جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

أسرار مشاركة “إسرائيل” في اختطاف بن بركة| الحلقة 1: ظرفان في خزانة الموساد والبشير بن بركة يهاجم الكتاب ويصف معطياته بالتضليل

 أسرار مشاركة “إسرائيل” في اختطاف بن بركة| الحلقة 1: ظرفان في خزانة الموساد

يفتح كتاب «قضية بن بركة.. نهاية الأسرار» نافذة جديدة على ملف ظلّ، ستة عقود كاملة، رمزًا للغموض السياسي في المغرب الحديث. فرغم كثرة ما كُتب وصُوّر عن اختفاء المهدي بن بركة في باريس عام 1965، بقيت الحلقة الإسرائيلية خارج السرد الرسمي. ما يقدّمه ستيفن سميث ورونين بيرغمان هذه المرة هو اختراق استثنائي، يستند إلى وثائق أفرج عنها الأرشيف الإسرائيلي، تضع الموساد داخل تفاصيل العملية منذ لحظاتها الأولى. ومع ذلك، يُبالغ المؤلفان حين يضعان عبارة «نهاية الأسرار» على غلاف الكتاب. فالمواد التي يكشفانها، على أهميتها، لا تُجيب عن أسئلة جوهرية بقيت معلّقة منذ 60 عاما: مكان دفن جثة بن بركة، وحدود علم وتواطؤ الأجهزة الفرنسية. عبر حلقات تقدم لكم منصة هوامش أبرز ما ورد في الكتاب.

عماد ستيتو

في السادس والعشرين من يونيو سنة 1966، أغلق رجل على نفسه باب مكتبه في وزارة الدفاع بتل أبيب، وجلس يطبع على آلة كاتبة سبع صفحات مكتوبة بدقة. كانت تلك الصفحات بمثابة وصيته في قضية المهدي بن بركة. هذا الرجل السبعيني، الذي أنهكته إحدى عشرة سنة متواصلة في الحكم، كان يخشى على مستقبله السياسي، بل على حياته نفسها.

بصفته وزيرًا أول ووزيرًا للدفاع، كان هو المسؤول الأول عن تورط جهاز الموساد في قضية اختفاء المعارض المغربي في باريس قبل سبعة أشهر. كان يشعر بتهديد مضاعف من طرف المديرين، الحالي والسابق، للموساد، اللذين كانا على خلاف حاد. فالرئيس الحالي للجهاز السري كان يلومه على عدم تحمّله مسؤولية ما تمّ ارتكابه بموافقته، بينما كان سلفه، الذي عُيِّن مستشارًا في شؤون الاستخبارات، يضغط لمعاقبته على عملية كارثية سياسيًا ودبلوماسيًا، فضلا عن كونها غير أخلاقية.

وجد ليفي إشكول نفسه بين المطرقة والسندان، فكتب روايته للأحداث ووضعها في خزانة وزارة العدل، داخل ظرفين كبيرين مليئين بالمستندات السرية التي قال إنها ستكون في متناول الأجيال القادمة للحكم عليها.

في هذين الظرفين الكبيرين كانت نسخة من مذكرته الدفاعية، ومئات الرسائل المتبادلة بين المقر الرئيسي للموساد في تل أبيب وفروعه عبر العالم، إلى جانب محاضر الاجتماعات السرية رفيعة المستوى، وتقارير التحقيقات، والملخصات، وقصاصات صحفية مرفقة بتعليقات.

كان هذا الكنز من الوثائق شاهدًا دقيقًا، يومًا بيوم وساعة بساعة، على الدور الذي لعبه الموساد في عملية بن بركة. كما يكشف أيضًا عن نشاط الأجهزة المغربية التي بادرت إلى تنفيذ عملية الاختطاف، وعن تصرفات العصابات الفرنسية التي أوكلت إليها المهمة. كل شيء موثّق ومختوم بطابع السرية الخاص بأجهزة التجسس، بعيدًا عن أسلوب السرد الدعائي الموجّه للرأي العام الإسرائيلي أو الدولي.

على مدى نصف قرن، انتقل هذا الأرشيف الثمين من يدٍ إلى يد، بين حراس سرّ الدولة، بمن فيهم اثنان من رؤساء وزراء “إسرائيل”. 

تُضاف هذه المواد إلى كمٍّ كبير من الأدلة التي تراكمت خلال ستين عامًا، من بينها ما كشفت عنه التحقيقات العامة منذ سنة 1965، وما أفرجت عنه العدالة الفرنسية، بعد تغيّر السلطة عام 1981، ووفاة الحسن الثاني سنة 1999، ثم ما أُتيح أخيرًا سنة 2018 من ملفات جهاز المخابرات التشيكوسلوفاكي الشيوعي (StB) الذي كان بن بركة على اتصال به.

هذه المصادر، بمجموعها، تمثل اليوم رصيدًا مهمًا من الوقائع المثبتة، يسمح بإعادة سرد قصة القضية من بدايتها إلى نهايتها، مدعومة بوثائق دامغة.

لقد كُتبت مئات الكتب، ونُشرت آلاف القصاصات الصحفية، وأُنتجت العديد من الأفلام والبرامج الوثائقية حول قضية بن بركة، ومع ذلك ظلّت المفاتيح الحقيقية للقضية غامضة.

الكثير مما نعتقد أننا نعرفه عن اختفاء بن بركة يستند إلى روايات غير دقيقة. على سبيل المثال، لم يُختطف زعيم المعارضة المغربية بالقوة كما شاع، بل أوقفه شرطيان فرنسيان قدّما له هويتيهما المهنية، وسط المارة الذين لم يشكّ أحد منهم في أن الأمر قد يكون حادثة غير عادية. فقد وافق بن بركة بهدوء على مرافقة رجلي الشرطة لمقابلة “شخصية سياسية”، دون أن يدري أنه يسير نحو الموت.

وللدقة، لم يقع المشهد أمام مقهى “ليب” كما ورد في الروايات المتداولة، بل بجواره، عند مدخل فندق “تاران”.


لقد ركّزت معظم الروايات على المكان الذي كان يُفترض أن يتناول فيه بن بركة الغذاء مع ثلاثة أشخاص: مخرج سينمائي، وناشط صحافي، ورجل سوابق أصبح لاحقًا محور اهتمام الإعلام. وكان واحد منهم على الأقل متواطئًا مع مختطفيه.

في ذلك اليوم الخريفي من عام 1965، قرابة الساعة الثانية عشرة والربع ظهرًا، نزل المهدي بن بركة من سيارة أجرة في شارع سان جيرمان بباريس، متقدّمًا على موعد غذائه المنتظر في مقهى “ليب”.

كانت فرنسا الديغولية آنذاك تغص بالشرطة الموازية والميليشيات، أي السلطة الحقيقية الخارجة عن رقابة النظام الديمقراطي.

لم يكن بن بركة يثق في التفاهمات الفرنسية ـ المغربية. فقد وضع عائلته في أمان بالقاهرة واستقر في جنيف عام 1963، لكنه لم يسلم هناك من محاولة اختطاف واغتيال، اتُّهمت فيها المخابرات المغربية والفرنسية معًا. بعد تلك الحادثة، اختفى أسبوعين في إيطاليا بهوية مزورة.

الجواب يرتبط بسببين أساسيين؛ كلاهما متصل بدوره في التحضير لمؤتمر القارات الثلاث (أفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية) المزمع عقده في يناير 1966 في هافانا.


كما كان قد التزم بالمشاركة في مشروع فيلم عن مناهضة الاستعمار بعنوان “كفى!” (¡Basta!)، يظهر فيه جمال عبد الناصر وفيديل كاسترو وأحمد بن بلة وكوامي نكروما.

وقد عُرض عليه المشروع في يونيو 1965 من طرف الصحافي الفرنسي فيليب برنييه، المؤيد لاستقلال المغرب، والمنتج جورج فيغون الذي قابله مرارًا في جنيف، دون أن يتمكن من لقاء المخرج جورج فرانجو، الذي أرسل له في النهاية مسودة الفيلم بعد فشل لقاءاتهما في سويسرا.

اعتمد بن بركة على تلك المسودة فكتب ثلاثين صفحة من الملاحظات كمستشار تاريخي للفيلم، وكان يرغب في لقاء جميع أفراد الفريق الفني قبل انطلاق مؤتمر القارات الثلاث، كان الوقت يضغط لأن المؤتمر الذي سيعرف عرض فيلم “باستا” كان سينعقد في غضون شهرين.

لم يقبل بن بركة دعوة غذاء العمل في باريس، إلا بعد المحاولات المتكررة للقاء مخرج فيلم «باستا» في جنيف. لكنه كان قد جاء أيضًا إلى باريس لسبب آخر أكثر أهمية. فقد تمكن، بفضل شبكة التضامن التي يديرها صديقه هنري كورييل – المناضل التقدمي المنفي في باريس – من ترتيب مقابلة سرية في قصر الإليزيه، كانت مقررة من حيث المبدأ في اليوم التالي، السبت 30 أكتوبر 1965. مع من؟  كان بن بركة يأمل بأن يكون ذلك مع ديغول نفسه؛ وفي حال تعذّر لقاء الرئيس، كان بن بركة يخطط على الأقل للاجتماع مع أحد أقرب مساعديه.

على أي حال، كان منظم مؤتمر القارات الثلاث (التريكونتيننتال) يريد إيصال رسالة مفادها أنه “من خلال ابتعاد فرنسا عن الولايات المتحدة وحلف الناتو، فإنها ستقترب من العالم الثالث لتصبح شريكاً موثوقاً به”.

أما جهاز المخابرات التشيكوسلوفاكي، الذي كان يتابع بن بركة عن قرب، فكان يعتقد أن المعارض المغربي وديغول قد توصلا فعلًا إلى اتفاق يهدف إلى تحذير زعماء القارات الثلاث من التعاون مع الولايات المتحدة، في مقابل تعزيز النفوذ الفرنسي في العالم الثالث.

وفي المقابل، كان ديغول سيلتزم بالتحدث مع الحسن الثاني لصالح بن بركة، خلال لقائهما المرتقب يوم 11 نونبر، أي قبل الزيارة الرسمية للملك إلى ألمانيا.

لم يكن لقاء بن بركة بتلميذه التهامي الأزموري في باريس متوقعًا، إذ قرر ذلك في آخر لحظة، لأنه كان يريد الاستعانة به في مشروع «باستا» وفي أبحاثه حول تاريخ مناهضة الاستعمار. هذا اللقاء غير المنتظر جعل من الأزموري شاهدًا مباشرًا على عملية الاختطاف.

كان من المنتظر أن يتم استدراج بن بركة إلى الفخ من قِبل مجموعة أولى، ثم تتولى مجموعة ثانية السيطرة عليه، في حين يقرر المحرّضون والمخطّطون مصيره النهائي.

أما الشرطيان الفرنسيان بملابس مدنية اللذان أوقفا بن بركة في شارع سان جيرمان فهما المفتش العام لويس سوشون ومساعده روجيه فويتو. وكانا ينتميان إلى جهاز مكلف بمكافحة المخدرات والبغاء. يفسَّر وجودهما في الملف بعلاقتهما برئيس قسم العبور في مطار أورلي، أنطوان لوبيز، ذلك الموظف الذي كان في الحقيقة عميلًا مزدوجًا يعمل لحساب جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي (SDECE، المسمى اليوم DGSE).

كان لوبيز في الوقت نفسه يتلقى أوامر من الجنرال محمد أوفقير، الرجل القوي في نظام الحسن الثاني البوليسي. وكان يحلم بالتقاعد في المغرب بمنصب رفيع في شركة الطيران الوطنية “لارام”. وهو الذي طلب من سوشون اعتراض بن بركة بدعوى أنه سيقوده إلى لقاء “شخصية سياسية مهمة”، وجعل المفتش يصدق أن العملية تتم بعلم المخابرات الفرنسية، بل وحتى بموافقة الإليزيه.

لوبيز، الذي كان على صلة مباشرة بأوفقير ومرؤوسيه، قام بتنسيق تحركات العصابة الإجرامية المكلفة بالخطف، والتي كان زعيمها صديقه القديم جورج بوشسيش، إلى جانب جان باليس وجوليان لو ناي وبيير دوباي، وجميعهم من أصحاب السوابق، باستثناء دوباي الذي كان الأصغر سنًا (34 سنة) وصاحب سجل نظيف.

وصل المهدي بن بركة، البالغ من العمر 45 سنة، إلى باريس يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965 على متن رحلة لشركة “إير سويس”، قادمًا من جنيف في الساعة الثامنة وخمسين دقيقة صباحًا. عبر الهاتف، اتصل بتلميذه القديم في المغرب، التهامي الأزموري، ليقدّم موعد لقائهما. كان الأزموري يعمل في مكتبة بباريس، وطلب بن بركة من زوجته النرويجية “آن” أن تساعد في ترتيب اللقاء، بحيث يتم في نهاية الصباح بدلًا من الساعة الثالثة بعد الظهر، في مقهى “لو رون-بوان” بالشانزيليزيه.

بعد ذلك، استقل بن بركة سيارة أجرة إلى شارع جان ميرموز، قرب المقهى الواقع عند زاوية جادة ماتينيون. في الطابق الثاني من المبنى رقم 9، استضافه صديق مغربي معتاد على استقبال بن بركة في شقته الفاخرة. وبما أن صاحب الشقة كان في رحلة إلى نيويورك، استقبله الخادم وسلّمه حقيبته الجلدية التي تحتوي على جدول زمني من ثلاثين صفحة، كان يُفترض أن يُستعمل كإطار لفيلم «باستا».

لاحقا خرج بن بركة لشراء مجموعة من الصحف قرأها في مقهى “لو رون-بوان” منتظرًا الأزموري. بعد ذلك عاد إلى الشقة ليتصل بأصدقائه الذين كان من المقرر أن يذهب معهم مساءً إلى المسرح. طلب منهم أن يشتروا تذكرة إضافية لأخيه عبد القادر، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك لأن العرض كان محجوزًا بالكامل.

قُبيل الساعة الحادية عشرة صباحًا، عاد بن بركة إلى مقهى “رون-بوان” وطلب عصير طماطم لنفسه، وشايًا للسيدة آن الأزموري التي وصلت بعد قليل، ثم لحق بها زوجها. لاحظ الزوجان مظهر بن بركة المختلف: قبعة صغيرة من اللباد، ومعطف طويل من الجلد الأسود، ونظارات سميكة بعدسات ملوّنة.

وفي هذه الأثناء، حان الوقت أكثر من أي وقت مضى للتوجه إلى سان-جيرمان-دي-براي لحضور موعد الغذاء. عدل بن بركة عن الذهاب سيرًا على الأقدام، ولم يعد حتى إلى الشقة لاستعادة الجدول الزمني للفيلم. استقل هو والزموري سيارة أجرة. ولكونهما مبكرين، قام الرجلان بجولة قصيرة لاكتشاف الـ “دراغستور” (متجر). لم يحدد بن بركة- في أي لحظة- مكان لقائه، لذا لم يتمكن الطالب من إخطار برنيه وفرانجو وفيغون بتعذر حضور ضيفهم.

في تلك الأثناء، كان في الجانب الآخر من المدينة من يراقب تحركاته بدقة. فقد بدأت خطة اعتراضه تُنفّذ منذ الصباح.

كان المفتش سوشون، الذي خطط لحضور أمسية خيرية مساءً في ساحة سان أوغستان، قد مرّ عند الحلاق قبل وصوله إلى مكتبه بين التاسعة والربع والتاسعة والنصف، متأخرًا عن المعتاد. عند وصوله تلقى اتصالًا داخليًا بمثابة “الضوء الأخضر” لانطلاق المهمة الخاصة، طُلب منه خلالها أن يشارك في “عملية حساسة” بالتعاون مع موظف من شركة “إير فرانس”.

توجه سوشون إلى مسؤول سيارات الخدمة وطلب منه سيارة “فان”، قائلاً له:
«علينا توقيف رجل عربي عند دراغستور سان جيرمان. أحتاج سيارة الخدمة.»  وأضاف مازحًا: «وإن أردت، تعال معنا، سنتناول غداءً لذيذًا بعدها.»  لكن زميله الشاب رفض لأنه كان على موعد غرامي عند الظهر، لحسن حظه، فتجنّب بذلك مأساة كبرى.

استقل سوشون سيارة بيجو 403 تحمل لوحة “3076 MC 75″، تُستخدم عادة في مداهمة دور البغاء، برفقة مساعده روجيه فويتو، الأصغر منه بعشر سنوات.

في موقف السيارات، عند سفح كاتدرائية نوتردام، التقى الشرطيان بأنطوان لوبيز متنكرًا، وقد وضع شاربًا مستعارًا، ونظارات طبية مزيفة كان سوشون نفسه قد أعارهما له قبل عشرة أيام في مقهى “سولاي دور”. شرح لوبيز أنه لا يريد أن يتعرف عليه بن بركة.

انطلق الثلاثي وتمركزوا قرب مطعم “ليب”. بعد أن ركنوا السيارة على بعد عشرين مترًا، جلس لوبيز في الشرفة الزجاجية للمطعم واحتسى ماءً غازيًا، فيما كلف سوشون مساعده بشراء بعض الجرائد ليبدو أكثر “رسميّة” وهو ينتظر على الرصيف.

في الجهة المقابلة من الشارع، كان برنييه وفيغون يقتلان الوقت قبل موعد الغذاء، ثم توجها إلى المطعم المقابل، حيث حجز المخرج جورج فرانجو طاولة في الطابق الأول. لم يتبق سوى حضور بن بركة.

عند الساعة الثانية عشرة وربع، وصل بن بركة والأزموري عند زاوية شارع دراغون وجادة سان جيرمان، متجهين نحو مطعم “ليب”. تعرف لوبيز عليه رغم تنكره، وأشار لسوشون بذلك.

 تقدم المفتش لملاقاة المعارض المغربي أمام فندق تاران، عرض بطاقته الشرطية وطلب منه بدوره تعريف نفسه – وهو ما فعله بن بركة – قبل أن يدعوه، بإيماءة نحو مدخل الفندق، إلى الابتعاد عن مكان مرور المارة. استعد الزموري أيضاً لإظهار جواز سفره ومواصلة التحرك، لكن المفتش قال له: “لا، ليس أنت. هل تتركنا لحظة؟” وفقاً لشرحه اللاحق، قام فويتو، الذي انضم إليهما، بإبعاد الطالب بمجرد الوقوع بينه وبين رئيسه. في المقابل، سَيُصرح الأزموري للشرطة أنه “تم دفعه وفصله عن بن بركة”. ومع ذلك، كما سيشرح أيضاً، فإنه “لم يطلب البقاء، خاصة وأن بن بركة لم يُظهر لا ذهولا ولا عجلة، ولم يبدِ أدنى حركة مقاومة أو احتجاج”. باختصار، فعل الطالب ما قيل له وابتعد.

“دون تطفل، هل يمكنني أن أسألك عن الدافع الحقيقي لوجودك في باريس؟” هذا ما سيزعم سوشون أنه سأله لبن بركة. “بالتأكيد. جئت إلى باريس لمقابلة أناس من السينما لصنع فيلم عن إنهاء الاستعمار”، هكذا عليه رد بن بركة. “ألا تعتقد أنك في باريس لغرض سياسي؟” زعم سوشون أنه أصر. “لم آتِ إلى فرنسا لممارسة السياسة”، كان رد بن بركة. “مع ذلك، لديك موعد مع شخصيات سياسية، لقد طُلب مني أن أقودك إليهم”، عندها صمت المعارض المغربي، وسيصرح المفتش أنه تابع، مشيراً إلى سيارة الخدمة بيجو 403: “وإذا تريد، سأقودك إليهم”.

تبع بن بركة الشرطيين دون أي إكراه – وهو ما سيؤكده الأزموري الذي، عند الالتفات للمرة الأخيرة، رآه يعبر الرصيف مع الشرطيين باتجاه المسار الجانبي. عند وصوله إلى السيارة، قبل صعوده إلى المقعد الخلفي، طلب بن بركة من فويتو أن يُريه هو الآخر بطاقته الشرطية. فامتثل المساعد لإشارة رئيسه. واكتفى بن بركة بذلك. 

لم يهتم بالرجلين الجالسين بالفعل في المركبة؛ العميل متعدد المهام أنطوان لوبيز في الأمام، على المقعد المجاور للسائق، والمجرم جوليان لو ناي خلفه على المقعد الخلفي. بينما يعبر الأزموري، وقد استولى عليه الذعر، ساحة سان جيرمان دي بريه بخطى سريعة متجهًا نحو الأوديون، كان أستاذ الرياضيات السابق – محشورًا بين شرطي وذي سوابق، يقود سيارته شرطي آخر بجوار جاسوسٍ مؤَجَّر – يتجه نحو مصيره.

استغرق الأمر قرابة ربع ساعة للوصول إلى بوابة أورليانز عبر شارع رين، ثم انطلقت سيارة الـ«بيجو 403» بسرعة على الطريق السريع الجنوبي. كان لوبيز يوجه سوشون في القيادة بإشارات يده. جلس جوليان لو ناي في المقعد الخلفي، محشورًا في معطف طويل أزرق، ويداه الكبيرتان في قفاز من جلد الغزال وممدودتان على ركبتيه، كان لو ناي يحدق مباشرة إلى الأمام. 

وفقًا لفويتو، كان الصمت في السيارة ثقيلاً لدرجة أنه في لحظة ما، بدأ يصفّر همسًا. أثناء الطريق، تجاوزتهما سيارة دوباي وباليس، اللذان كانا مرابطين أمام مقهى ليب للإسناد في حالة ما دعت الحاجة، وصلت السيارة إلى مزرعة قديمة تحيط بها جدران عالية.

 خرج جورج بوشسيش من المبنى الرئيسي – رجل ضخم يرتدي حمالات حمراء بلا سترة- وفتح الباب الخلفي الأيمن ليسمح لـ لو ناي ثم لبن بركة بالنزول. قال بوشسيش، صاحب المكان، للأخير: “سيدي، تعال معي، أنت هنا من أجل سلامتك الشخصية”.

انتهى المشهد. لمدة ستين عامًا، توقف الفيلم عند هذا الحد ليغرق في الظلام. لأنه، في غياب جثة بن بركة وحقائق ثابتة بشكل قاطع، لا شيء مما سيحدث بعد الوصول إلى “فونتوناي لوفيكونت” سيكون واضحا.


📌 بعد إعلان هوامش عن نشر سلسلة لكتاب جديد يزعم أنه يقدم أسرارا جديدة حول قضية اختفاء المهدي بن بركة، انتقد بشير بن بركة، نجل المعارض المغربي الراحل المهدي بن بركة، تعليقا على سلسلة هوامش، ما تضمنته كتاب “الأسـرار الأخيرة” التي تُعيد فتح ملف اختفاء والده بعد مرور ستة عقود، معتبراً أن ما يُروَّج في الكتاب “مجرد تضليل وتلاعب بالرأي العام”.
📌 وقال البشير بن بركة في تعليقه على نشر إعلان الحلقة الأولى من السلسلة، إن “الاتهامات الكاذبة التي تهدف إلى تشويه سمعة المهدي لا تستحق كل هذا الاهتمام”، مضيفاً أنه “لا جديد ولا دليل، سوى بعض وثائق الموساد المشكوك في مصداقيتها”. وسخر من بعض الروايات المتداولة قائلاً إن “حوض الاستحمام حلّ محل وعاء الحمض”، في إشارة إلى تضارب الروايات بشأن مصير والده.
📌 وفي المقابل، تستعد منصة “هوامش” لنشر سلسلة تستند إلى كتاب «قضية بن بركة.. نهاية الأسرار»، وتتضمن وثائق من الأرشيف الإسرائيلي توضح تورط جهاز الموساد في العملية، بناء على “وصية” وزير إسرائيلي ظلت مخفية منذ 60 عاماً وتقدم رواية مفصلة عن كيفية وقوع جريمة اختطاف واغتيال بن بركة “يوماً بيوم وساعة بساعة”.
📌 وتتطرق السلسلة أيضاً إلى ملابسات اللحظات الأخيرة، إذ تشير الوثائق إلى أن بن بركة لم يُختطف بالقوة، بل سار بهدوء مع شرطيين فرنسيين نحو مكان اختفائه، وهوما كان معروفا، قبل أن تتضارب الروايات بشأن كيفية مقتله، بين إطلاق النار عليه أو إغراقه في حوض استحمام، فيما ذكرت رواية ظهرت مطلع الألفية أن جثته تم تذويبها بالحمض.
📌 وتهدف هوامش، من خلال نشر ما أورده الكتاب المذكور عبر حلقات، إلى إطلاع الرأي المغربي على هذه الرواية التي تكشف عن وثائق تُوصف بأنها ظلت حبيسة “ظرفين كبيرين” طوال عقود، فيما يُتوقع أن يُعيد الجدل حول أحد أكثر الملفات حساسية في التاريخ السياسي المغربي والدولي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *