جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

وداعا حلمي التوني .. فنان تشكيلي ملتزم بالقضية..

 وداعا حلمي التوني .. فنان تشكيلي ملتزم بالقضية..

🇵🇸
خبر حزين استقبله الوسط الثقافي والفني بوفاة الفنان التشكيلي الكبير حلمي التوني عن عمر يناهز 90 عاما، صباح اليوم بالقاهرة،فاضت روحه كما فاضت لوحاته بالحب والبهجة.في رحلة بصرية عبر التاريخ.
يعد الفقيد فنانا تشكيليا كبيرا وأحد أسطوات فن الاخراج الصحفي، ترك بصمات مميزة في صناعة الكتب وأعطى الكثير في مجال كتب الأطفال وظل يعمل حتى اخر ايامه بكل دأب لغرض اشاعة الجمال،في أعماله الاخيرة لوحة تعبر عن تحية للمقاومة الفلسطينية ولطوفان الأقصى،وكان أحد حراس الهوية المصرية، وشكّل وجدان جيل بأكمله بأعماله الخالدة.
رحل تاركًا بصمات لن تمحى على الساحة الفنية من خلال أعماله المتميزة، والتي أسهمت في إثراء الثقافة البصرية على مدار عقود،
ولد بمحافظة بني سويف عام 1934، وحصل على شهادة البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحي، كما درس فنون الزخرفة.عمل في مؤسسة دار الهلال مشرفا على المجلات، وظهرت رسومه في مجلتي "سمير" و"ميكي" للأطفال. كما ساهم في إخراج مجلة "المسرح والسينما"،ويعد أحد أبرز مصممي أغلفة الكتب عربيا ودوليا،حيث تعاون مع كبرى دور النشر في تصميم أغلفة الكتب وإخراجها فنيا، لا سيما مؤلفات الأديب المصري نجيب محفوظ.كما أبدع لوحات ثلاثية لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وترك بصمات مميزة في مجال كتب الأطفال.
وترأس تحرير مجلة "وجهات نظر" الشهرية، وأقام عشرات المعارض الفردية في معظم الدول العربية، وشارك في معارض جماعية عربيا ودوليا.ونال جائزة معرض بولونيا لكتب الأطفال عام 2002، وجائزة منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" عن ملصقه للعام الدولي للطفل عام 1979، وتقتني العديد من المتاحف والمؤسسات لوحاته.
تعامل الفنان الراحل مع جميع الوسائط التي أبدع من خلالها بالقدر نفسه من الاهتمام والروح الإبداعية، وربط باقتدار، بين هذه الوسائط جميعها بخيط من المفردات والعناصر التي ميزت أعماله. بين هذه العناصر والمفردات التي عرف بها حلمي التوني المرأة التي كانت مكانتها فريدة، إذ احتفى بها كرمز، قبل أن يتعامل معها كمكون جمالي من مكونات اللوحة. المرأة التي رسمها التوني هي امرأة خلابة التفاصيل دائماً، تنتمي ملامحها وسماتها إليه وحده. هذه الخصوصية التي تمتعت بها صورة المرأة في أعمال حلمي التوني، انعكست على معالجاته الفنية لبقية العناصر الأخرى في أعماله، والتي تميزت بخصوصيتها وتفردها.
رسم إحدى لوحاته لإمرأة بجناحين وهو يشير إلى فكرة الحرية بالأجنحة وهي فكرة مُباشرة ومناسبة للمعنى الذي يقصده.تبدو خلالها المرأة متزينة بجناحين.الجناحان هنا ليسا دليلاً على الرقة والعذوبة بقدر ما هما رمز لحريتها وسعيها للتحرر.في سبيله للتعبير عن قضايا المرأة يلجأ التوني أحياناً إلى التاريخ، مستدعياً شخصيات أنثوية تاريخية وتراثية ملهمة.
يشير الفنان إلى المكانة التي كانت تتمتع بها المرأة عبر العصور كملهمة لخيال البشرية، فأول تمثال عُثر عليه في أحد الكهوف كما يقول، كان يمثل امرأة. يرى التوني أن المرأة ما تزال إلى اليوم مصدر إلهام بصري للفنانين. لا شك في أن الحضور الأنثوي في لوحات حلمي التوني له بعد جمالي، غير أن الأمر هنا لا يقتصر على الجمال وحده، كما يقول الفنان، فهو يحاول في كل مرة أن يثير قضية ما أو يتطرق إلى ظاهرة بعينها.يتعرض التوني لما هو أهم من الجمال من وجهة نظره، وهي الحرية، إذ يرى أن المرأة أكثر عرضة للقهر والكبت وسلب الحرية من الرجل، وهو جانب مهم لا بد من الحديث عنه وإبرازه، خاصة في مواجهة هذه الأصوات والأفكار الرجعية التي تحط من قدر المرأة ومكانتها في محيطنا.
كان الفنان الراحل يوازن بين عمق الفكرة وسلاسة الرؤية وبساطتها من دون تعقيد يربك المتلقي، كما عُرف باهتمامه واستلهامه للموروث الشعبي في معالجاته البصرية وتوظيفه داخل العمل في تناسق لوني يميل إلى الدرجات المبهجة.
دائماً ما تتضمن أعمال التوني العديد من الإشارات والرموز والعلامات الدالة والمستلهمة من هذا الموروث، وهي علامات وإشارات ذات دلالة تراثية، كطائر الهدهد والكف والعين والطيور والأسماك وغيرها من الرموز المستلهمة من الموروث الشعبي. أما طريقته اللونية في معالجة هذه الموضوعات، فهي أميل إلى الدرجات الزاهية والصريحة. في تكويناته التصويرية يستخدم التوني الخط كوسيلة لتحديد العناصر في لوحاته، فالخط هنا عنصر رئيسي في تشكيل اللوحات، وهو خط كثيف وواضح يؤطر المساحات اللونية ويكسبها حضوراً.
التجأ التوني إلى الفن الشعبي لرغبته في العودة إلى الأصول والبدء منها كما فعل فنانو عصر النهضة الأوروبي، حين استلهموا فنون الحضارة الرومانية وأعادوا بناء صروحها التي تهدمت، ثم انطلقوا إلى رحاب أخرى أوسع وأكثر ثراء. وعلى الرغم من استقرار التجربة الإبداعية للفنان الراحل وتميز مفرداته وأشكاله وعناصره، إلا أننا لا نشعر بين أعماله أبداً بالرتابة أو التكرار، فقد كان قادراً على إدهاش متابعيه ومحبي فنه بالجديد في كل مرة.
جمع التونى مفرداته وعناصره من سجلات التاريخ، ومن بين ركام الذاكرة المسجلة على قلائد أوأقراط الجدات، ومن رسوم الوشم والنقوش المنحوتة على أبواب البيوت الخشبية القديمة. استلهم الفنان ذلك الموروث الشعبي، فارتكن إلى ذخيرة لا تنضب من المفردات والعناصر.في استلهامه للموروث، ظل يبحث ويجمع ويدقق لسنوات، في مفردات كما في تجليات ذلك الفن الذي كان يعتبره بوتقة كبيرة، انصهرت فيها وتفاعلت كل العصور والحقب التي مرت على مصر. وقد بدأ الفنان في رحلة استلهامه للفن الشعبي مقلداً وناسخاً لمفردات هذا الفن وعناصره، لكنه سرعان ما تحول إلى مرحلة أخرى بعد أن تشبعت روحه وذاكرته البصرية بمئات الأشكال والرموز والدلالات الخاصة. استطاع التوني أن يخلق لنفسه رموزه وعناصره التي تنتمي إليه، من دون أن يقطع حبال التواصل مع ذلك الفن الذي أبحر فيه لسنوات وذابت روحه في تجلياته ودلالاته المختلفة.
كان الفنان حلمي التوني شاهداً على العديد من الأحداث والتحولات المحورية التي حصلت في مصر والمنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.بعد هزيمة 1967،تعرض العديد من الكتاب والمثقفين إلى الملاحقة والتضييق،وأُبعد العشرات من أصحاب الأقلام والمبدعين عن الصحف والمجلات التى يعملون فيها.وكان حلمي التوني من بين الذين أقيلو من مؤسسة "دار الهلال" ليجد نفسه بلا عمل أو وظيفة، بل ومغضوبا عليه من النظام،فقرر السفر إلى لبنان لبعض الوقت حتى تستقر الأمور. غير أن إقامته في لبنان امتدت إلى 12 عاماً . اندمج التوني في الحياة الثقافية اللبنانية وتعرف عن قرب على العديد من الكتاب والمثقفين اللبنانييين البارزين، ومن بينهم سهيل أدريس وطلال سلمان والراحل عبد الوهاب الكيالى رئيس المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وقد بقي حلمي التوني فى لبنان حتى الاجتياح الصهيوني عام 1982وعاش أيام حصار بيروت الذي استمر لما يزيد عن شهرين.
عُرف التوني بغزارة إنتاجه واهتماماته المتعددة، إذ تنوعت اهتماماته من الرسم والتصوير، إلى الكاريكاتير والرسوم الصحافية والتصاميم الغرافيكية،حقق الفقيد العديد من النجاحات وتولى العديد من المناصب، وأقام العديد من المعارض سواء محلية أو دولية، وعاش بالقاهرة وبيروت، كما أن العديد من الناس في مختلف دول العالم يقتنون الكثير من لوحاته.وأثرى حلمي التوني على مدار أكثر من نصف قرن أغلفة الكتب وصفحات المجلات والصحف بأعماله الفذة ذات الطبيعة الخاصة، وأدخل ملايين القراء عوالم مذهلة جمعت بين الحداثة والتراث والفلكلور الشعبي.
وبجانب الرسم يعتبر التونى من أبرز الفنانين فى مجال تصميم الكتاب والمجلة في العالم العربي،فقد عمل فى تصميم أغلفة الكتب،والإخراج الصحفى لعدد من دور النشر حتى بلغ عدد أغلفة الكتب والمجلات التي رسمها أكثر من أربعة آلاف كتاب ومجلة
ورغم تقدمه في العمر على مدى السنوات الأخيرة، لم يتوقف إبداع حلمي التوني ولوحاته المبهجة والجذابة،وفي احتفالات عيد الأم بمارس الماضي،كشف عن إحدى لوحاته المميزة،وكتب عبر حسابه الرسمي في الفيسبوك: تذكرت أمي التي ترملت وهي في الأربعين من عمرها فكرست حياتها لتربيتنا نحن أولادها الثلاثة، وهذا أمر معتاد يتكرر كثيرا ـ هذه هي أمي البيولوجية التي لم تختارني ولم أختارها، لكن أمي التي اخترتها واختارها كل أبناءها المصريين هي «بهية» التي نغني لها «مصر يمه يا بهية» والتي أرسمها في كل لوحاتي ومع كلامي هذا أقدم أحدث لوحاتها..«بهية» التي تقدم قلبها وكل حبها لأولادها المصريين....عملت معرض لوحات عن الأغاني.. كل أغنية عملت لها لوحة.. مبعملش لوحة مطابقة للنص، لكن بعمل لوحة في جو الأغنية... أنا بحب الغناء جدا، لذلك بقول دايما إن اللي مبيغنيش لازم نخاف منه شوية، زمان كان صوتي حلو.. دلوقتي ودني بس اللي حلوة».
في تصريحات تلفزيونية قبل وفاته أكد الرسام الشهير حلمي التوني أنه يرفع شعار البهجة طوال حياته في كل شيء، لذلك تفيض لوحاته بالحب بجميع أشكاله، قائلا: «اللوحات تفيض بالحب عشان أنا رافع شعار البهجة طول الوقت والله العظيم.. الناس محتاجة البهجة باستمرار، بطبيعتي أنا بصحى الصبح أغني وأرسم، الأغاني اللي بحطها ومعاها اللوحات دي بتجيلي الصبح، فبقول لازم أشارك مع الناس الفرحة واللطافة دي باللوحات».
وفي آخر حوار صحفي له بعد طوفان الأقصى بشهرين، نجد حلمي التوني يؤكد على ان الفنان لا ينفصل عن واقعه
وهو يعتبر اهتمامه بالقضية الفلسطينية جزءا من إلتزامه كفنان بالشأن العام.واضاف "سواء كصحفى أو فنان تشكيلى فأنا ملتزم بمعنى أنه تشغلنى قضايا الشأن العام والتى تنقسم لدى إلى قسمين وهى قسم الوطنيات والهوية ثم قسم المساواة والعدالة والتى أهتم فيه بحقوق المرأة لأننى أشعر دائما أنها مظلومة ومجنى عليها". حاول حلمي التوني عبر لوحاته وعلى مدار خمسين عاما تكريس صورة ارتأى أنها المثالية لأرض فلسطينية حرة يعيش فيها شعب حر قادر على صنع مستقبله انطلاقا من تراثه الكبير، وذلك بعد القضاء على احتلال غاصب لا جذور له في هذه الأرض المقدسة.كما احتفى بالمقاومة رمزا وتعبيرا، وأصّل لها ابتداء من مرحلة الثلاثينيات ضد الاحتلال البريطاني مرورا بنكبة عام 1948 ثم انطلاق العمل الفدائي من خارج فلسطين ومن داخلها ثم أطفال الحجارة والانتفاضات المتتالية، وحتى المشهد الحالي بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023.وبحسه الفني البديع عمد حلمي التوني إلى توثيق رموز المقاومة فنيا كما فعل مع مفردات التراث الشعبي الفلسطيني، فنجد في لوحاته علم الثورة الفلسطينية وعلامة النصر التي حولها الراحل ياسر عرفات إلى أيقونة، ومفتاح العودة، وأغصان الزيتون وميزان العدالة، إيمانا بإنسانية وعدالة القضية فضلا عن وطنيتها وبعدها الهوياتي.وقد انتقد المبدع الكبير الراحل صمت الفنانين المصريين والعرب بعد أحداث طوفان الأقصى.احتلت القضية الفلسطينية أولوية بارزة في اهتمامات وأعمال الفنان التشكيلي المبدع الراحل حلمي،وكان آخر منشور له على "فيسبوك"في منتصف يوليو الماضي عن فلسطين مصحوبا بعبارة "عيوننا إليكِ ترحل كل يوم" من قصيدة زهرة المدائن نظم وتلحين الأخوين رحباني وغناء فيروز.
اتسمت أعماله عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والحق الفلسطيني التاريخي بصراحة التناول،فالأرض عنده فلسطينية من النهر إلى البحر، والتاريخ فلسطيني عربي لا جدال فيه ولا منازعة.
في لبنان، حيث أقام التوني صمّم عشرات الملصقات التي تُمجّد المقاومة، ضمن تعاونه مع الإعلام الموحد لـ"منظّمة التحرير الفلسطينية"،ووثّق برسوماته حصار بيروت الذي عاش تفاصيله مع المحاصَرين عام 1982، كما يحتفظ الأرشيف الفلسطيني بأعماله التي سجّل فيها يوميات الانتفاضة منذ اندلاعها سنة 1987، مواصلاً التفاعل مع كلّ الأحداث التي مرّت على الشعب الفلسطيني حتى اليوم، وكثيراً من تصميماته استُنسخت آلاف النسخ، ربما لأنّها قاربت الكفاح والمقاومة بصورتين فقط: امرأة صامدة وطفل يعرف معنى الحياة.
مع بدء العدوان الصهيوني على غزّة في أكتوبر الماضي، استعاد حلمي التوني واحدةً من أشهر لوحاته على صفحته في فيسبوك، بعنوان "فلسطين الأمّ"، وكتب إلى جوارها حكايتها: "هذه اللوحة عن سيّدة فلسطينية (تنتظر).. رسمتُها في بيروت صيف 1982. وبعد أيام من رسمها اجتاحت 'إسرائيل' لبنان واحتلّت بيروت لتكون أوّل عاصمة عربية في العصر الحديث تسقط تحت الاحتلال.. وتضيع اللوحة! ومن يومها والسيّدة الفلسطينية (تنتظر).. حتى يأتي أولادها وأحفادها، بعد إحدى وأربعين سنة، ليردّوا لها شرفها وكرامتها"،في صفحته كان يرسم لفلسطين،مع تعليقات لاذعة تهجو ازدواجية المعايير الغربية، وهرولة أنظمة عربية نحو التطبيع، ويرسم في أُخرى نساءً وأطفالاً يقاومون التوحّش الصهيوني، وتنبعث الإرادة والحياة فيهم رغم الجراح والموت.فلسطين لم تغب يوماً عن بال التوني، الذي كان أحد المفصولين من الصحافة المصرية عام 1973، بسبب مطالبتهم نظام السادات بإعلان الحرب على الكيان الصهيوني، وجرى التضييق عليه بمنع عرض لوحاته في متاحف القاهرة، فقرّر السفر إلى بيروت.في رسمٍ أحدث نشره الفنان بداية ديسمبر الماضي على صفحته أيضاً، تظهر امرأة فلسطينية باكيةً وهي ترفع إصبعيها المجروحين علامة النصر، وثبّت في منشوره بيتَ للشاعر أحمد شوقي القائل "وللحرية الحمراء باب/ بكلّ يد مضرّجة يدق"، وقبلها بأيام تتالى نشره لرسومات كلّها بالأبيض والأسود تفاعلاً مع يوميات العدوان على غزّة، منها رسم لامرأة مطعونة بسكّين في ظهرها وهي تصرخ:" اللهم اكفني شرّ أصدقائي. أمّا أعدائي، فأنا كفيل بهم".وفي لوحة كان موضوعها فلسطين، رسْمٌ لامرأة تختزل مصر التي يعرفها وهي تحتضن طفلاً فلسطينياً، مع لوحات أُخرى أقدمُها لنساء فلسطينيات تقترب من شخصياته النسائية التي اشتهر برسمها، لكن من دون أجواء احتفالية.تحافظ النساء الفلسطينيات في لوحاته على جوهر أساسي لطالما اختاره لرسم معظم النساء؛ الصلابة والقوّة وإرادة الحياة،مع تعابير عفوية وتلقائية على وجوههن وحركتهن، وكأنهن لا يلتفتن إلى رقيب هنا وهناك، في عمل يحاكي الأيقونات بطابع شعبي، مع إضافات تناسب هذه اللوحات،حيث تحمل فتاة سلّة برتقال وتزركش ثوبها الملوَّن بنقشٍ لقبّة الصخرة،كما في لوحة رسمها سنة 1977 بعنوان "فلسطين في القلب".اتسمت أعمال حلمي التوني عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والحق الفلسطيني التاريخي بصراحة التناول، فالأرض عنده فلسطينية من النهر إلى البحر، والتاريخ فلسطيني عربي لا جدال فيه ولا منازعة،أما المقاومة في أعماله فهي حق مطلق للشعب الفلسطيني المقهور،تحيا وتستمر بالصمود والمقاومة.لقد شغلت القضية الفلسطينية قسما بارزا من اهتماماته الفكرية والفنية حتى آخر أيام حياته..
لروحه الرحمة والسكينة


وداعاً " التوني " رفيق طفولتي
مرحلة الطفولة من أهم المراحل التي يمر بها الإنسان وكل ما يمر به الطفل في تلك المرحلة له أثر كبير وواضح في تكوين شخصيته في المستقبل ، وعن تلك المرحلة في حياتي الشخصية كانت تجربتي الفنية تتبلور ببطئ دون إدراكي حينها لذلك ،حيث كانت بداياتي مع الفن منذ الصغر كنت أرسم علي كل ما تقع عليه يدي من مسطحات سواء أوراق، دفاتر، مجلات، كتب، جدران، وفي بعض الأحيان كانت رسومي علي الأرض والطين والرمال ، أخطط وأرسم وأعبث بتكوينات وأشكل مجسمات ذات معنى ، وأتذكر أنني في مرحلة ما خلال رحلة طفولتي كنت أقوم بتقليد الرسوم والصور من الكتب والمجلات وكانت تجذبني الرسوم البسيطة ذات الخطوط الواضحة بلا تعقيد لأنها سهلة ولتمكني من الوصول إلي درجة كبيرة من التشابه معها ، وفي أحد المرات كنت أبحث بين الكتب والمجلات في مكتبة منزلنا فعثرت علي جريدة رُسم علي غلافها سيدة ذات عيون واسعة وشعر مموج وكانت بسيطة وجميلة ، وبجانبها توقيع بخط مميز بأسم ( التوني ) جذب إنتباهي وجهها فقمت بتقليد تلك الرسمة وبعد أن لونتها عرضتها علي والدتي بكل فخر فأُعجبت بها أمي بشدة حيث كانت متشابهة بنسبة كبيرة مع الرسمة الأصلية ومن أجل ذلك و لزيادة لتشجيعي قامت بلصق الرسمة علي الحائط لتؤكد شعوري بالفخر ، كانت تلك أول رسمة إستطعت تحقيق تطابق كامل لها بلا خلل في أي نسب ، ومن هنا بدأت أتتبع رسوم ( التوني ) في المجلات والكتب والصحف ، لم أكن أعرف وقتها من هو ( حلمي التوني ) وليس لدي إدراك لمعني أو مفهوم الفن الشعبي لكني كنت علي فطرتي التي جعلتني عشقت تلك الرسوم ذات التفاصيل الصغيرة والورود والمثلثات و العيون الواسعة التي أثرت في مخيلتي ، والكلمات التي تحيط بالرسوم في بعض الأحيان ، ومرت السنوات وصقلت موهبتي الخبرات المكتسبة من الزمن ، كما تطور إدراكي لمفهوم الفن ،كما أصبحت جزءاً من مجتمع الفنون التشكيلية وأصبح الفن الشعبي هو الملهم الأساسي لأعمالي الفنية ، ورغم كل تلك الخبرات المتراكمة الإ أن رسوم التوني إحتلت جزءاً كبيراً في ذاكرتي ، ولم أكن أتوقع أبدا أن يجعل القدر طريقي يلتقي بطريق الفنان الذي صاحبتني رسومه في رحلة طفولتي ، فبرغم تقدم هذا الفنان في العمر لم يتوقف عن إبداعه للوحاته المبهجة والجذابة، و حينما سمعت بخبر المعرض المقام بالأسكندرية للفنان الكبير ( حلمي التوني ) كدت أن أطير من الفرحة ، فبسبب بعدي عن القاهرة كان من الصعب علي زيارة معظم المعارض المقامة فيها ، وفي تلك اللحظة تسائلت هل شاء القدر أن أقابل ملهم طفولتي وأنا في هذا العمر؟ ، وبالفعل ذهبت وزوجي وأبني لحضور معرضه والذي إقيم في قاعة شلتر للفنون في اكتوبر 2021 ، كان أول لقاء علي أرض الواقع معه ، فبمجرد ما عبرت باب القاعة إستقبلتني تلك الوجوه البسيطة والعيون الواسعة والتفاصيل الجميلة ، تلك لوحاته التي تشع بالحياة والبساطة والتراث وترفع شعار البهجة وتفيض بالألوان والحب بجميع أشكاله، ثم وقعت عيني عل الفنان والذي كان جاساً في منتصف القاعة مرحباً بالزوار الذين تهافتوا علي إلقاء السلام عليه والتعبير عن محبتهم وإعجابهم بأعماله ، وكان بجانب ( التوني ) كرسياً فارغاً فقام أبني بالجلوس عليه بكل براءة وقد كان يبلغ وقتها من العمر تسعة سنوات وهو لا يدرك أنه جالس في حضرة واحد من أهم المبدعين المصريين فقام التوني بألقاء التحية عليه وبدأ في الحديث معه وسأله عن رأيه في المعرض وعبر أبني عن حبه للوحات ووصفها بأنها " جميلة " فوجدت في هذا المشهد ما هز مشاعري وكيف يرتب القدر تلك المواقف ، فذهبت إليه أنا وزوجي لنعرفه بأنفسنا فنظر إلينا بترحاب وبأبتسامة هادئة وقد عرف أسمي وميز أعمالي الفنية وبدأ بيننا الحديث ثم مددت إليه نسخة مصغرة من أحد لوحاته التي توزع في المعرض ليوقعها ، ثم عرض علي الجلوس وتبادل الأحاديث والتي عبرت خلالها عن فرحتي بهذا اللقاء وسردت له بشكل مختصر قصة تأثري برسومه في طفولتي ففرح بذلك وعرض علي أسرتنا الصغيرة زيارة مرسمه في الزمالك مستقبلاً مما أسعدني ذلك بشدة وتبادلنا أرقام الهواتف ليستمر التواصل ، وبالفعل ظل تواصلي معه بشكل أسبوعي خاصة بعد علمي أن حالته الصحية ليست علي ما يرام ، فحرصت علي دوام هذا التواصل حيث وجدت صدي طيب في نفسه من هذا الفعل ، وعندما كانت الفرصة مواتية لزيارته كنت لا أتردد في ذلك وهو كان يرحب بذلك بشدة ويسعده تبادل الأحاديث والأفكار ، وأذكر أن في أحد الزيارات تحدث معي عن أسلوبي الفني وأنه معجب بتمسكي بالتراث وأنني يجب الحفاظ علي تلك السمة في أعمالي حيث يري أنه كل من يتمسك بهذا الطريق هو حارساً لهوية مصر من خلال الفن ، وفي الحقيقة أري أن الفنان (حلمي التوني ) هو واحد من أهم الفنانين الذين حافظوا علي هويتهم المصرية في أعمالهم الفنية علي الساحة التشكيلية ، ورغم رحيله عن عالمنا الإ أنه سيظل عالقاً في ذاكرة الوطن كأحد أشهر الفنانين التشكيليين في مصر حيث تشهد مسيرتة الفنية والصحفية المتميزة علي ذلك وكانت رسومه مصدر للبهجة والإلهام لعديد من محبي الفنون ، وستظل رسومه لها طابع خاص و مميز في تاريخ الفن التشكيلي المصري .
أ.د/ مني غريب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *