أسرار مشاركة “إسرائيل” في اختطاف بن بركة| الحلقة 6: خنجر أوفقير ووعيد الدليمي
أسرار مشاركة “إسرائيل” في اختطاف بن بركة| الحلقة 6: خنجر أوفقير ووعيد الدليمي
باريس، الجمعة 29 أكتوبر 1965، وصل المهدي بن بركة إلى مطار أورلي، على الساعة 8:50 قادمًا من جنيف، ورغم أن شرطة الطيران والحدود قد أبلغت رسميًا عن تحرّكه، إلا أنه لم تُتخذ أي ترتيبات خاصة بشأنه. هو نفسه كان قد أوقف حمايته الشرطية قبل ثلاث سنوات، وبالرغم من الزيارة الوشيكة للحسن الثاني، فإن السلطات الفرنسية لا تراقب المعارض المغربي الرئيسي. لم يكن هناك أي قريب أو صديق في صالة الاستقبال أيضًا، خوفًا من وصول متأخر مرة أخرى بسبب الضباب، رفض بن بركة عروض أخيه عبد القادر، ورفاق “شبكة كوريال”، القدوم لاستقباله في أورلي.
لكن الخطة التي وُضعت في اثنتي عشرة ساعة لم تخلُ من العيوب. أن تكون قد اعتبرت على مدى ستين عامًا أنها عملية نُفذت ببراعة، رغم التسرع في وضعها، فإن ذلك يشهد على موهبة مصممها في الارتجال: أنطوان لوبيز، ابن المهاجرين الفقراء. لقد صعد إلى السيارة مع بن بركة، لأنه هو الذي تولى زمام القيادة، بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات، ليجعل من عملية الاختطاف شأنه الخاص.
داخل المنزل في فونتيناي-لو-فيكونت، في انتظار “الشخصية” التي من المفترض أن يلتقي بها بنبركة، في سرية تامة، قام أصغر الرجال المحيطين بصاحب المكان – بيير دوباي – بتوجيهه إلى غرفة في الطابق الأول. ظن بن بركة أن المجرمين المحيطين ببوتشيسش رجال شرطة.
في الفناء، بينما كان سوشون يفرغ مثانته عند الحائط، تولى فويتو قيادة سيارة البيجو 403 ليعود بها، يصعد لوبيز ليعود مع زميله من شرطة مكافحة المخدرات. تم إيصال لوبيز، الذي تخلص من تنكره، إلى زاوية شارع سان جيرمان وشارع سان-بير. كان الوقت حوالي الساعة 1:30 بعد الظهر.
حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، وبعد النهوض من المائدة، افترق برنييه وفيغون أمام مطعم ليب. استقل فيغون سيارة أجرة. ذهب لـ “يعلن أن ‘المهمة أنجزت’ في فونتيناي-لو-فيكونت”، ويستلم نقوده، كما سيقول لاحقًا.
لكن لم يكن هناك أي شيء بعد، كان فيغون حاضرًا عندما عاد لوبيز في سيارته المستأجرة إلى منزل بوشيسش ليأخذه إلى أورلي. من خلال كشك الهاتف في المطار، لم يتمكّنوا من الاتصال سوى بمدير مكتب أوفقير ثم مدير مكتب الدليمي، على التوالي في الساعتين 17:32 و17:38. كانت قيادات الأمن المغربي خارج مكاتبها، إذ كان المدير العام في مكناس ونائبه في الجزائر. أرسل لوبيز وبوشيسش رسائل إليهما. ونظرًا لضيق الكشك، بقي الباب نصف مفتوح، وسمع شاهد عبارة جزئية: «ليأتِ فورًا، وإذا لزم الأمر بطائرة عسكرية».
استمر الارتجال، لوبيز كان يدير الأمور – فهو الآن الرئيس، وليس الشتوكي، لذلك عليه التعامل مع أوفقير والدليمي لتنسيق العملية، وكل شيء كان يتم على عجل.
تتابعت عدة مكالمات أخرى بين مكناس والجزائر وباريس حتى وقت متأخر من الليل. قبل مجيئه إلى فرنسا، كان على أوفقير أولًا التوجه إلى فاس «لرؤية الرئيس»: الحسن الثاني. وكان الدليمي يجد صعوبة في الحصول على مقعد في رحلة من الجزائر.
وفقًا لما رواه فيغون لأصدقائه: “وضع بوشي [بوشيسيش] بن بركة في غرفة في الطابق العلوي، وأنا كنت مرتاحًا، مختبئًا في المطبخ. لا يجب أن يراني بن بركة، وإلا سيفهم فورًا ما يحدث. إنه يعرفني كمنتج، ولست شرطيًا! كنت لتشاهد بيرو [بيير دوباي] وهو يحضر شاي بن بركة ويصعد الدرج بالطبق وهو حذر ألا يوقع أي شيء. جو [بوشيسش] كان يمازحه، أراد أن يضع له مئزر خادمة المطبخ. اضطر بيرو لمحادثة بن بركة الذي أطلق عليه نكاتًا عن شرطة المغرب. يظنّه شرطيًا ويخبره أنه على الأقل في فرنسا لا توجد شرطة فاسدة مثل المغرب..”.
يوم السبت 30 أكتوبر، بدأت عطلة نهاية الأسبوع الطويلة لعيد جميع القديسين “بصباح ضبابي جميل إلى حد ما”. في الساعات الأولى، بينما كانت شوارع باريس لا تزال خالية، رن الهاتف عند جميع أصدقاء بن بركة المطلعين القادرين على نقل القلق، وفي العديد من غرف التحرير، وفي ولاية الشرطة، وفي قصر الإليزيه. لا أحد توصل بشيء جديد.
عند منتصف النهار، وضع عبد القادر-شقيق المهدي- بلاغًا، لدى مركز شرطة الشانزليزيه، ضد “مجهول” بتهمة الاختطاف والاحتجاز. وعند بداية بعد الظهر، خصصت صحيفة “لوموند” خمسة عشر سطرًا للمعارض، في قسم “آخر الأخبار”. ونقلت الصحيفة عن “أصدقاء سياسيين” أن بن بركة “تم توقيفه يوم الجمعة في منتصف النهار في الشانزليزيه من قبل شخصين قدما بطاقتي شرطة”.
عند الساعة الثانية زوالًا، وصل أحمد الدليمي إلى أورلي. استقبله لوبيز هناك ليقوده إلى “لو ريليه دو لا فيي بوست” القريب، على الطريق الوطني رقم 7. هناك، كان نائب مدير الأمن المغربي ينتظر لو ناي، باليس، دوباي والمفتش بوبكر الحسوني، “الممرض” الخاص لعائلة أوفقير والمساعد الطبي في مركز التعذيب “دار المقري”.
كانوا يتناولون القهوة، كان التوقيت بالنسبة إليهم مناسبًا. اتجه الدليمي، مع لو ناي وزميله، إلى “فونتيني-لو-فيكومت” حيث واصل بوشيسش تمثيل دور رب البيت. توالت التأخيرات، ثم تم تأجيل لقائه إلى اليوم التالي، لذلك أبدى بن بركة أكثر من مرة نفاذ صبره، لكن، بشكل مدهش، صدّق الأعذار المتتابعة دون أن يقلق. وبحسب شهادة فيغون، لم تتقلب أجواء البيت إلا لدى وصول الدليمي.
باردا ومسترخيا أعلن الدليمي: ” سنقضي عليه”، “لكن كيف؟” يسأل جو [بوتشيسش] فجأة بقلق. “حسنًا، علينا فقط أن ننهي الأمر هنا ثم سندفنه في حقل”.
ارتبك أهل البيت، وحاولوا ثني الدليمي عن ذلك، لم يكن الأمر سهلاً. فلا ينبغي أن يجد بوشيسش نفسه مع جثة في البيت، إنها حجة هزيلة كآخر خط دفاع. التقية التي نهجها المخططون على أمل تيسير الشراكة مع معاونيهم انهارت دفعة واحدة. الهدف هو قتل بن بركة، وليس مجرد اختطافه.
عند الساعة الخامسة، أي بعد تسع وعشرين ساعة على اختطاف بن بركة، وصل محمد أوفقير بدوره إلى أورلي. بعد الاستقبال، قاده لوبيز أولًا إلى منزله في أورموي حيث مكث الاثنان «نحو ساعة». قدمت أوديت لوبيز لهما القهوة. سلّم زوجها مفاتيح فيلته إلى الجنرال قبل أن يوصلَه إلى منزل بوشيسش في فونتيني-لو-فيكومت، على بعد ستة كيلومترات. عاد لوبيز فورًا إلى بيته ليأخذ زوجته وابنتيه لقضاء عطلة نهاية أسبوع طويلة عند أهل زوجته في بيلاجارد بمنطقة لواريه. فتحت هذه التحركات الطريق لنقل بن بركة من فونتيني-لو-فيكومت إلى أورموي، أي من بيت زعيم المتعاقدين (العصابات) إلى فيلا لوبيز، عميل الأمن المغربي المعتمد رسميًا، والذي نجح في خطف المعارض المغربي.
بالرغم من كمية كبيرة من الفينيرجان التي وضعت في شايه، قاوم المعارض بكل قوته عندما صعد بوتشيسش ورفاقه الثلاثة وحاولوا تقييده للنقل.
عندما رآهم يدخلون الأربعة معًا، فهم الأمر على الفور، لعدم قدرتهم على إخضاعه، ضربه هؤلاء الضخام لتهدئته. بعد أن سمعا الضجيج، صعد الدليمي والممرض الحسوني أيضًا. وصولهما كسر مقاومة بن بركة فورًا، وقد استسلم مربوطًا وهو في حالة يرثى لها، بحسب رواية فيغون.
في هذه الأثناء دخل أوفقير، الذي أوصله لوبيز. فيغون، الذي لا يزال في الأسفل في المطبخ، أشار برأسه ردًا على نظرة الجنرال الاستفهامية. قبل صعوده الدرج، نزع الجنرال من مجموعة معلقة على الجدار «خنجرًا مغربيًا صغيرًا» وخز به حلق وصدر ورقبة الأسير، حسب ما قيل.
في حوالي الساعة 18:45، تقريبًا في نفس اللحظة، أصدرت ولاية الشرطة برقيات بحث عن بركة، رأى روجيه فويتو -المناوب – مرورها دون أن يخبر رؤسائه بـ «الاعتقال» الذي شارك فيه الليلة السابقة. عند الساعة 19:00، بثّت إذاعة أوروبا 1 موجزا يفيد بأن المعارض المغربي «قد اعتُقل»، لكن لم يعد هذا الوصف مناسبًا، فقد أثبت التحقيق الداخلي منذ بداية الظهيرة أن أياً من أجهزة الشرطة لم يقبض على بن بركة. الضابط من أصل جزائري، الذي كان مكلفًا سابقًا بحماية المعارض على الأراضي الفرنسية، فرانسوا ألكايديه، أخطر بالفعل عبد القادر بن بركة، وقد بات معروفًا الآن أن أخاه قد اختُطف.
قرابة الساعة 19:30، نُقل بن بركة مربوطًا ومكمّمًا في المقعد الخلفي لسيارة «مسجلة بلوحة الجسم الدبلوماسي» إلى فيلا لوبيز. بمساعدة لو ناي، أنزل سائق السيارة بن بركة إلى القبو حيث ربطوه بغلاية التدفئة المركزية. ثم تدخل لو ناي قائلاً: “أنت تبالغ كثيرًا دعه على الأقل يتنفس”، فأجابه المغربي ببساطة: “هكذا جيد”. اجتمع الجميع في صالون البيت الواسع، المبني على أرض كبيرة والمحاط بجدار مرتفع يحجب الأنظار.
بنظرات باردة، بدأ أوفقير تصفية حساباته، فقد فوجئ بعملية “الاختطاف المستعجلة”، وأعلن أنه لم يجلب المال. بالنسبة إليه لم يكن يجب التصرف على الأراضي الفرنسية، وبالطبع، كان ينبغي “أخذ الشاهد الذي كان مع بن بركة”. ثم التفت إلى فيغون وحدّق فيه قائلًا:
“أعلم أن بينكم من يتكلم بسهولة. بل هناك من يكتب. أي خطأ من هذا النوع سيكون قاتلًا”. ويضيف، موجهًا كلامه لبقية المجموعة: “أشكر كل من ساعدنا دون أن يحاول ابتزازنا “.
حوالي الساعة الثامنة والنصف مساءً، عاد لوبيز إلى منزله. سيؤكد لاحقًا أنه سمع، في سيارته، نشرة عاجلة من راديو أوروبا رقم 1، وأنه كان مضطربا للغاية. وعند وصوله إلى منزله، وجد ضيوفه جالسين جميعًا في الصالون، وسمع أوفقير يقول بصوت عالٍ لفيغون:” لا بأس هذه المرة. لكن معي، لا ينجح فرض الأمر الواقع”.
أما لوبيز، الذي شعر أنه مقصود بهذا التعليق، فسيزعم لاحقًا أن عودته لم يكن مرحبًا بها: “لقد كنت أزعج خططًا كانت قيد التنفيذ”، لكن في الواقع كان العكس تمامًا: فالخطة التي كانت قيد التنفيذ تقتضي أن يعود بأسرع وقت ممكن لتمكين أوفقير والدليمي من المغادرة، مع بقاء بن بركة أسيرًا في قبو الفيلا تحت حراسة الممرض المغربي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق