فنجان قهوة للتاريخ: ١٨١ عام على اول لقاء بين كارل ماركس و فريدريك انجلس. د. عمرو حمود حديفة
فنجان قهوة للتاريخ: ١٨١ عام على اول لقاء بين كارل ماركس و فريدريك انجلس.
د. عمرو حمود حديفة
في يوم 28 آب/أغسطس عام 1844، في باريس، في مقهى "لا ريجانس"، التقى شابان غيّرا مجرى التاريخ. كان ماركس وإنجلز قد تواجها من قبل، لكن هناك، بين صخب لاعبي الشطرنج وضجيج العاصمة الفرنسية، تعرّفا في بعضهما لا على مجرد تقارب فكري، بل على شعلة مشتركة، صنعتها السخط والأمل.
كان ماركس يحمل في يده مخطوطات نقده للاغتراب، لا يزال متأثراً بمعاركه ضد الرقابة البروسية. وكان إنجلز قادماً من مانشستر، يحمل في عينيه سواد المصانع، وشهادة على بؤس العمال الإنجليز، ومسودة نقد للاقتصاد السياسي. التقى الفيلسوف بمؤرّخ العمل كما يلتقي نهران، بعد أن جريا منفصلين، ليقررا أن يشتركا في مجرى واحد. بعد عقود، سيذكر إنجلز أن ذلك اليوم كشف لهما الانسجام الكامل في جميع الميادين النظرية، وأن عملهما المشترك بدأ منذ تلك اللحظة. لم يكن ذلك بداية صداقة فقط، بل تأسيساً لجماعة من الفكر والنضال، تحوّل فيها النقد إلى سلاح، والتفكير إلى ممارسة ثورية.
شهد مقهى "لا ريجانس"، الذي اشتهر بأنه ملتقى الموسوعيين ولاعبي الشطرنج، بداية مواجهة من نوع آخر في ذلك اليوم. ففيما كان بعضهم يحرك القطع على أربعة وستين مربّعاً، كان ماركس وإنجلز يستشعران أن الرقعة الحقيقية هي التاريخ، وأن الطبقات الاجتماعية هي المتنافسون الحقيقيون فيها. تكمن شاعرية هذا اللقاء في كونه لم يحدث في مؤتمر ولا في جمعية، ولا حتى في اجتماع على مستوى عالٍ، بل في حديث بين شابين أشعلا، حين تعرّفا أحدهما إلى الآخر، شرارةً ستعبر الأجيال.
من تلك الطاولة ستولد نصوص مثل العائلة المقدسة والأيديولوجيا الألمانية، وبعد بضع سنوات، البيان الشيوعي. لكن الأهم من المؤلفات كان ذلك الفعل الأولي: قرار التفكير معاً، دمج الفلسفة بالتجربة الملموسة، رفض الاكتفاء بالتأمل والانطلاق نحو الممارسة. هناك، وجد ماركس في نظرة إنجلز الشهادة الحيّة على أن البروليتاريا لم تكن مجرد فئة مفهومية، بل قوة تاريخية متحركة. ووجد إنجلز في ماركس السلاح النظري القادر على تحويل الغضب الذي كان يغلي في المصانع إلى نظرية.
إن الاحتفال اليوم بمرور 181 عاماً على ذلك اللقاء ليس تمريناً على الحنين، بل نداء. فقد كانت صداقة ماركس وإنجلز فعلاً سياسياً أيضاً: أظهرت أن النقد الجذري يحتاج إلى الحوار، وأن التضامن الفكري قد يكون ثورياً بقدر الإضراب أو المتراس. ولا تزال الشرارة التي انطلقت في ذلك المقهى متقدة في كل حركة تجرؤ على تحدي العالم كما هو، لتذكرنا أنه لا وجود لمصير محتوم، بل لساحات معارك.
يمكننا أن نتخيّل، للحظة، أن تلك الطاولة في "لا ريجانس" ما زالت منصوبة، في أحد منعطفات الذاكرة الجماعية. عليها أوراق متناثرة، ونظرات متواطئة، وقناعة صامتة بأن العالم كان (ولا يزال) قابلاً للتغيير. والجلوس مجدداً إلى تلك الطاولة هو مهمة كل جيل. فالفلاسفة، حتى ذلك الحين، لم يفعلوا سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن هناك، قبل 181 عاماً، قرر مفكران أن يغيّراه — معاً.
وهذه الطاولة هي التي تدعونا اليوم: في مواجهة بربرية الرأسمالية، والتدمير البيئي، وتفكيك شروط العمل، إن استعادة فعل ماركس وإنجلز تعني تجديد التحالف بين النظرية والممارسة، بين الصداقة والثورة. إذ إن اللقاء وحده — في المقهى، أو في المصنع، أو في الشارع — هو الذي يمكن أن يشعل من جديد النار القادرة على إحراق العالم وإعادة خلقه.
مشروع_أورورا_الاعلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق