على كثير من الفقرات. بعدها رفع رأسه قائلا:
- باختصار هذا المارق الزنديق ثار على السلطان وأثار الفتنة في البلاد، وبعد القبض عليه تم إعدامه وإلقاء جثثه للوحوش، فنال جزاءه.
اقشعر بدني عند نطقه بعبارة: "وألقوا بجثته إلى الوحوش؟". وقفت مستأذنا الانصراف، شاكرا السيد المدير على المعلومات التي أفادني بها.
اتجهت صوب الباب أهم بالمغادرة، ما أن وضعت قدمي على عتبة الخروج حتى ارتمى علي مجموعة من رجال البوليس، ووضعوا القيد في يدي، والعصابة على عيني، ثم رموني داخل سيارة سوداء من نوع "رونو 16"، وساقوني إلى مكان مجهول. سأعرف لاحقا أنه "درب مولاي الشريف" بالدار البيضاء.
بعد أشهر من التعذيب انتزعوا مني اعترافات أرغموني على التوقيع عليها. وأمام وكيل الملك لفقوا لي تهما ثقيلة، منها: التآمر على الوطن، وزعزعة استقرار البلاد، والإخلال بالنظام العام.
لما رأى وكيل الملك جمال وسواد عيني أخذ يتحرش بي. فشتمته، لأجدهم قد أضافوا إلى ملفي تهمة التشبه بالنساء.
كان ملفي يحمل اسم: "بوحمارة ومن معه"، ولم يكن أحد في الملف سواي، ولم أكن قرأت من قبل عن "بوحمارة" ولا كنت من أتباعه.
في السجن منحوني رقما لا زلت أحفظه: 1965.10.29. وفي كل يوم كانوا يغيرون اسمي. في الصباح يكون اسمي عبد اللطيف زروال، وفي المساء ينادونني بعمر دهكون، وفي الغد الموالي يصير اسمي عمر بنجلون، أو المهدي بنبركة، وبعده يسمونني محمد كرينة، أو محمد أمين التهاني أو اجبيهة رحال، أو محمود بنونة، وأسماء أخرى لا زلت أحفظها كلها. بل إنهم كانو يسخرون مني ويشبهونني بالمرأة، فينادونني باسم سعيدة المنبهي، أو اسم الأم "فاما". وصارت كل هذه الأسماء اسمي.
وأنا أستأنف حكم إعدامي بعد تنفيذه. التفتت إلي أسمائي وأشارت علي بمقاطعة المحكمة وعدم الرد على أسئلة القضاة. أضافوا إلي أحكاما أخرى بالإعدام. وحدد تاريخ التنفيذ فجر كل يوم ماضٍ وآتٍ.
الدار البيضاء، ديسمبر 2014
___________________________
نزوات غويا، دار رياض الريس، بيروت.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *