ستون عاما على المجزرة حين تم ذبح الحزب الشيوعي الاندنوسي من الوريد الى الوريد ! د.صالح ياسر
ستون عاما على المجزرة
في اكتوبر 1965 وقع انقلاب عسكري أطاح بالرئيس الاندنوسي احمد سوكارنو (1901 – 1970)، وتم في هذا الانقلاب ذبح الحزب الشيوعي الاندنوسي – بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى – حيث قتل ما بين 300 الف الى مليون عضو من اعضاء الحزب ( طبقا لإحصائيات متضاربة)، اضافة الى مئات الالاف من انصاره ومؤيديه. ليس مهمة هذه الملاحظات كتابة تاريخ هذا الحزب بل تقديم عرض مكثف لتجربته في مجال التكتيكات الملموسة واستراتيجيته التي قادت الى هذه الكارثة، بهدف استخلاص بعض الدروس المفيدة للحاضر. وسنعتمد في عرضنا المكثف هذا على وثيقة صادرة عام 1974 بعنوان: الحزب الشيوعي الاندنوسي – الاخطاء والدروس كتبها ثلاثة من قادة الحزب المذكور ونشرتها باللغة العربية "دار إبن خلدون" ضمن سلسلة "دليل المناضل"، وسنشير اليها للإختصار لاحقا " الوثيقة ". وبداية لا بد من الاتفاق مع الاستنتاج الذي توصلت اليه هذه الوثيقة وهو : " وحدهم الثوريون الحقيقيون يملكون الجرأة على تصحيح الاخطاء. ويشكل النقد والنقد الذاتي أفضل وسيلة لبلوغ خط اكثر صحة. إن الاخطاء أمر سيئ، غير أن عدم فهم الاخطاء أمرا أسوء، والاشد سوء هو الاحجام عن تصحيح خطأ بعد إدراكه "(1).
تشير " الوثيقة "، في سياق إستخلاص الدروس من التجارب القاسية التي مرّ بها الحزب الشيوعي الاندنوسي، الى ان احد اسباب النكسة التي حلت بنضال الشعب الاندنوسي يعود الى الخطأ الذي ارتكبه الحزب الشيوعي الاندنوسي في تقييمه الطبيعة الطبقية لسلطة الدولة في اندنوسيا (2).
لقد حقق النضال الثوري للشعب الاندنوسي منذ عام 1949 نتائج معينة، مما اضعف طبيعة السلطة البرجوازية المعادية للديمقراطية. غير أن ذلك لم يغير تغيرا اساسيا الطبيعة الطبقية لهذه السلطة. لقد ادى التقييم المبالغ فيه لمكتسبات النضال الثوري في هذه المرحلة الى بلورة اطروحة نظرية خاطئة فحواها ان السلطة السائدة في اندنوسيا تتألف من وجهين : " وجه معادي للشعب " و "الوجهة المؤيد للشعب ". ويكمن خطأ هذه " الاطروحة النظرية " في تعارضها مع الماركسية التي تحدد طبيعة الدولة الطبقية ووظائفها المحددة ومن بينها ان الدولة في المجتمعات الطبقية هي أداة قمع بيد الطبقة السائدة ( او الائتلاف الطبقي المهيمن) تستخدمها ضد الطبقات الاخرى. ويفهم من هذه " الاطروحة " أنه بالإمكان تحويل الدولة الى اداة تتقاسمها الطبقات المضطهِدة ( بكسر الهاء) والطبقات المضطهَدة ( بفتح الهاء)، وهذه مغالطة لا تستقيم لا على صعيد النظرية ولا الممارسة.
على صعيد الممارسة قادت هذه الاطروحة النظرية الخاطئة الى سيادة الوهم القائل أن التغيير الاساسي في سلطة الدولة، والمقصود هنا ولادة سلطة شعبية، يمكن تحقيقه سلميا عن طريق تطوير " الوجه المؤيد للشعب "، والتصفية التدريجية لـ " الوجه المعادي للشعب "(3). ماذا ترتب على هذه الاطروحة على صعيد الممارسة ؟ بإختصار شديد، لقد ساهم هذا الوهم النظري في تجريد البروليتاريا الاندنوسية من استقلالها الضروري في الجبهة المتحدة مع البرجوازية الوطنية، وأدى ذلك الى تذويب مصالح البروليتاريا ضمن موقع ذيلي للبرجوازية الوطنية. هذا هو الدرس المهم الاول.
ومن جهة أخرى فقد استعار الحزب الشيوعي الاندنوسي وبشكل خاطئ ما توصل اليه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفيتي من استنتاج يقول بتوفر الامكانية الفعلية لبعض البلدان للوصول الى الاشتراكية عبر طريق سلمي. ولهذا فقد أمن الحزب بإمكانية تحقيق الاشتراكية في اندنوسيا عبر الوسائل السلمية، وثبت ذلك في دستوره، واهمل أشكال النضال الاخرى وتحضير الحزب لأي انعطافة في الوضع السياسي. ولهذا يمكن فهم عدم قدرة الحزب للتكيف مع الوضع الجديد الذي نشأ عشية انقلاب الجنرال سوهارتو في اكتوبر 1965 وعدم استعداده للنضال المسلح عندما وقع الانقلاب وحلت الازمة. وبتركيزه على البرنامج " الشرعي " أو شكل النضال " الديمقراطي البرلماني "يكون الحزب الشيوعي الاندنوسي قد حصر نفسه في شكل نضالي واحد ووحيد، وتجاهل كليا تحضير الحزب لأية انعطافة سياسية قد تجبره على تغيير تكتيكاته واشكال النضال في اللحظة الملموسة. لقد كان رهان الحزب على شكل " النضال الديمقراطي البرلماني " معروفا جيدا للقوى الرجعية، ولهذا السبب شرعت بعمل وحشي سريع وحاسم وعاصف من احل تصفية الحزب وكوادره ومناضليه وجماهيره الواسعة. وأمام عنف القوى الرجعية وقمعها اللامحدود من جهة، وعدم استعداد الحزب لمثل هذه التطورات " المفاجئة "، فإنه لم يعد بوسعه الا البحث عن تراجعات مأمونة، ولكن كان قد فات الوقت، وكانت الخسائر جسيمة ولا يمكن تعويضها. هذا هو الدرس المهم الثاني.
ومن جهة اخرى اتبع الحزب الشيوعي الاندنوسي "نظرية المرحلتين" في تحقيق الثورة : أي مرحلة وطنية ديمقراطية، تعقبها مرحلة اشتراكية. وترتب على هذا التحقيب اشكالية هامة تتعلق بالقوى المشكلة للتحالف في كل مرحلة. وهنا وقعت اخطاء جوهرية في تشخيص طبيعة المرحلة وتحديد القوى التي يتعين التحالف معها إنطلاقا من فهم دقيق للتناقضات الخاصة بكل مرحلة وترتيبها بشكل صحيح. بهذا الصدد يقول اديت قائد الحزب الشيوعي انذاك حول ضرورة الجبهة المتحدة مع البرجوازية الوطنية ما يلي : " أحب أن اشدد مرة اخرى انه بالرغم من كون التحالف مع البرجوازية الوطنية ليس بأهمية التحالف مع الفلاحين، فإن نجاح واستكمال قيادة الطبقة العاملة في الثورة سيقررها نجاح التحالف بين العمال والبرجوازية الوطنية ".
ماذا نتج عن هذه الممارسة على الارض ؟ في الواقع لقد ادى رهان الحزب الشيوعي الاندنوسي على اتباع سياسة التحالف بين الطبقة العاملة والبرجوازية الوطنية، الى تقويض التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين. هذا مع العلم أن التجربة الملموسة تشير الى أن قيادة " الجبهة الوطنية المتحدة " لم تكن في يوم من الايام بيد الطبقة العاملة أو حزبها، بل كانت بيد البرجوازية الوطنية، إضافة الى أن هذه " الجبهة " التي كان يتزعمها سوكارنو كانت تضم عناصر رجعية اخرى بما فيها الجنرالات. وتشير " الوثيقة " وهي على حق الى استنتاج مهم هو ان هذا الخط قد " قاد…. بالفعل الى التعاون المتعدد الطبقات تحت قيادة البرجوازية الوطنية، منزلِقا الى مساومات على الايديولوجيا والممارسة تحت غطاء ما يسمى (المشاورات للوصول الى التفاهم "(4). هذا هو الدرس الثالث المهم.
دعا برنامج الحزب الشيوعي الاندنوسي لجعل الحزب " حزبا جماهيريا، وحزب كادر في آن معا ". ومنذ عام 1952 وحتى وقوع الانقلاب في عام 1965 تنامت عضوية الحزب بصورة مدهشة، من حوالي 10000 عضو الى حوالي 3 ملايين عضو. من المؤكد أن التجنيد السريع من جانب الحزب الشيوعي الاندنوسي قد ارعب القوى الرجعية التي شنت حملة قمع وحشية وشاملة. ولكن هذه القوى كانت على ما يبدو ملمة بالضعف المميت للتنظيم الحزبي ومشكلاته والعلاقة بين جماهير الحزب وكوادره. فقد كانت الكوادر الفعلية للحزب بعيدة عن جمهور اعضاء الحزب. لم تثق الكوادر ثقة تامة بجمهور الاعضاء، ونزعت الى تكوين حلقات سرية متماسكة، داخل الحزب، وبالتالي جرى ترسيخ الطبيعة البيروقراطية للحزب. وحين وقع الانقلاب لم يكن الحزب قادرا على القيام بأي عمل يساهم في تجنيب قوى الحزب مذبحة حقيقية. وبدل اصدار توجيهات للجهاز الحزبي تتضمن ما ينبغي القيام به لصد المذبحة الوحشية التي شرعت بها القوى الرجعية، هرولت القيادة العليا الى أماكن أمنة ( علما أن البعض منهم ذهب الى قصر الرئيس سوكارنو !)، تاركة جمهور الاعضاء في مأزق حرج. وبلغت الاوهام والتقديرات الخاطئة لدى قيادة الحزب الشيوعي الاندنوسي مداها الأبعد حين لم تصدر اية توجيهات لصد القمع العسكري الفاشي عبر الانتقال الى تكتيك النضال المسلح، كتكنيك جديد يحتمه تطور الاحداث والقمع الوحشي الذي مارسه الانقلابيون تجاه الحزب ورفاقة ومنظماته وجماهيره، لأن " سوكارنو ما زال رئيسا "، و " ما زالت العناصر المؤيدة للشعب في الحكومة " ! (5). بل والاسوأ من هذا أنه وحتى بعد شهرين من وقوع الكارثة كانت هناك أعدادا كبيرة من الاعضاء العاديين لا تعرف حقيقة ما جرى حتى تم ذبحهم. وتسمح هذه التجربة بالتأكيد على أهمية وجود قيادة سياسية مناضلة، تمتلك خطا سياسيا واضحا ووعيا طبقيا سليما، ومنخرطة في العمل السياسي بين الجماهير،وتمتلك الجرأة على الانتقال المرن من تكتيك الى آخر إنطلاقا من الطروحة اللينينية الصائبة : " التحليل الملموس للوضع الملموس " ، وبالتالي إنتاج تكتيكات جديدة واعتماد تحالفات جديدة والبحث عن قوى جديدة، وعدم التمسك بنظام " الوصفات الجاهزة". هذا هو الدرس الرابع المهم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق