جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

إرهاب الغموض": بين ضبابية الخطاب وضبابية المواقف*عمران حاضري

 إرهاب الغموض": بين ضبابية الخطاب وضبابية المواقف

إرهاب الغموض" ليس مجرد لعبة لغوية أو التباس في التعبير، بل نسق سلطوي وفكري واجتماعي يضرب في العمق. إنه ضبابية الخطاب وضبابية المواقف معًا، حيث تُستعمل اللغة الملتبسة لتغطية المواقف المراوغة، فيبقى الوعي الجمعي أسيرًا للرماديات. وقد نبّه لينين إلى أن الغموض يولّد مناطق رمادية تفتح الباب للأخطاء والانحرافات، فيما وصف فوكو النصوص الغامضة في سياق رده على دريدا بـ"إرهاب الغموض"، لأنها تحيل على الشيء ونقيضه وتغلق مسالك النقد.
في دائرة الحكام والشعبويات * اليمينية، يتجلى هذا "الإرهاب" في خطابات و شعارات فضفاضة، و وعود متناقضة، ومواقف متحركة وفق المصالح و الاهداف السياسية.
فالشعبويات اليمينية، خصوصًا، تُمارس خطابًا هلاميا ، يتستّر وراء "الشعب"، لكنها تُعيد إنتاج الولاء للبنى الرأسمالية، وتُعمّق انفصال القول عن الفعل.
والخطاب الشعبوي بصفة عامة ، هو خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد أو يختاره صُنّاع الخطاب ليبدو على أنه سائد، من دون أن يفيد، من ناحيةٍ أخرى، في التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية... في سياق ترويض واع و تلاعب ممنهج بالوعي الجماعي لإخماد روح المقاومة و إجبار الناس على الصمت و الخضوع... ليصبح المواطن مجرد متفرج سلبي في سياق محاولة " تصنيع القبول الشعبي بدل التمثيل الحقيقي للإرادة العامة"... بهدف إنتاج آليات الطاعة و الصمت و ترويض الوعي العمومي حيث تجري الاستفادة من مناخ التضليل الإعلامي و تبسيط الأخبار و تتفيه العقول و اشغال الناس بالخوف و الاستهلاك اليومي... و أول خطوة للتحرر من هكذا خطاب مبهم قصديا ، هو إعادة بناء المجال العام المستقل عن هكذا تمشي و تنمية الحس بالمسؤولية الجماعية المواطنية و إستعادة النقد و الوعي التاريخي حيث تستفحل ثقافة القطيع و ينحدر الفضاء العمومي من حقل للمواطنين إلى ساحة غريزية تدار فيها السياسة بالهتاف لا بالعقل ، و يستقبل فيها قمع المختلف في الرأي كأنه انتصار رمزي للجماعة المذعنة بدل أن يفهم كنكسة لحرية الجميع...!
أما النخب الفكرية والسياسية، التي تدين بالولاء للحكام هي الأخرى تمارس الغموض بدورها و تتفنن في تبرير ما لا يبرر فتقدم خطابا نخبويا ملتبسا و مفاهيم متعالية على الناس، ومواقف مرتبكة بين الاءيهام بالدفاع عن الحرية والتهرّب من مواجهة الاستبداد بأي شكل من الأشكال . هنا يتحول الفكر إلى لعبة لغوية، تُفقده رسالته التنويرية التوعوية و التحريرية.
في دائرة الشعوب والعقل العربي الذي يعاني أزمة بنيوية حيث يعشش في المخيال الجمعي الفكر البطريركي و الانساق الاءطلاقية، يشتد أثر هذا الإرهاب الرمزي بفعل أزمات بنيوية حيث هيمنة التراث والبنى التقليدية الموغلة في نفي العقل و النكوص إلى دهاليز الماضي السحيق و إلى ذلك ، حداثة شكلانية هجينة تلفيقية وزائفة، و تعليم متخلف عن روح العصر، وغياب مناهج الفلسفة العقلانية العلمية... كما أن الطبقة الكمبرادورية التبعية، رغم اندماجها في العولمة وجنيها الأرباح، مارست حداثتها الشكلانية على هواها ، فحافظت على الهياكل والبنى التقليدية التي تعيد إنتاج الاستبداد و التخلف وتؤبد التبعية.
إن مواجهة إرهاب الغموض كآلية أساسية من تزييف الوعي و محاولة الاخضاع ، تقتضي قلب المعادلة: حيث ، لا غموض في الخطاب ولا مراوغة في المواقف، بل وضوح كامل في الأهداف والانحيازات للقضايا العادلة و الذات الإنسانية الراقية المحمولة بقيم الحرية والعدالة و المساواة و الجمالية و الإبداع بوجه كافة أشكال الظلامية و العدمية و الاستبداد و الاستلاب ... الإنسان في جوهره موقف و الوضوح في الموقف السياسي والاجتماعي شرط أساسي لمواجهة الغموض المهيمن. ولا سبيل لذلك إلا بالعقلانية الموضوعية العلمية، التي تُقيم مشروعًا تحرريًا وطنيًا ديمقراطيًا شعبيًا، قادرًا على تحرير الوعي من الضبابية و الالتباس ، وربط الكلمة بالفعل، والخطاب بالموقف، والمعرفة بالتحرر في سياقات التحرر الوطني و الانعتاق الاجتماعي...
عمران حاضري
27/12/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *