ثمينة ناجي يوسف تكتب عن زوجها المناضل الشيوعي سلام عادل
ثمينة ناجي يوسف تكتب عن زوجها المناضل الشيوعي سلام عادل
بقلم معاذ محمد رمضان
ما إن يبدأ القارىء بقراءة هذا الكتاب ” سلام عادل ـ سيرة مناضل: ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد” حتى يُدرك أهميته الشديدة. فهو أولاً يروي سيرة مناضل شيوعي عراقي كبير ، وهذا يعني دراسة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي في فترة قيادة سلام عادل. وهو ـ ثانياً ـ سيتعرض بطبيعة الحال لتاريخ العراق في هذه الفترة المهمة.
لا جدال في أهمية الكاتب ، فثمينة هي زوجة سلام عادل ، وهي الأقرب إليه بكل تأكيد ، وهي شيوعية مثله ، وعليه فستكون مصادر الكتاب “طازجةٌ من العيار الثقيل” ، وهذا ما وجدته فعلاً. ولم تقتصر الكاتبة على إصدارات الشيوعيين وأصدقائهم ، بل سعت لما سَطّره قادة الحركة الوطنية العراقية ومن مختلف الإتجاهات السياسية والفكرية ، بل وحتى أعداء الشيوعية وجَلاّدي الحزب وقتلة سلام عادل (1) وهذا إن دَلّ على شيء فهو الموضوعية والنزاهة والأمانة العلمية.
من هو سلام عادل؟
سلام عادل هو حسين أحمد الرضي الذي وُلِدَ في عام 1922 ـ وهناك من يقول بأنه ولادته في عام 1924 (2) ـ في مدينة النجف ، وهي مدينة مقدسة كما هو معروف ، إذ ضمت مرقد الإمام علي بن أبي طالب.
أصبح سلام عادل مُعلّماً ، وكان يُحب الأدب منذ نعومة أظفاره ، وعمل خطاطاً في النجف. (3)
عندما يطَلِعُ الباحث على حياة هذا الرجل ، فسيجده “عظيماً” والله ، أخلاقٌ عالية ، إستقامة ، إنضباطٌ حزبي شديد ، إيمانٌ عميق بمبادىء الشيوعية ، زُهدٌ كبير. (4)
كان جَلِداً لا يتهاون أمام أي أحد ، والأدلة كثيرة هنا: فقد إنتقم مأمور السجن منه فحلق شعره وجَلده مائة جلدة على قدميه وطلب منه أن يشتم الرفيق فهد ، فرفض سلام وهتف بسقوط نوري السعيد مُمجداً الرفيق فهد ، فأضاف له مدير السجن خمسين جلدة أخرى مع الركل.(5) أما عن صبره أمام مجرمي الحرس القومي والبعثيين فهذا ما سأتناوله في فقرة خاصة.
والدليل على إعتزازه بشيوعيته القصة التي ذكرتها ثمينة:
(أذكر من حديث سلام عادل مع والدي عندما تَقَدّم لخطبتي قوله: إنني من عائلة كادحة ولكنني فخور بسمعتها الطيبة وبإحترام الناس لها ، كما أنني لا أملك شيئاً في هذه الحياة سوى بطاقة عضويتي في الحزب الشيوعي ، وأعدك بأن هذه البطاقة سوف لا يصيبها الضرر مهما حدث) (6)
ومما يجدر ذكره هنا ، أن والد ثمينة “ناجي يوسف” كان تربوياً كبيراً ، وشغل منصب مدير المعارف ـ أي مدير تربية ـ في عدد من المحافظات “الألوية” العراقية ، وهو من قام بنقل سلام عادل من التعليم الإبتدائي الى الثانوي. (7)
سلام عادل مُعارضاً للإغتيالات والإرهاب الفردي
طرحت اللجنة المركزية في الحزب رأيين ، الأول هو تعميق علاقة الحزب بالجيش والعمل في صفوفه. والثاني هو إغتيال نوري السعيد والعناصر العميلة الأخرى. وكان سلام عادل من أصحاب الرأي الأول ، أما عامر عبد الله فكان مع الرأي الثاني. يقول سلام عادل مخاطباً حسين سلطان: (إن التفجيرات والإغتيالات محدودة التأثير ، ما رأيك لو نستبدلها بالطائرات والدبابات والأسلحة الحديثة؟) (8) وقد ذكرت ثمينة “الرسالة الداخلية لسلام عادل التي فَنّدَ فيها التوجه نحو الإغتيالات”(9) فالإرهاب الفردي يلجأ إليه الإستعمار وأعوانه ضد القادة الوطنيين برأي سلام عادل.
عندما قامت ثورة 14 تموز 1958 المجيدة ، كان للحزب الشيوعي دور كبير فيها: (حسن خضر في الإذاعة ، الشهيد وصفي طاهر في بيت نوري السعيد ، علي شريف في وزارة الدفاع ، سعيد مطر في معسكر الرشيد ، مصطفى عبد الله وعبد الرزاق غصيبة في قصر الرحاب. إضافة الى الدور البطولي الذي قام به الشيوعي قاسم أمين الجنابي بإعتقاله قائد الفرقة الثالثة بعد البيان الأول مباشرة حسب رواية ثابت حبيب) (10) لكن الزعيم عبد الكريم قاسم قد قام بمهاجمة الحياة الحزبية مبكراً ، وأصَرّ على إبعاد سلام عادل من الحزب (11) ومن هنا بدأ الخلاف بين قاسم والشيوعيين ، وإشتد هذا الخلاف بعد أحداث كركوك في شهر تموز 1959 (12)
يقول المؤرخ الكبير حنا بطاطو: (لا شيء ، آذى الشيوعيين بقدر ما فعلت أحداث كركوك الدموية في 14 ـ 16 تموز) لكنه يقول بعدها في نصٍ مهم جداً: (ومع ذلك ، فقد أصبح مؤكداً الآن أن هذه الأحداث لم تكن مُدبرة من قِبَلِ زعمائهم ، ولا هم سمحوا بها. ويمكن أن تُعزى هذه الأحداث جزئياً الى طبيعة تلك الأزمنة ، من أفعال القسوة القصوى التي كانت شائعة في لحظات عدم الإستقرار الإجتماعي والغليان غير الطبيعي. ولكن اللوم المباشر يقع بوضوح على عاتق الأكراد المتزمتين من ذوي الميول المختلفة) (13)
ويقول الأستاذ الدكتور عبد الفتاح البوتاني: (وليس ثمة إتفاق على من كان البادىء بالإستفزاز وإطلاق الشرارة الأولى ، كما أن تقارير مدير شرطة كركوك “جاسم محمد المسعودي” ومدير الأمن “نوري الخياط” لا تتفق على الجهة التي أتت الإستفزازات منها أيضاً ، وليس ثمة دليل قانوني يُثبت صدور أمر من المكتب السياسي للحزب الشيوعي أو من اللجنة المحلية للحزب في كركوك لتنفيذ مخطط مذبحة … وهنا لا بُدّ من القول بأن الصور المأساوية التي ثبتت في أذهان الناس كانت تميل الى أن الحزب الشيوعي هو الذي دَبّر عن سابق إصرار ، وخطط لها ونفذها ، والقصد من ذلك إرهاب الناس وإخضاعهم لإرادته والتمهيد للإستيلاء على السلطة في النهاية ، وكان لعبد الكريم قاسم الدور الرئيس الحاسم في ذلك. حتى أن أحد المعاصرين كتب يقول: إن قاسم هو الذي ورط الكورد في ذبح التركمان ، كما ورط الضباط الثائرين في الموصل في إعلان “ثورتهم” لكي يسحقهم) (14)
وعليه فقد تبين الآن بأن مسؤولية أحداث كركوك لا تقع على عاتق الحزب الشيوعي. والأمر الجدير بالذكر هنا أن الحزب الشيوعي آنذاك لم يكن منسجماً تماماً ، فقد ظهرت “الكتلة الإنتهازية” التي تتقاطع مع سلام عادل ومن معه ، وهذا ما ذكرته ثمينة بالتفصيل ، وفي تعليق لسلام عادل في غاية الخطورة والأهمية: إن الإنقلاب على الثورة لم يبدأ في 8 شباط 1963 ، بل بدأ الإنقلاب في منتصف تموز 1959 وسَهّلت الكتلة مروره (15) وهذا إن دَلّ على شيء فهو إنبطاح هذه الكتلة وتعريضها الحزب للخطر المميت أمام الأعداء. وعليه فلا يجوز أن نقول “الحزب الشيوعي” وننتهي ، بل يجب الإشارة للكتلة الإنتهازية ولجناح سلام عادل.
نهاية سلام عادل
ما إن بدأت أخبار الإنقلاب البعثي القومي الأسود ، حتى أدرك الزعيم قاسم خطأه الكبير ، فقد إعتذر قاسم تلفونياً من سلام عادل بعد إتصال الأخير بوزارة الدفاع المحاصَرة ، لكنه رغم ذلك لم يستجب حتى اللحظة الأخيرة للمُدافعين من الشيوعيين وغيرهم بتوزيع السلاح عليهم (16) بل تركهم يحملون أسخف الأسلحة ، ومعظمها العصي ، وقد كان منظرهم مأساوياً كقطيع من الغنم يُسرع الخُطى مهرولاً الى المسلخ ، وكان محمد شخيتم عضو القسم العسكري في الحزب الشيوعي يسير في المقدمة (17) وكانت هذه غلطة قاسم المميتة ، إذ كانت حجته بعدم تسليم السلاح هو الخوف من نشوب حرب أهلية!
تقول ثمينة ناجي: (عند وقوع الإنقلاب في الثامن من شباط 1963 كنت في مصحٍ روسي للعلاج أرسلتني إليه المدرسة الحزبية التي أدرس فيها مع عادل حبة وعامر عبد الله. دخلت غرفتي صباح ذلك اليوم ، وصال زوجة خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري وهي تصرخ “ثمينة لقد قتلوا قاسم” فتحتُ المذياع فتأكد لي الخبر) (18)
إعتُقل سلام عادل من قِبَلِ الحرس القومي في 19 شباط ، وتروي لنا ثمينة حادث الإعتقال وشموخ المُعتَقَل
(سمع سلام عادل ضجيج سيارات غير مألوف وأطَلّ من شباك غرفته التي كانت في الطابق الثاني على الشارع لمعرفة ما يجري ، عندها عرف أن البيت والمنطقة التي وقع فيها مطوقان من الحرس القومي ، فنزل من غرفته وطلب من الساكنين معه الإستعداد للإعتقال وقال لهم: “إستعدوا الخيانة كبيرة” وعاد الى غرفته ، في تلك اللحظة من بعد منتصف ليلة 19 شباط إقتحم الحرس القومي باب البيت وهم يصرخون أين سلام عادل؟ مُحطّمين الأثاث وكل ما تصل إليه أيديهم سائلين بهياج أين سلام عادل ، نزل إليهم من الغرفة مرتدياً بدلته وربطة عنق حاملاً حقيبة صغيرة وضع فيها بجامته وَرَدّ عليهم أنا سلام عادل وجلس على أريكة في باحة الدار فشَكّل الحرس القومي دائرة حوله وأمطروه بالأسئلة عن الشخص الذي كتب البيان الأول ، وَرَدّ عليهم بأن الحزب هو الذي كتب ذلك البيان وسألوه عن سبب مقاومته للإنقلاب ، أجابهم لأنه إنقلاب فاشي ، أنتم تتهمون قاسم بالدكتاتورية لكن ما يحدث هو أسوأ من الذي قام به) (19) وكان سلام عادل يوصي رفاقه بالصمود والحفاظ على الشرف الحزبي.
أما نهايته فقد كانت في قصر النهاية سيء الصيت ، وتقول ماجدة علي وهي شيوعية معتقلة معه آنذاك: (نقلوني بعد تعذيب وحشي الى السرداب الذي تغطي أرضه المياه القذرة والحشرات وأنين المعتقلين وحشرجات الموت. كنت معصوبة العينين ومربوطة الرجلين ويداي مشدودتان الى خلف ظهري وسط المياه القذرة لكني ميزت أنين سلام عادل وصوته مردداً: هنا التجربة أيها الرفاق. ثم بدأ يُنشد أناشيد ثورية) (20)
وقد شُوّه جسد سلام عادل ، فقد إقتلعوا عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين ، وكانوا يرشون الملح والفلفل فوق جسده المدمى إمعاناً في تعذيبه.
يقول الدكتور البوتاني: (إن مسؤولية البعث عن تلك الجرائم البشعة ليست موضع شكٍ أبداً ، وإن حملة البعث للقضاء على أقوى حزب شيوعي في المنطقة وأكثرها شعبية ، كانت مرتبة ومخططة ومنسقة بشكل دقيق) (21)
وختاماً: المجد والخلود للمناضل العظيم سلام عادل.
رغم أهمية كتاب ثمينة ، لكنه لا يخلو من الهنات والنواقص. وقد إعترفت ثمينة نفسها بذلك: (إن حجم وصعوبة المهمة التي واجهتني في إعداد هذا الكتاب كبيرة في عمقها وأبعادها ومما زاد في صعوبتها ، سوء الحظ ، لأنني لم أمتلك موهبة كتابية أو ملكة أدبية تساعدني في تصوير الأحداث وعكسها بصورة أكثر دقة للقارىء الكريم) (22) وعليه فقد كانت تختلط على القارىء أحياناً أقوال ثمينة بأقوال غيرها. هذا إضافة الى أنني كنتُ مُتَشَوّقَاً لمعرفة رأيها ورأي سلام عادل بفتوى المرجع الشيعي الكبير السيد محسن الحكيم ، هذه الفتوى التي حَرّمَ فيها الحكيم الإنتماء الى الشيوعية وإعتبرها كُفراً وإلحاداً. لكن ثمينة لم تتطرق لهذا الموضوع المهم تماماً!!
الحواشي
1ـ ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد: سلام عادل ـ سيرة مناضل ، الجزء الأول ، دار المدى دمشق ، الطبعة الأولى 2001 ، ص10
2ـ حنا بطاطو: العراق ـ الكتاب الثالث / الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار ، بترجمة: عفيف الرزاز ، منشورات دار القبس الكويت ص22
3ـ ثمينة ناجي يوسف: المصدر السابق ، الجزء الأول ص17و19
4ـ شَبّه الأستاذ الكبير صادق ناصر الصكر ـ في حديث لي معه ـ سيرة حياة سلام عادل ، بسيرة السيد الشهيد محمد باقر الصدر
5ـ ثمينة ناجي يوسف: المصدر السابق ، الجزء الأول ص37
6ـ المصدر السابق ص41
7ـ المصدر السابق ص24
8ـ المصدر السابق ص180
9ـ المصدر السابق ص183و184و185
10ـ المصدر السابق ص222
11ـ المصدر السابق ، الجزء الثاني ص12و18
12ـ لم أكتَفِ بكتاب ثمينة بشأن حوادث كركوك ، فالموضوعية تُحَتّمُ عَلَيّ قراءة الآخرين خصوصاً المحايدين ، وقد إنطبعت في ذاكرتي وذاكرة الجيل الذي نشأتُ معه أن مسؤولية هذه الأحداث تقع على عاتق “الشيوعيين والفوضويين” تحت تأثير إعلام حزب البعث ، لكن النتيجة كانت مغايرة لتطبيل صدام وحزبه.
13ـ حنا بطاطو: المصدر السابق ص223
14ـ الدكتور عبد الفتاح علي البوتاني: العراق / دراسة في التطورات السياسية الداخلية 14 تموز 1958 ـ 8 شباط 1963 ، دار الزمان دمشق الطبعة الأولى 2008 ، ص225و226 ، أما المعاصر صاحب القول الأخير فهو عبد الغني الملاح في: التجربة بعد 14 تموز
15ـ ثمينة ناجي يوسف: المصدر السابق ، الجزء الثاني ص337
16ـ عبد الفتاح البوتاني: المصدر السابق ص368
17ـ حنا بطاطو: المصدر السابق ص293
18ـ ثمينة ناجي يوسف: المصدر السابق ، الجزء الثاني ص342
19ـ المصدر السابق ص362و363
20ـ المصدر السابق ص387
21ـ عبد الفتاح البوتاني: المصدر السابق ص370
22ـ ثمينة ناجي يوسف: المصدر السابق ، الجزء الأول ص10
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق