فنزويلا في مواجهة آلة النهب العالمي: السيادة تُنتزع ولا تُمنَح*فؤاد الخمليشي
فنزويلا في مواجهة آلة النهب العالمي: السيادة تُنتزع ولا تُمنَح
تُجسّد التجربة الفنزويلية الحقيقة الفجّة للنظام العالمي القائم: بنية نهب شاملة تقودها الاحتكارات المالية العابرة للحدود، حيث تُختزل الدول الطرفية إلى فضاءات استنزاف، وتُدار شعوبها كقوى عمل فائضة لخدمة تراكم الثروة في المراكز. ما إن حاولت فنزويلا كسر هذه الوظيفة القسرية، وتحويل النفط من قناة سلب خارجي إلى أداة قرار وطني، حتى أُطلقت ضدها آلية العقاب بلا مواربة.
العدوان الأمريكي هو ممارسة منتظمة لقانون السيطرة الإمبريالية. رأس المال المحتكر، وقد استنفد إمكانات التوسع السلمي، لا يعرف سوى الإخضاع القسري: حصار، تخريب، خنق مالي، وإعادة فرض التبعية. العقوبات، تجفيف مصادر الدخل، تجميد الأصول، ومنع الوصول إلى النظام المالي العالمي هي عنف طبقي منظّم تمارسه دولة المركز دفاعًا عن مصالح الاحتكار العالمي.
الحرب الاقتصادية المفروضة على فنزويلا هي حرب على شروط الحياة ذاتها. التلاعب بالعملة، افتعال الندرة، تدمير القدرة الشرائية، ليست أخطاء تقنية ولا نتائج جانبية، و إنما أدوات مدروسة لتعطيل إعادة إنتاج المجتمع، ودفع الجماهير إلى الإنهاك اليومي، وفصلها عن الفعل السياسي. الهدف واضح: تفكيك القاعدة الاجتماعية لأي مشروع سيادي، وتهيئة الأرض لإعادة رسملة تابعة تُعيد البلاد إلى بيت الطاعة.
أما التدخل السياسي والانقلابي فليس سوى الوجه الآخر للحصار. الاعتراف بسلطات مصطنعة، تمويل النخب الكومبرادورية، وتسخير ماكينة الإعلام العالمية، يفضح وظيفة الدولة الإمبريالية كأداة سياسية مباشرة للاحتكار. في هذا النظام، السيادة امتياز مشروط بالخضوع، وأي محاولة استقلال تُصنّف تمردًا يجب احتواؤه أو سحقه.
ضمن هذا السياق، يجب كسر الأوهام حول أدوار روسيا والصين. روسيا تتحرك كقوة رأسمالية دولة تسعى إلى تثبيت موقعها في صراع النفوذ العالمي. دعمها لفنزويلا محكوم بحسابات المصلحة والتوازن، ويتوقف عند حدود لا تسمح بمواجهة مفتوحة مع المركز الإمبريالي. هي قوة تناقض الهيمنة الأمريكية، لكنها لا تحمل مشروعًا لتحرر الشعوب الطرفية.
أما الصين، فتعتمد نموذجًا يقوم على التخطيط وضبط السوق وتراكم طويل الأمد داخل النظام العالمي. علاقتها بفنزويلا مرتبطة بالطاقة والاستثمار والاستقرار، مع رفض الانخراط في صدام شامل. هذا السلوك يعكس إدماجًا محسوبًا في بنية النهب العالمية، حيث تُرفع شعارات السيادة دون تحويلها إلى قطيعة فعلية مع منطق السيطرة.
من هنا، فإن التعويل على روسيا أو الصين ليس سوى وهم سياسي خطير. هذه القوى تتحرك وفق منطق المصالح، وتنسحب حين ترتفع كلفة الدعم. لا توجد قوة خارجية تمنح شعبًا سيادته؛ كل “حماية” خارجية مؤقتة ومشروطة، وتتحول سريعًا إلى أداة ابتزاز عند تغيّر موازين القوى.
سيادة فنزويلا وحرية قرارها لا تُحسم في العواصم الدولية، بل داخل المجتمع الفنزويلي نفسه: في التنظيم الطبقي، في وعي الجماهير، وفي قدرتها على الدفاع عن مكتسباتها وبناء اقتصاد مقاوم للخنق. الدولة بلا قاعدة شعبية واعية ومؤطرة تبقى هشّة، قابلة للانقسام والاحتواء. والارتهان للتحالفات الدولية دون ترسيخ القوة الداخلية لا يفعل سوى إعادة إنتاج التبعية بأقنعة جديدة.
تكشف الحالة الفنزويلية أن “التعددية القطبية” ليست مرادفًا لتحرر الشعوب، بل إعادة توزيع للقوة داخل النظام ذاته. أدوات الإمبريالية تتبدل، لكن جوهرها يبقى واحدًا. الخلاص الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من الفعل الجماهيري المنظّم، ومن كسر الأوهام حول المنقذ الدولي. فنزويلا ليست أزمة داخلية، و انما درس تاريخي صارخ: التحرر لا يُستورد، والسيادة تُنتزع من قلب الصراع الاجتماعي، لا من خرائط القوى العالمية.
Fouad Khamlichi 27/12/2025.
.jpg)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق