جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

المحكمة الدستورية في تونس بين التغييب القصدي وانكسار الأفق الديمقراطي الشعبي *عمران حاضري

 المحكمة الدستورية في تونس بين التغييب القصدي وانكسار الأفق الديمقراطي الشعبي

تُعدّ المحكمة الدستورية في جوهرها الضامن الأعلى لسيادة الدستور ولتوازن الدولة بين سلطاتها، وهي التعبير المؤسسي الأرقى عن الوعي المدني ، الجمهوري الذي يُخضع الحاكم للقانون ويصون حرية المواطن من تغوّل السلطة... إنها ليست آلية تقنية بل تجسيد لفكرة الدولة القانونية الحديثة بوصفها تعاقدًا إراديًا بين المواطنين الأحرار، لا امتدادًا لإرادة فرد أو جهاز أو حزب...
غير أنّ المسار التاريخي التونسي، من دستور 1959 إلى دستور 2014 وصولًا إلى دستور 2022، يكشف أنّ تغييب المحكمة الدستورية لم يكن صدفة أو تقصيرًا إجرائيًا، بل سياسة مقصودة لتأبيد منطق السيطرة وتحييد أي سلطة رقابية دستورية عليا ، يمكن أن تلغي بعض القوانين التي تتعارض مع روح الدستور أو تحدّ من هيمنة القرار التنفيذي أو تكشف لاشرعية بعض الممارسات السياسية ...
إنّ تغييب المحكمة الدستورية هو الوجه المؤسساتي لغياب الإرادة في إقامة دولة القانون و المؤسسات ، وهو ما جعل النص الدستوري نفسه يتحوّل إلى واجهة رمزية تُخفي واقع الحكم بالمراسيم والتعليمات...!
فمن دون رقابة دستورية حقيقية مستقلة، تتلاشى الحدود بين الشرعية والمشروعية، وتُختزل الدولة في إرادة الحاكم الذي يحتكر تعريف “المصلحة العامة” و”الإرادة الشعبية”...!
هذا الانحراف البنيوي منذ عقود إلى الآن ، أدّى إلى تفريغ فكرة الديمقراطية من مضمونها الشعبي، وإلى تأبيد المركزية السلطوية التي جعلت من الدستور أداة تبييض للهيمنة لا ضمانة للحرية و الديموقراطية الشعبية المنشودة... هذا المسار ترك السلطة مركزة في يد رئيس الدولة، وألغى عمليًا منطق التوازن بين السلط لصالح بنية فوقية تُمجّد “الزعيم” وتُضعف الأجسام الوسيطة...! وبالتالي صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة الولاء لا المواطنة، وعلى مبدأ السيطرة لا التشاركية...
وفي هذا السياق، تزايدت حملات التشويه والمضايقة ضد المجتمع المدني والمنظمات التي لا تبدي الموالاة للنظام، هذه الهرسلة المنظمة تعكس رؤية سلطوية ترى في الأجسام الوسيطة خطرًا على “وحدة القرار”، وتعتبر استقلال المجتمع المدني عن الدولة تهديدًا يجب تطويقه قانونيًا وأمنيًا وإعلاميًا ...!
لقد أفضى هذا الوضع إلى إشاعة روح الخوف و الإرباك في النسيج المدني و محاولة تهميش القوى السياسية و الاجتماعية القادرة على تمثيل المصالح الشعبية، صوب محاولات تفريغ الحقل العام من تعدديته...
في غياب المحكمة الدستورية، فقد المجتمع منذ عقود إلى الآن آلية تحكيم مؤسسية تحميه من تغوّل السلطة، فانتشر شعور عام بانسداد الأفق و عبثية المشاركة، وتراجع الإيمان بجدوى المؤسسات، وبدأت قيم المواطنة تتآكل أمام صعود قيم الولاء والمحاباة والانتماء الزبوني...!
في المستوى الأخلاقي والثقافي، عمّقت هذه الحالة أزمة الضمير العام، إذ تراجعت فكرة القانون كقيمة عليا لصالح منطق القوة !والتأويل السياسي للنصوص وغابت الحدود الفاصلة بين ما هو قانوني وما هو مشروع... وهكذا تمّ تحييد الدستور كمجال للفكر العمومي التعاقدي الحر، وتحويله إلى أداة لتبرير سياسات أحادية تخدم تثبيت النظام لا تحقيق العدالة...!
المحكمة الدستورية الحقيقية المستقلة ، الخاضعة للمعايير القانونية الدولية ، ليست مطلبًا تقنيًا أو قانونياً فحسب، بل هي أفق من الآفاق ، الذي يعيد المعنى للمواطنة و يحول الدولة من جهاز تسلط او سلطة فوقية إلى مشروع اجتماعي تعاقدي خاضع للمساءلة في سياق فصل السلطات و حماية التوازن بينها و ضمان الفصل بين الدولة و الحاكم... مقومة من مقومات الديمقراطية و رافد من روافد إحياء مشروع التحررالوطني
...و الانعتاق الإجتماع
إنّ المحكمة الدستورية، في معناها العميق، ليست مجرد هيئة رقابية، بل هي صوت المجتمع في وجه الدولة، وذاكرة القانون في مواجهة انتهاك الحقوق و الحريات ، وجسرٌ بين الشرعية القانونية والشرعية الشعبية... بالتالي غيابها، ، هو غياب لفكرة الدولة الحديثة نفسها، وانسحابٌ لمبدأ المواطنة لصالح منطق التبعية والخضوع...! عمران حاضري
27/10/2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *