جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

مذكرات_الإستفتاء.أحمد الغزالي

 مذكرات_الإستفتاء.

في ذلك اليوم من صيف سنة 1992، إستيقظت باكرا على غير العادة، غسلت وجهي وأخدت فطوري من شاي وخبز وزيتون، تلك الوجبة التي لم تكن تختلف عن وجبتا الغذاء والعشاء، إلا إلى وجبة بيض بالطماطم، كانت نفس الأكلة تتكرر مابين ثلاثة، أو أربعة أيام في الأسبوع، على مدار وجبات اليوم.
نزلت الثلة أحمل مذياعي (الطرانزيستور) مغادرا الدوار في إتجاه الجنانات الصغيرة على جانب الوادي، المرصعة بشجر التين والزيتون، والخضر الصيفية، من فلفل وطماطم وبادنجال وقرع، بالإضافة إلى أحواض صغيرة لنبتة النعناع، لم يكن لذي برنامج لذلك اليوم سوى أن يمر بعيدا عن أعين الناس، في هذه المناسبات الوطنية في قواميس المخزن أفضل الإنزواء، مادمت أجد نفسي مثقلا وحيدا في حمل قضية التحرر في هذه القرية، حيث أن قرارات المخزن متبعة ومستجابة، والممتنع عن تنفيذها يعتبر مسخوط الواليدين، قبل أن يكون مسخوط في نظر نظام الحسن الثاني.
كنت قد ناقشت فحوى الدستور مع مجموعة من الرفاق الطلبة القاعديين بالجامعة، قبل موعد الإستفتاء المشؤوم، بالرغم أني لم أكن طالبا جامعيا، ونقلت تلك النقاشات، إلى قريتي مع شباب الدوار، كان ذلك يحدث كلما سنحت لي الفرصة مع أحدهم، غالبا ما نتحدث طويلا في سهرات شرب الكيف (القنب الهندي) الليلية الطويلة، كانت قهقهاتنا تخترق سكون الليل بين الفينة والأخرى، فيتعالى نباح الكلاب، وكأنها تتابع سهراتنا عبر الأتير، كانت المخلوقات الوحيدة التي تعلم بمكان سهرتنا، وتتقاسم معنا سخط النهار، ولعنات الليل، التي تكسرها قهقهاتنا الساخرة.
قاطعني جواد فيما كنت أشرح مايعنيه الدستور الجديد: والله العظيم يلا راك غير كتخرمز، ونظر إلى أعيني طويلا حتى توقعت أنه نسي ما أراد أن يقول أو ربما أثر عليه (الكيف) فضحك الجميع، فابتسمت في وجهه محاولا إرشاده لما كان يود قوله.
فاش كنخرمز!؟
إيه والله يلا غير كتخرمز، واش غاتقضي انت ولا انا يلا مصوتناش!؟ هو ناجح ناجح صوت ولا كعد.!
كان كلام جواد صحيحا إلى حد ما. فعلا تلك المرحلة، كانت قرارات الملك ناجحة، بالحديد والنار ناجحة، لارأي للشعب، ولامصير. يبدو أن الكل يدرك مأساة الوضع بطريقة ما، ويتعامل معه بطريقة ما، نختلف فقط في كيفية رفضه ومقاومته.
متافق معاك هو ناجح ناجح، ولكن يلا نجح بلا بينا شكل، ويلا نجح بينا شكل، وزايدون المسألة ماشي ينجح ولا مينجحش، هذا راه دستور، احنا كنقولا نعم أو لا،
يلا قلنا نعم راحنا مأيدين الدستور الجديد لي مافيه والو جديد أكثر من توريث الكرسي لولدو، ويورثنا بحال البهايم، ويلا قلنا لا راحنا قابلين الدستور القديم، منا توجع ومنا توجع. لكن لما منصوتوش عالأقل نكونو عبرنا بأننا ماشي معيز، وان هاد الدستور غير صالح لينا، ومقدم لينا حتى شي جديد. من غير السمية.
قال إدريس وهو أحد أبناء الأعيان المستفيدين من الريع الذين يساعدون المخزن في ظبط الأوضاع. وكان يتحكم في ساكنة الدوار بشكل غريب. كان يظهر لي بعض الإحترام كلما تقابلنا، لكنه كان يكن لي كل العداء، وكان يصورني في مجالسه عند غيابي بمظهر المعتوه الفاشل الذي يفسد سلوكات أبناء الدوار.
كنت وحيدا في الجنان أستمع إلى قنوات خارجية من جهاز الطرانزسطور المتطور، وأقطف بين الفينة والأخرى حبة طماطم، فألتهمها كلما شعرت بمذاق الدخان الحار والمقيت (كازا).
سمعت آذان الضهر، فذكرني بأن الساعة تجاوزت الثانية عشر، وحان موعد الغذاء، لأذهب إلى الفيلاج، هناك أستمتع بقهوتي المفضلة وأتفرج على التلفزيون.
دخلت البيت، لم يكن هناك غذاء، كانت نهاية الأسبوع، وما نقتنيه من السوق الأسبوعي لا يكفي إلا ليومين أو ثلاتة، لنوفر مصاريف إخوتي الذين يدرسون بالمدينة.
كأسان من الشاي وصحن من الزيتون الأسود والخبز، كانت وجبة أساسية، إمتلأت المائدة الصغيرة ذات الأرجل الثلاث ببدور الزيتون، حتى بدت لي تشبه أرضية حضيرة الغنم، ضحكت في نفسي على المشهد ربما أكلت أكثر من نصف كيلو.
فيما كنت أغير ملابسي تأهبا للذهاب إلى المقهى، أحسن من شكل مظهري أمام المرآة الصغيرة لخزانة والدتي القديمة، لاحظت لحيتي مبعثرة وشعري متطايرا في كل الإتجاهات، وكأني خرجت لتوي من إعصار.
فتحت درج الخزانة أبحث عن مشط لأسرح شعري بعد أن مسحته بقليل من الماء، فإذا بي أعثر على بطاقات العائلة الإنتخابية الخضراء وقد قصت جميعها من الزاوية، مما يفسر أن البطاقات شاركت في الإستفتاء من دون موافقة أصحابها.
تفحصتها جميعا واحدة تلو الأخرى، بطاقتي وبطاقة إخواني الثلاثة وبصاقة والدي ووالدتي، فيما كلهم غائبون ولايتواجد في البيت سواي ووالدتي وأختي الصغيرة. ياللهول كيف حدث هذا!؟ ناديت على الوالدة، لم تجبني أول مرة مدعية أنها منهمكة في شغل مهم، فذهبت إليها في الغرفة الأخرى، كانت تدق شيئا ما، حناء أو عشب، لست أدري، كل تركيزي على معرفة كيف تم التصويت ببطائقنا دون علمنا.
سألتها: من فعل هذا ياأمي..!؟
قالت: لا أدري بنبرة خالية من البرائة. انا ماقارية ماكنعرف وراق.
آثار جوابها غصبي، وشممت رائحة ضغط ما مورس عليها في غيابي، قرأت ذلك في عيونها وملامح وجهها، كانت تخفي توثرا وخوفا عميقا.
قلت لها مهددا: أقسم بحليب صدرك، لو لم تقولي لي ماحدث، فلن تري وجهي إلى الأبد. فإما أن تحكي الحقيقية أو لن تري وجهي ما حييت.
شعرت أمي بصدق التهديد، فيما كنت الرجل الوحيد الذي يؤنس وحدتها في غياب الوالد الهارب إلى الجزائر، وإخواني الذين يدرسون بالمدينة.
قالت: مالك هازها منين ثقالت، ويني راك مجنون، هذاك راه غير المقدم جا لعندي وقالي خصك تخافي على ولادك، راه راسهم سخون، وغيجيبوها فراسهم يلا مصوتوش. وملي قلت له راهم ولادي غايبين، قالي مكاين موشكيل، اعطيني الكارطات دياولهم، شوية ونردهم لك.
قلت لها: معند مو مايدير راه غير كيخوفك الإنتخاب ماشي بالسيف.
كانت والدتي ترجوني ألا أذهب فيما كنت متوجها إلى مكتب الإقتراع بحثا عن المقدم، ولأوضح هذا لرئيس المكتب كي يسحب التصويت.
لمحني المقدم من بعيد فاختفى، تحاشيا لما قد يواجهه معي، وحسنا فعل، لأنه كانت نيتي أن أمسح بكرامته الأرض أمام الناس، ولا أنكر أنني كنت مصمم وقتذاك على رفسه وتعنيفه. ردا على تجرئه على ترعيب والدتي، وقيامه بجريمة التصويت والتعبير عن عكس رأي الممتنعين عن التصويت. تلك كانت بالنسبة لي إهانة كبيرة، وجب علي فضحه وكل من شارك في هذه التمثيلية الديمخراتية السخيفة ردها لهم أمام الملأ، فليس لذي ما أخسره.
دخلت مباشرة إلى مكتب الإقتراع فيما كان الناخبون ينتظرون في الصف، فصاح أحدهم في وجهي:
فين مدرم أمولاي..!؟ اخرج وشد الصف مع خوتك. !!
قلت له: وأنا ألوح بالبطاقات في يدي: لا تتفتون، ولا تعلمني النظام والقوانين، وانتم أول من يخرق القانون، لن يصوت أحد في هذا المكتب بعد الآن، إلى أن تحلوا معي هذه المشكلة.
كان رئيس المكتب أكثر شخص يعرفني جيدا، ويعرف إلى أي مدى يمكن ان أصل، كان تاجر مخدرات أنيق المظهر والتواصل ويكن لي الإحترام بسبب مواقف سابقة.
قال: تفضل آسي احمد، شنو هي المشكلة. !؟
قلت بصوت عالى متعمدا أن يسمعني الجميع، وخصوصا أولائك الناس المسلوبي الإرادة، الواقفين في الخارج تحت أشعة الشمس الحارقة :
أسألكم أنتم الموجودون كلكم في هذا المكتب، هل رآني أحد قبل الآن أدخل إلى هذا المكتب..!؟ هل رأيتموني أو رأيتم أحد أفراد العائلة يدخل هذا المكتب..!؟
أجابوا بالنفي، فصحت ثانية، أسألكم كيف تصوتون في محلي ومحل إخوتي، ثم أوحى لي شيطاني أن أورطهم وأفضحهم أكثر، فاستغليت غياب الوالد لأربع سنوات بالجزائر، فأخدت بطاقته وانا أصيح: أتصوتون للدستور بالموتى،!؟ هل هذا الدستور يصوت عليه الأحياء أم الأموات..!؟ يجيب أن تعلموا جميعا أنكم قمتم بأكبر جريمة وأكبر خطأ في حياتكم، هذا الرجل متغيب لانعرف عنه أي خبر، هل هو حي أم ميت. سوى أنه في الجزائر، ولوحت ببطاقته عاليا، هاذه بطاقة ناخب لاوجود له على هذه الأرض، واحتمالية وفاته كبيرة، لم نسمع عنه خبرا منذ سنوات طويلة، فلماذا لانذهب لنكمل التصويت في المقبرة القريبة..!؟ أليس من حق كل الأموات أن يصوتوا لهذا الدستور..!؟
أغلق باب التصويت مؤقتا لأكثر من نصف ساعة من الأخد والجدب، وشعر المكتب أنه متورط في التزوير العلني والتلاعب بعدما هددتهم بتبليغ الصحافة فورا لتقف على هذا التزوير ونشر فضيحتهم.
كان الوقت يمر على أعضاء المكتب بطيئا، وهم يحاولون إمتصاص غضبي وتهدئتي تارة وتهديدي بعواقب توقيف الإستفتاء في المكتب ثارة أخرى وبدا يعلو صوت الناخبين المنتظرين في الخارج تحت أشعة الشمس الحارة.
قال رئيس المكتب: قل لي آسي احمد، ماوقع قد وقع، ما الذي يرضيك لنحل هذه المشكلة.!؟
قلت على الفور: سحب تصويتي، وتصويت كل أفراد عائلتي، اصحاب هذه البطاقات، قال: حاضر اخويا عندك حق، وبدئوا يبحثون في السجل ويشطبون الأسماء. إلى آخر إسم هل هذا يرضيك آسي احمد. قال الرئيس.
قلت : لازال هناك لبس، وكيف سنسحب البطاقات من الصندوق، فعد الأصوات يتم من الصندوق وليس من الدفتر.
قال مبتسما: مستحيل فتح الصندوق، هذا كل ما يمكننا فعله، لتصحيح الخطأ وإرضائك.
كنت أعرف أن كل هذه الخطوات شكلية. ولافائدة منها، ولكن المسألة مبدئية، وفي نفس الوقت كانت رسالة لأهل القرية جميعهم، أن ما أتحدث عنه حق من حقوقهم جميعا، وليسوا مجبرين على التصويت، إن هم تحلوا بقليل من الجرأة.
لاحظت على طاولة المكتب دزينتان من ورقتين مختلفتين في اللون، دزينة (نعم) البيضاء وهي موضوعة على هامش الطاولة، وقريبة من متناول الناخبين، والدزينة الثانية بلون أزرق مكتوب عليها بخط عريض (لا) في آخر الطاولة وبعيد عن متناول الناخبين، ولايمكن الوصول إليها، إلا بمساعدة أحدهم،
في هذه اللحظة قررت أن أصوت من باب الإستفزاز والعبث، وليس بدافع القناعة.
قلت لهم: مادمت قد أتيت إلى هنا فسأصوت، لماذا تضعون دزينة (لا) بعيدة عن الناخبين..!؟ ضعوها بجانب (نعم)، أنتم تخرقون قوانين الإنتخاب بالجملة...
قال: حاضر عندك الحق، غير حيت ماباغيها حد. قلت له: باش عرفتي ماباغيها حد،،!؟ واش انت هنا باش تعبر عن رأي الناس، أو توجههم إلى التعبير عن رأي معين..!؟؟ ديروا خدمتكم وبلا متزيدوا من عندكم.!!
أخدت ورقة من دزينة (لا)، محاولا وضعها في الظرف، فوقفوا جميعا منفعلين لا..لا..لا وكأنني نزعت ملابسي أمامهم، خد الورقتان معا، واذهب إلى وراء الستار.
قلت سآخد فقط هذه الورقة المنفية، مثلما نحن منفيون في هذه القرية، ولن أذهب لأي ستار، وصحت لا لتصويت الأموات لا لإجبار الناس على التصويت، لا للدستور الجديد والقديم، وضعت الورقة في الصندوق فيما كان الناس يتابعون المشهد من الباب والنافذة في دهول وحيرة.
في المساء شاع أن فقيه المسجد الكبير حدا حدوي وصوت ب(لا) على ذلك الدستور المشؤوم مثل سابقيه ولاحقيه، فكنت أنا والفقيه ذلك الصفرين ما بعد التسعة وتسعين فاصلة تسعة وتسعين بالمائة.
أحمد الغزالي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *