غازي الصوراني _ رؤية تقدمية تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية نحو رؤية ديمقراطية قومية ، تدرجية ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة-الدولة.....
غازي الصوراني _ رؤية تقدمية تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية نحو رؤية ديمقراطية قومية ، تدرجية ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة-الدولة.....
إنني لا أزعم –كيساري ماركسي وطني وقومي ديمقراطي- أنني أنفرد بالدعوة إلى إعادة تجديد وتفعيل الفكر الماركسي القومي ومشروعه النهضوي في بلادنا، ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من المفكرين والمثقفين في إطار القوى الوطنية والقومية اليسارية الديمقراطية، على مساحة الوطن العربي كله، وهي أيضا ليست دعوة إلى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة.
وفي هذا السياق فإن رؤيتي، تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، نحو رؤية ديمقراطية قومية ، تدرجية ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة-الدولة في الوطن العربي ، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف ، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الديمقراطية اليسارية القومية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية ، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –على الصعيد القومي، انطلاقاً من إدراكي بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا فلسطين وغيرها من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في النظام السياسي وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي ، أو للهويات الاثنية والطائفية والعشائرية كما هو الحال في العراق والسودان واليمن ولبنان والجزائر.
في ضوء ما تقدم فإن الحاجة الى بلورة وتفعيل هدف التحرر الوطني ضمن حركة التحرر القومي العربية وبرنامجها الذي يؤكد على انهاء الانظمة المستبدة في راهن مجتمعاتنا العربية ، هو هدف عاجل ، آني واستراتيجي رئيسي ، لكونها أنظمة تخنق الاستقلال الروحي والفكري للمواطن ، بل وتتغذى من هذه العملية عبر محاولاتها تفريغ المواطن وحرمانه من العدالة الاجتماعية ومن حرية الرأي والإرادة والضمير والحس النقدي ، كي ما تحوله إلى أداة تنفيذ فحسب، يتلاعب بها عقل واحد ، أو "رب" عمل واحد، هو جهاز السلطة أو نظام الحكم القمعي بمختلف تلاوينه ومنطلقاته. فبقدر ما يستدعي النضال السياسي والديمقراطي الداخلي أناسا على درجة عالية من الاستقلال السياسي والفكري وحرية الرأي والمعتقد والإرادة والمسؤولية ، يقوم انحطاط السلطة على تعميم الاستلاب والتبعية الشخصية والإلحاق ، فرجل السياسة الاستبدادية في بلادنا( ملكا او رئيسا او أميرا او شيخا ) لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية/ الاسلام السياسي لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الاول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة ، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر الى جانب احتكار السلطة، وكلاهما له مصالح طبقية رأسمالية رثة وتابعة ولا يتناقض أي منهما أبداً مع النظام الامبريالي ، وهنا بالضبط تتجلى العلاقة الجدلية لمفهوم التحرر الوطني والقومي في النضال ضد الوجود الامبريالي الصهيوني من ناحيه وضد انظمه الكمبرادور من ناحيه ثانية للخلاص من واقع التبعية والانحطاط الراهن وتحرير الوطن
والمواطن.
ذلك إنّ واقع الانحطاط في الوضع العربي الراهن يحتاج إلى وقفة تأمل ومحاسبة للنفس، من قبل كافة الاحزاب والحركات اليسارية والفعاليات الديمقراطية العلمانية التقدمية في اوساط المثقفين والمفكرين والفنانين والادباء وغيرهم ، فعلى هؤلاء تقع مسؤولية استعادة المبادرة لتحرير المواطن وانتزاعه التدرجي من الفقر والجهل والولاءات العصبية ، ومن كل اشكال الاستغلال الطبقي والاستبداد اللاأخلاقية واللاإنسانية التي دفعته إليها دكتاتوريات انظمة الاستبداد الكومبرادورية او الرأسمالية الرثة التابعة ،وكذلك انتزاع المواطن من الالتزامات السلفية الغيبية الرجعية التي يطرحها تيار الاسلام السياسي في المشهد الحالي.
وهنا أود التأكيد على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة، إذ أن هذا الانحياز الواعي والمسئول هو الأساس الأول في تحديد ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية ، حيث أن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى مراكمة عوامل انضاج ثورة وطنية ديمقراطية وانتصارها تمهيداً لبناء مقومات القوة الكفيلة بهزيمة وطرد الوجود الصهيوني والامريكي من بلادنا ،وبدون ذلك لن نستطيع تحقيق اي هدف تحرري ونحن عراة ، متخلفين وتابعين ومهزومين يحكمنا الميت( شيوخ قبائل وامراء وملوك عملاء ورؤساء مستبدين) أكثر من الحي (النهوض الوطني والقومي التقدمي الديمقراطي) ، ففي مثل هذه الاوضاع يحكمنا الماضي أكثر من المستقبل...فما هي قيمة الحياة والوجود لأي حزب أو مثقف تقدمي ان لم يكن مبرر وجوده تكريس وعيه وممارساته في سبيل مراكمة عوامل الثورة على الأموات والتحريض عليهم لدفنهم الى الأبد لولادة النظام الثوري الديمقراطي الجديد للخلاص من كل أشكال التبعية والعمالة والاستبداد والتخلف وتحقيق أهداف ومصالح وتطلعات العمال والفلاحين الفقراء وكافة الكادحين والمضطهدين.
وعليه أقول بكل وضوح ، إنّ الثورة لا تنضج بمقدماتها فحسب، بل تكتمل بتوفير الوعي المعمق لكافة العناصر الموضوعية للوضع الثوري والعامل الذاتي (الحزب) ووحدتهما معاً، وهي أيضاً لا يمكن أن تندلع –بالصدفة أو بحفنة من المناضلين المعزولين عن الشعب، بل بالحزب الثوري الديمقراطي المؤهل، الذي يتقدم صفوف الجماهير الشعبية الفقيرة، واعياً لمصالحها وتطلعاتها وحاملاً للإجابة على أسئلتها، ومستعداً للتضحية من أجلها ، واثقاً كل الثقة من الانتصار في مسيرته وتحقيق الاهداف التي تأسس من أجلها.
وفي هذا الجانب ، أشير إلى أنه بدون توفر الإرادة الشعبية والالتفاف الجماهيري، يصبح خوض التمرد الثوري بالعنف الشعبي والمسلح أو بوسائل الضغط الجماهير الديمقراطي لأي حزب أو فصيل نوعاً من المغامرة، لان الجماهير منفضة من حوله، خاصة وان الطليعة لا تناضل نيابة عن جماهيرها، بل بها، وفي مقدمتها، فهي من يرعى المناضلين، ويمدهم بالعون والدعم المادي والمعنوي، ويخفيهم ويحميهم عند الضرورة، كما يمدهم بالدماء الجديدة، ما يجعل انفصال الأحزاب الثورية الديمقراطية عن الجماهير الشعبية – كما هو حالها اليوم في مجتمعاتنا- سمة من سمات هبوط وتفكك هذه الأحزاب وتراجعها السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري ، لذلك فان التأييد الجماهيري مسألة أساسية، إذ إننا – على سبيل المثال- لن نستطيع تنظيم وإنجاح إضراب أو اعتصام أو مظاهرة شعبية لا يقتنع الجمهور بأهدافها أو بالأسباب الداعية لتنظيمها، فإذا كان الأمر كذلك ، فإن غياب أو ضعف قناعة الجماهير الشعبية بممارسة النضال التحرري الثوري المسلح ، تتزايد وربما تصل الى أعلى درجات اليأس والإحباط طالما أن هذه الجماهير الفقيرة عاجزة بسبب فقرها وحرمانها عن تأمين أسباب الحياة الكريمة لعوائلها ، حيث يغيب العقل حين يغيب الدقيق كما يقول ماركس ، ما يعني بوضوح ثوري ساطع أن أي نضال وطني تحرري معزول عن النضال الطبقي الاجتماعي وقضايا الجماهير الشعبية المطلبية ، هو نضال قاصر لن يستطيع تحقيق الالتفاف الجماهيري من حوله ، ويظل محكوماً بالأفق المسدود رغم ضخامة التضحيات، وبالتالي ، لابد أن تنطلق الثورة التحررية الوطنية الديمقراطية في بلادنا العربية، من منظور يساري يضمن تفعيل العلاقة الجدلية بين الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية وبين القضايا المطلبية والصراع الطبقي على طريق الثورة الاشتراكية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق