في زمن التآمر.. السوداني "سيّد طه" الذي استبسل دفاعاً عن فلسطين
في زمن التآمر.. السوداني "سيّد طه" الذي استبسل دفاعاً عن فلسطين
- حسام عبد الكريم
- هذا المقال موجّهٌ إلى المطبّعين في السودان من جماعة المجلس العسكري الحاكم وحكومة حمدوك الضعيفة.. إعرفوا تاريخ أسلافكم!
هذه قصّة ملحمةٍ حصلت أثناء سير المعارك في حرب فلسطين 1948. بطلها رجلٌ فذٌّ وقائدٌ عظيمٌ وُجد في زمن المتآمرين. سيّد طه، كان قائداً سودانيّاً عسكريّاً يتولّى مهمّة قيادة القوات المصريّة التي دخلت فلسطين ورابضت في قرية الفالوجة الاستراتيجيّة التي تفصل شمال فلسطين عن جنوبها.
فالفالوجة وبيت جبرين وعراق المنشيّة مجموعة قرى تقع على مسافةٍ متساوية بين الخليل وغزّة، وكانت السّيطرة عليها ستؤدّي إلى عزل المستوطنات التي أقامها اليهود في جنوب النّقب والتي تبعد أميالاً عن مركزهم الرّئيسي في تل أبيب والسّاحل الفلسطيني، مما يمنع إمكانيّة تأسيس "دولةٍ يهوديّةٍ" مترابطة تمتدّ إلى سواحل البحر الأحمر.
وفي ذلك الزمان، كانت مصر والسّودان في حالة وحدةٍ رسميّة، وكان الملك فاروق يحمل لقب "ملك مصر والسّودان"، وبالتالي كان السّودانيّون يخدمون في الجيش المصري. ولذلك، كُلّف "الأميرالاي" السّوداني سيّد طه، بقيادة القوّات المصريّة كلّها في تلك المنطقة. وقد كان من ضمن قوّاته آنذاك "البكباشي" جمال عبد النّاصر، الذي عمل تحت إمرته وبقي معه طوال فترة الحصار القاسية.
وبعد أن دخلت القوّات المصريّة جنوب فلسطين في 15 أيّار/مايو 1948، فوجئ عناصر الجيش من جنودٍ وضبّاط، وهم كانوا في أغلبهم مخلصين وصادقين في مسعاهم لردّ الخطر الصهيوني- بمدى فساد القيادة السياسيّة العليا والحزبيّة والإداريّة المصريّة. فالقيادات تلك لم توفّر للجيش ما يحتاجه من عتادٍ وسلاح، وخططٍ وإعداد، وتدريبٍ وتأهيلٍ وتمويل، ممّا أدّى إلى سلسلةٍ من الكوارث العسكريّة أسفرت عن محاصرة القوات المصريّة المتمركزة في الفالوجة، والتي يزيد عددها عن 4000 عنصر، من قِبل قوّات "الهاغانا" الصهيونية.
فُرض الحصار على القوّات المصريّة في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 1948 بعد أن تقطّعت جميع خطوط الاتّصال والإمداد وانسحب بقيّة الجيش وتراجع إلى الجنوب الغربي. صارت الفالوجة بحكم السّاقطة عسكريّاً، وكان المنطق يقضي بأن استسلام القوّات المعزولة لم يعد سوى مسألة وقت. وفعلاً، بدأت القوّات الصّهيونيّة بتشديد الخناق على الكتيبة المصريّة المحاصَرة وتكثيف القصف، ثم ألقت بكميةٍ كبيرةٍ من المنشورات، تدعو قيادة القوّات المصريّة إلى الاستسلام.
ولكن هيهات! فكيف يحدث الإستسلام و"الضّبع السّوداني" موجود، ولا يزال على قيد الحياة؟! كشّر السيّد طه عن أنيابه وأعلنها صريحةً: "لن نستسلم ما دام فينا عِرقٌ ينبض!" رفض سيّد طه، أن يستمع "الناصحين" الذين حاولوا إقناعه بالتّسليم حفاظاً على أرواح قوّاته، لكنّه أصر على مواصلة القتال حتّى النّهاية. ويُروى أنّه قال لمن اقترح عليه الإنسحاب، وعيناه تلمعان: "أنا مسلمٌ، وأبي فلاّح، ولا يمكن أن أفرّط في هذه الأرض الإسلاميّة، فإمّا النّصر وإمّا الشّهادة!".
وبموقفه البطوليّ ذاك، وتصميمه الذي لا يلين، بثّ سيّد طه روح العزيمة في صفوف قوّاته، فثبتوا معه، وقاتلوا الصهاينة بشراسةٍ وتحمّلوا الحصار الخانق. ويُقال أنّ مؤنهم قد نفذت، وباتوا بلا مدد، حتّى صاروا يقتاتون ممّا تُنبته الأرض من قمحٍ وحبوبٍ أو ممّا ينجح الفلاّحون من أهل البلد بتهريبه لهم من خبزٍ و زيت! وسيّد طه صامدٌ لا يتزحزح عن موقفه. يُقال أنّ الصهاينة هم الذين أطلقوا عليه تسمية "الضّبع الأسود" بعد أن عرفوا أنّ ذلك القائد السّوداني هو سبب الصّمود الأسطوري للقوّات المصريّة المحاصرة.
وعندما طال الحصار واشتدّت وطأته وساءت الأحوال الصحيّة للجنود وكثر الجرحى، لجأت الحكومة المصريّة إلى القيادة العامّة للجيوش العربيّة، وكان يتولاّها ملك الأردن عبد الله تعاونه هيئة مستشارين من جميع الدول العربيّة.
تدخّل عندئذٍ غلوب باشا القائد البريطاني للجيش الأردني ووضع خطّةٍ لإنقاذ القوّات المصريّة المحاصَرة، تتلخّص في قيام القوات الأردنية بإشغال قوّات الصهاينة ومناوشتها عند بيت جبرين، وفي هذه الأثناء يقوم قائد الفالوجة بتدمير أسلحته الثّقيلة ثم ينسحب هو وجنوده، متسلّلين في طرقٍ سرّية، على أن يتمّ كلّ ذلك بإشراف ضابطٍ بريطانيٍّ اسمه الميجور لوكت.
أرسل غلوب باشا مبعوثيه إلى داخل الفالوجة المحاصَرة لمقابلة سيّد طه وعرض خطّة الإنقاذ عليه. وكم كانت دهشتهم حين رفض "الضّبع السّوداني" مقترحات غلوب باشا، وأصرّ على الصّمود حتّى آخر طلقة، وطرد المبعوثين بعد أن قال لهم إنّ الصهاينة لم يقدروا على هزيمته وقوّاته، وإنّه لن يسمح بأن تصبح قوّاته لقمةً سائغةً لهم، لاسيما بعد تدمير أسلحتها، ولن تنسحب راجلةً مبعثرة! وقال إنّه لن يعيش ليرى اليوم الذي تؤسر فيه قوّاته وهي بلا حولَ ولا قوّة أمام العدو.
طالت الأمور وانتهت فعليّاً حرب فلسطين بانتصار الصهاينة وهزيمة الجيوش العربيّة، وتأسّست "إسرائيل". كلّ ذلك حصل وسيّد طه لا يزال ثابتاً مع قوّاته المحاصرة في جيب الفالوجة، رافضاً الاستسلام وعروض اليهود بالخروج الآمن والمضمون له ولقوّاته من الفالوجا والعودة إلى مصر بشرط إلقاء السّلاح.
وفي النهاية، كان لا بدّ أن تُسوّى قضيّة الفالوجة، على المستوى الدّولي. ففي آخر شباط/فبراير عام 1949، أبرمت الحكومة المصريّة اتّفاقاً رسميّاً للهدنة مع "إسرائيل" تضمّن الانسحاب التّام لقوّاتها المحاصرة في الفالوجة بضمانة الأمم المتّحدة، وبكامل عدّتها وعتادها، وبتعهدٍ "إسرائيلي" بضمان سلامة أهل الفالوجة بعد مغادرة القوّات المصريّة (وطبعاً لم تحترم "إسرائيل" هذا التعهّد فيما بعد، وقامت بتهجير أهلها).
وهكذا، انتهى الأمر وغادر سيّد طه وقوّاته الفالوجة بشرفٍ، وبكامل أسلحته، وحافظاً كرامته العسكريّة مرفوع الرأس، بعد أن صمد أكثر من 4 أشهر، صدّ خلالها كلّ هجمات الصهاينة وتحمّل ما لا يُطاق في سبيل فلسطين.
تحية إلى روح سيّد طه، ذلك البطل السّوداني الخالد.. ونحن على ثقةٍ بأنّه في السودان اليوم الكثيرون من أمثاله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق