جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

انتفاضة 20 يونيو 1981: خبز من رصاص بقلم جمال الدين حبيب

انتفاضة 20 يونيو 1981: خبز من رصاص
بقلم جمال الدين حبيب
لا بد للمتفحص للتاريخ السياسي للمغرب الحديث أن يستوقفه ما حدث في 20 يونيو سنة 1981. هذا اليوم الذي لم يتردد فيه البيضاويون في أن يسترخصوا دماءهم من أجل العيش الكريم ومن أجل الحرية. لقد مضت أربع وثلاثون سنة عن ذلك التاريخ، ولازالت الذكرى موشومة في ذاكرة المغاربة، ولازالت الآثار العميقة لما حدث محفورة في معنويات الجماهير البيضاوية، هذه الجماهير التي أبانت عن وعي سياسي ذي مستوى عال، على الرغم من عفويته، والتي يحق للشعب المغربي أن يفتخر بما حققته في ذلك اليوم المشهود، حين هرعت إلى الشارع مفجرة انتفاضة شعبية عارمة في وجه النظام المخزني وأجهزته القمعية، وضد سياسة خرقاء فاقمت الأزمة وعمقت مسلسل تفقير فئات واسعة من الشعب المغربي وأغنت أقلية طبقية طفيلية، موسعة بذلك الهوة بين الفقراء والأغنياء.
ولا نحيد عن الصواب إذا ما نحن قلنا بأن ما وصلت إليه حالة الاحتقان في البلاد من انفجار، في ذلك الإبان، وما نتج عن ذلك من تقتيل، هو من صنيع المخزن، إذ أنه لما شعر هذا الأخير بهشاشته، وأحس بالفزع من أن تنفلت الأمور من بين يديه، لجأ إلى القتل الجماعي، ولم يدخر جهدا لإغراق الدار البيضاء في دماء أبنائها من كلا الجنسين ومن مختلف الأعمار.
والحال أن الأمر يتطلب الوقوف، ولو بعجالة، عند السياق التاريخي لما جرى،غداة قرار 28 ماي الإعلان عن زيادات مرتفعة في أثمنة المواد الغذائية الواسعة الاستهلاك لدى الطبقات المسحوقة، من جهر بالغضب الشعبي المتراكم منذ عقود.
كانت بلادنا حينها تعيش أزمة خانقة تمثلت في الجفاف الذي ضرب منذ سنة 1979، وبدأت عواقبه تجثم على عيش المغاربة. إذ دفع بالفلاحين الصغار إلى التخلي عن أراضيهم لصالح الملاكين العقاريين الكبار مقابل أثمنة زهيدة، وفضلوا النزوح إلى المدن الكبرى بحثا عن فرص للشغل. وعلى رأس هذه المدن، توجد الدار البيضاء التي عرفت هوامشها اكتظاظا غير مسبوق، وكثرت مدن الصفيح. وإلى جانب هذا الجفاف الإستثنائي، كانت هناك حرب الصحراء التي تكبد الفقراء والفئات المعوزة والموظفون الصغار والمتوسطون والعمال نفقاتها، بحيث كانت تقتطع من رواتبهم في شكل ضريبة.
كذلك كان هناك مشكل الدين الخارجي الذي كان يمتص قسطا لا يستهان به من ميزانية الدولة، وبلغ التضخم في سنة 1980 نسبة 12,5في المائة. وعرف المغرب في هذه السنوات، نموا ديمغرافيا كبيرا لم يكن مستعدا له. واختل الميزان التجاري حيث سجل تفاوتا ملحوظا بين قيمة الصادرات وقيمة الواردات التي ارتبطت بتغطية العجز الغذائي وبارتفاع أسعار البترول. كل هذا آذن باضطرابات لا حصر لها، وهكذا أصبح دخل الطبقات الشعبية يعرف انهيارا مذهلا، فتدهورت القدرة الشرائية، وازدادت تناقضات البنية الاجتماعية وتفكك نسيجها، واتسعت رقعة البطالة والبطالة المقنعة التي وصلت إلى أزيد من مليونين عاطل مسجلة 50 في المائة من السكان النشطين، وأصبح ثلث الشعب يعيش تحت عتبة الفقر المطلق. كل هذا زاد من عناء المغاربة والذين تعرضوا لشظف العيش في مسكنهم وملبسهم، واحتضنهم الجوع والجفاف، وكانوا محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية.
وفي محاولة يائسة لمواجهة هذا الانحسار الاقتصادي، وسد العجز الذي أصبحت تعيشه المالية العمومية، وإيجاد حل للانخفاض الذي عرفه التاتج الداخلي الخام، والذي شمل كل القطاعات، ومن أجل إعادة الأمور إلى نصابها وتسوية كل هذه الاختلالات البالغة الخطورة التي شملت كل المجالات، أو على الأقل التخفيف من حدتها، لم يكن أمام النظام من خيار سوى الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، وإثقال كاهل البلاد بالديون الخارجية. هكذا أصبح الاقتراض وتبعاته، ونقل العبء لأجيال ولسنوات مقبلة، قاعدة معمولا بها، ولم يعد في إمكان مهندسي سياسة التبعية الرأسمالية إلا اللجوء إلى أولياء نعمتهم في الخارج، وتوريط اقتصاد البلاد وإخضاعه لتوجيهات وإملاءات المؤسسات الامبريالية.
ومن جملة هذه الإملاءات، كان هناك مخططا موعزا به من قبل صندوق النقد الدولي، مخطط شُرع في تنفيذه فعليا وبشكل متستر، مع بداية المخطط الثلاثي (78ـ 80 )، ثم بعده المخطط الخماسي الذي ابتدأ في سنة 1981. كل هذا أدى إلى المزيد من تفاقم الأزمة وإلى تدهور رهيب للأوضاع. في هذا الجو المشحون الذي يحبل بكل أنواع الاختلالات والمعضلات، وفي هذا الواقع الذي وصلت فيه الظروف المعيشية ذروة المأساة، وبُعَيد عرض المخطط الخماسي، قرر المسئولون إلغاء دعم الدولة للمواد الغذائية الأساسية، مما أدى إلى ارتفاع مهول في أسعارها. والحقيقة أنه بهذا القرار، يكون صندوق النقد الدولي وزبانيته في البلاد، قد أجهزوا على لقمة عيش فئات واسعة من الكادحين والمسحوقين، الذين لا نصيب لهم سوى القهر والفقر.
لم يكن من سبيل أمام الشعب كي يضع حدا لهذا النزيف الاجتماعي ولهذا الاستهتار بكرامة الإنسان، إلا أن يخرج إلى الشارع لإعلان رفضه لقرار الزيادة في الأسعار، وللتعبير عن موقف الاستنكار وإبداء الغضب.
ظهرت طلائع الانتفاضة أول الأمر، في شكل احتجاجات جماهيرية عنيفة عمت شرق البلاد، وكان يتصدرها الطلبة والتلاميذ والعمال، لتمتد بعد ذلك إلى المدن الغربية الرئيسية. ولعل هذا هو ما فرض على المركزيتين النقابيتين المتنافستين (الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل) اتخاذ موقف الدعوة إلى الإضراب. فدعت الأولى إلى إضراب عام على مستوى البيضاء والمحمدية يوم 18 يونيو 1981، وهو الإضراب الذي مر في أجواء هادئة ولم يسجل أية أحداث تُذكر، فكان ناجحا إذ استجابت إليه الأغلبية الساحقة من الطبقة العاملة في الدار البيضاء والمحمدية، وساندته الك.د.ش. أما فيما يخص هذه المركزية الأخيرة، فقد قررت أن يكون 20 يونيو، يوم إضراب عام على المستوى الوطني، وكان ذلك بالشراكة مع نقابات التجار الصغار والمتوسطين.
وإذا شئنا التفصيل، قلنا بأنه خلال السنوات من 1978 إلى 1981، امتدت النضالات العمالية في كل البلاد. وتميزت الإضرابات التي عمت كل القطاعات الصناعية، بطول مدتها في الغالب، حيث كانت تصل إلى عدة أشهر، كما أنها ولأول مرة، لم تقتصر فقط على المطالب المادية بل تجاوزت ذلك فكانت موجهة ضد القمع المسلط على العمال من قبل الباطرونا، وذلك بتواطؤ مع القيادة البيروقراطية للاتحاد المغربي للشغل. وكانت هذه الإضرابات تُدَعم في بعض الأحيان، باحتجاجات الجماهير الشعبية وبتظاهراتها. لكن الباطرونا كطبقة، كانت محمية من طرف النظام ومدعومة من لَدُن جهاز الدولة. وبالإضافة إلى تخاذل نقابة الإ.م.ش وتواطؤها، كان هناك غياب إطار سياسي للبروليتاريا يدافع عن العمال ويسند مطالبهم. في هذه الأجواء، ظهرت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل (ك.د.ش) التي انبثقت عن انقسام نقابي سنة 1978، وذلك تحت حماية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وكان هذا بدوره عاملا جديدا لإضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها، الشيء الذي استفادت منه الباطرونا والرجعية.
عادة، لم تكن الزيادات في الأسعار تتجاوز 5% في السنة، وكانت الأثمنة مدعمة دائما من طرف صندوق المقاصة، الذي تم إحداثه في خمسينيات القرن المنصرم من أجل ضمان استقرار الأسعار بالنسبة للفئات الشعبية. وليس هذا من أجل سواد أعين الشعب ولا تعاطفا مع الفقراء والمحرومين، وإنما لأن الأنظمة السلطوية ـ لكي تؤمن نفسها ـ نجدها تبحث عن إضفاء نوع من المشروعية على سياستها، فتسعى إلى شراء السلم السياسي من المحكومين، بتمويل ودعم المواد الغذائية بغية الحفاظ على استقرار الأثمنة واجتناب غلاء المعيشة على الناس، وذلك تلافيا لأي ضغط اجتماعي يمكن أن يترجم إلى ضغط سياسي.
ومن المعروف أن الأنظمة التي تنهج هذا النهج، لا تسمح بالديمقراطية ولا بحرية التعبير، كما أنها تصيب المناضلين الغيورين بأضرار بليغة، بل تعمل في أحيان كثيرة على تصفيتهم. كما أن هذه الأنظمة لا تسمح للمحكومين أن يختاروا حكامهم ولا أن يشاركوا في السياسة الحقيقية، وفي مقابل ذلك توفر لهم الخبز والصحة والتعليم وأشياء أخرى...فكي تشتغل السياسة يلزمها قدرا من المشروعية. والمغرب لا ينأى عن هذا المنحى ولا يخرج عن هذه القاعدة. فالنظام المغربي نظام تسلطي استبدادي، يطفو فيه المفسدون والمتملقون على السطح، ويستشري فيه الظلم والاضظهاد، ويتعرض فيه المناضلون الذين يسعون إلى خير البلاد للقمع والاعتقال والقتل، وتُطمس فيه الحقائق ويُزور فيه التاريخ، هذا الأخير الذي يُوجه لخدمة أهداف الحاكم والمحيطين به. وليسم سياسته بالمشروعية، يسعى هذا النظام كأشباهه إلى شراء السلم السياسي من رعاياه، متوسلا في ذلك دعم المواد الغذائية الأساسية والواسعة الاستهلاك. فماذا وقع إذن، حتى جاء قرار 28 ماي ليضع حدا لهذا الدعم، ولتصفية هذا الصندوق باسم سياسة حقيقة الأسعار؟
ببساطة، أخفق النظام وماعاد في وسعه أن يوفر للناس ما يكفل لهم العيش. ذلك أن الدولة لم يعد لديها من الموارد ما يكفي لسد الحاجيات الضرورية وبالتالي الاستمرار في هذه السياسة، فأضحى من الصعب عليها أن تتحكم في الأمور وتضبطها. ولم يكن أمام النظام المخزني إلا الهجوم الكاسح على قوت الجماهير المعوزة، وما رافق ذلك من تسريحات مجحفة، وإغلاق للمقاولات، الصغيرة منها والمتوسطة، وتضييق على الحريات وما إلى ذلك من التدابير المخزنية التعسفية. فكان من الطبيعي أن يخرج الناس إلى الشارع معلنين بصوت مرتفع، رفضهم لقرار الزيادات الجائر، واستنكارهم لهذه السياسة التبعية الظالمة.
مباشرة بعد قرار الزيادة في الأسعار الذي أذاعته وكالة المغرب العربي للأنباء في 28 ماي، حاول وزير المالية عبثا،آنذاك، أن يبرر هذه الزيادات بكونها كانت ضرورية للتخفيف من العبء الذي أصبح ينوء منه صندوق المقاصة، ولمح بزيادات أخرى محتملة في القريب. في حين اعترف وزير التخطيط بأن الزيادات كانت من إملاء مؤسسات مالية أجنبية، كشرط لمنح المغرب قرضا يُسعفه في تمويل تصميمه الخماسي. وفي نفس الإبان، وبعد الدعوة إلى الإضراب، شنت السلطات حملة مسعورة مضادة. وأصدر الوزير الأول بلاغا أديع في الإذاعة والتلفزة، يتوعد فيه كل من سيمثل للإضراب، بإجراءات تأديبية، مؤذنا بذلك انفضاح كل دعاوي حماية الحريات وحقوق الإنسان التي كان يُروج لها النظام. لكن ساكنة البيضاء لم تُعر أي اهتمام لهذا الوعيد والتهديد. ففي صبيحة 20 يونيو 1981، وفي أزقة أحياء البيضاء الهامشية، وحول المساكن الصفيحية الصدئة، كان البيضاويون، كبارا وصغارا، ذكورا وإناثا، يتحلقون في مجموعات غاضبة تطالب بحقها المشروع في العيش الكريم، وهو الأمر الذي لم يستسغه المخزن، فسلط آلته البوليسية لتفريق المحتجين. في هذه الأثناء، بدأت المواجهات بين المواطنين والبوليس، ليتراجع هذا الأخير بعد أن شعر بأن الأمر يتجاوزه بشكل كبير. إذ ذاك، هاجمت الجماهير الشعبية الوكالات البنكية المتواجدة في الأحياء الشعبية، ولم يكن ذلك بغرض الاستيلاء على الأموال المودعة فيها، وإنما بهدف تدمير هذه الرموز المتغطرسة للرأسمالية المتعفنة. واستمر الهجوم على كل ما كان يرمز للبذخ والاغتناء الفاحش.
وحين حاول المنتفضون بلوغ الأحياء الراقية، حيث تعيش الحثالة الكمبرادورية في فيلاتها الفخمة وقصورها، آنذاك، أعطيت الأوامر من السماء، أي من طائرة عسكرية، لسحق المتظاهرين. كان الملك في نيروبي في ذلك الوقت، وذلك من أجل الإعلان عن موافقته لمبدأ الإستفتاء في الصحراء الغربية. وحسب إفادة أحمد البوخاري ـ عضو المخابرات السابق، وأحد المتورطين الذين عملت حركة الضحايا على استدراجهم إلى الإفصاح عن جرائم النظام الوحشية ـ كان إدريس البصري موجودا بالدار البيضاء بمعية كبار الضباط العسكريين. وكان على متن طائرة هيلوكوبتر عسكرية، وُضعت رهن إشارته. طائرة مزودة برشاشان من الحجم الكبير، والعديد من أكياس الذخيرة الحية، وقناصان من النخبة محترفان (بالكاب 1) وبإدارة مراقبة التراب الوطني. كان إدريس البصري سريعا في اتخاذ قراره، كما كان ناجعا وفعالا. فبعد إعطاء أوامره بقتل أبناء الشعب، اكتسحت مدرعات الدرك الملكي والجيش المكان واجتاحت الدبابات والمدرعات والسيارات المصفحة، الأحياء الشعبية، هذا بالإضافة إلى القوات المساعدة وقوات التدخل السريع، كلها مدججة بالسلاح وبالرشاشات، وكأن الأمر يتعلق بحرب ضد العدو.
لعلع رصاص الجيش ليحصد العديد من القتلى من أبناء شعبنا. أطفال صغار لا علم لهم بما يعنيه التظاهر والاحتجاج لقوا حتفهم. سقطت الأم الحامل صريعة بباب منزلها، وقُتل الأبكم وهو يطل من شرفة بيته وسقطت الطفلة التي خرجت تبحث عن الماء في (العوينة). سقط الأب وأبناءه، جُثت ملقاة في الشوارع والأزقة هنا وهناك. كان الرمي مستهدفا، وليس أكثر دلالة على هذا الاستهداف من كون الذين أصيبوا، وأغلبهم أطفال، كانت إصابتهم إما على مستوى الرأس أو القفص الصدري، مما يُبعد أن تكون رصاصات طائشة ويؤكد أنها هادفة. كان يوم 20 يونيو، يوم تقتيل مبرمج بعناية فائقة، فقدت فيه البيضاء المئات من أبنائها، قُتلوا في مجزرة دموية رهيبة قل نظيرها.
وكانت الأحياء الشعبية للعاصمة الاقتصادية، هي المسرح الذي شهد هذه المجزرة، وكان المستهدف هم الفقراء والمستضعفون والمقهورون والمغلوب على أمرهم. تقتيل تم ببرودة أعصاب نادرة، اقترفه قناصة متدربون، ومذبحة تجاوزت حدود الوحشية. ورغم هذه الهمجية، فإن إرادة الإنسان لا تُقهر. لقد كشفت ساكنة البيضاء عن قدرة عالية على التحدي، فكانت تواجه رصاص الجنود بأياد عزلاء وصدور عارية. في ذلك اليوم، بحثت العائلات عن ذويها في المخافر والثكنات وفي غيرها من الأمكنة من دون جدوى. وانتزعت الجثت من أحضان الأمهات والآباء من داخل البيوت، ليُلقى بها دامية في مقابر جماعية، من دون غسل أو تكفين، بعض هذه الجثث كانت مازالت تتحرك. مقابر اختيرت مواقعها بعناية حتى لا يُفشى سرها. وهي نفس المواقع التي حاول النظام أن يطمس معالمها مرة أخرى بعد مُضي ما يزيد على العقدين. ومن بين من ضمتهم هذه المقابر الجماعية، يوجد العشرات ممن لفظوا أنفاسهم عطشا واختناقا من فرط الحر والازدحام في زنزانة صغيرة اختلطت فيها رائحة الدم برائحة العرق والبول.
إن في كل هذه القسوة والوحشية المفرطتان ما يدل على أن صرخة المقهور والمظلوم كانت مخيفة للنظام. فما كان لهذه المجزرة أن تحصل ـ على النحو الذي حصلت به ـ لولا تعنت النظام وافتقاره
للحكمة والعقل. إن خروج الناس إلى الشارع، هو أقل ما يمكن أن يرد به شعب مستضعف، دمرت سياسة غاشمة كل بنياته المعيشية.
لقد قدرت منظمة العفو الدولية أن عدد القتلى في انتفاضة 20 يونيو 1981، يتجاوز الألف، وهبط هذا العدد إلى 800 حسب حزب التقدم والاشتراكية وفي البحث الذي قام به مبعوث الجمعية الدولية لحقوق الإنسان إلى المغرب (السيد مونيار) للتحقيق في أسباب ونتائج هذه الانتفاضة، ثم حصر عدد القتلى المصابين بالرصاص في 637 قتيل، بينما صرح بلاغ لوزير الداخلية إدريس البصري، أن وزارته أحصت 66 قتيلا، قُتلوا إثر جروح بالسلاح الأبيض غير الحاد، كالعصي والقطع الحديدية والحجارة. لم يعد لائقا تزوير الحقائق وتخفيض عدد قتلى هذه الانتفاضة. لقد أضحى ذلك بمثابة إخفاء الشمس بغربال.
وفي كل الأحوال، فقد أثبت النظام قصوره عن أداء واجبه في حفظ أمن وأرواح المواطنين، والحقيقة أنه أثبت تورطه في امتهان كرامتهم وقتلهم، وكان صاحب القرار في كل ما وقع. ولازلنا اليوم نعيش في ظل نفس النظام، ولا زال الكثير من القتلة رابضين في مواقع القرار، وهو ما يجعل قاموس جبر الضرر، مجرد محاولة فاشلة ولا جدوى من ورائها.
إن كل المجالس والهيئات التي أحدثها المخزن لطي ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومن ضمنها ملف الانتفاضة الشعبية ليوم السبت 20 يونيو، لن تكون إلا ملهاة تحاول عبثا إخفاء هذا الحمام الدموي، ومحاولة يتستر وراءها النظام المخزني عما اقترفه من جرائم أقل ما يمكن أن توصف به، أنها جرائم ضد الإنسانية لا يبددها التقادم، ولن يغسل عارها إلا محاكمة مقترفيها والقطع مع النظام الذي ينجب أمثالهم واستئصاله. فكل أموال الدنيا لن تستطيع أن تلملم جراح أمهات فقدن فلذات أكبادهن، ولا أن تُنسيَ عائلات مكلومة رُزئت في ذويها. إن دم الشهيد يستعصي على النسيان ولا يستقيم معه الطي والكتمان، ويعلو على المحو.
لم يكن وميض انتفاضة 20 يونيو ملطخا بالهزيمة والكآبة، إنه الوميض الأحمر للانتفاضة، وميض يوم مشهود يشع بالبطولات، يوم الاستشهاد والموت البطولي بامتياز. وليس في وسع أي كان أن يستصغر هذه التضحيات ولا أن يُبخس هذه البطولات، فالدار البيضاء معروفة بتاريخها النضالي وتضحياتها الإنسانية الخالدة. فطوبى للانتفاضة المجيدة والمجد والخلود لشهدائها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *