جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

من الاعتقال في السجون الى تقلد مناصب رسمية/إدريس بن زكري

عن موقع/ويكيبيديا 
إدريس بن زكري (1950-22 مايو 2007) كان ناشطا حقوقيا مغربيا، أمازيغي الأصل من أشهر المدافعين عن حقوق الإنسان في المغرب.ولد ادريس بنزكري سنة 1950 في عائلة متواضعة بقرية ايت واحي المنتمية إلى قبائل زمور الأمازيغية. وكان انتماؤه هذا وارتباطه بالتربة التي أنجبته مبعث اعتزاز له طيلة حياته.
تأثر خلال طفولته بتيارين سياسيين متناقضين، وذلك من خلال قريبين له؛ أولهما بن الميلودي، أحد قادة جيش التحرير الذي كان معارضا لسيطرة حزب الاستقلال والذي قاد تمرد اولماس سنة 1958، أما الثاني، فكان سي عامر بن بوزكري، الوطني الاستقلالي، وأحد الموقعين على عريضة الاستقلال في 11 يناير 1944.
خطى ادريس بنزكري خطواته الأولى في مجال السياسة وهو لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، حيث رافق عامر بن بوزكري خلال حملته الانتخابية بمناسبة الانتخابات التشريعية الأولى سنة 1962، وكان السي عامر الذي عمل معلما، ثم مدير إعداديات وأخيرا مدير ديوان وزير التربية الوطنية في السنوات الأولى للاستقلال، بمثابة المرشد والدليل لإدريس في اكتشاف الثقافة الأمازيغية والوطنية والالتزام السياسي.
غادر ادريس بنزكري قريته ليلتحق بتيفلت والخميسات سنة 1965 وصادف ذلك الانتقال أحداث مارس 1965 الأليمة بمدينة الدار البيضاء التي كان لها وقع كبير في نفسه، حيث تفجر تمرده ضد الظلم والعنف في شعارات على الجدران كتبها مع أترابه. ثم تأتي مباشرة بعد ذلك مرحلة الاكتشاف والافتتان بفلسفة الأنوار وآدابها: فولتير، روسو، ديدرو... وبعد ذلك الماركسية والرومانسية الثورية.
وفي ثانوية الحسن الثاني بالرباط يحتك ادريس بنزكري بأساتذة الفلسفة والآداب اليساريين، مغاربة وفرنسيين، ويكتشف مجلة "أنفاس" ويتعرف على عبد اللطيف اللعبي وابراهام السرفاتي، وعلى أعمال بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي. كان ذلك في خضم أحداث ماي 68 وحرب
الفيتنام والحركات الثورية الملتهبة. و في هذا المناخ الدولي و الوطني ينضم إدريس أولا إلى مجموعة طلابية تابعة " لحزب التقدم والاشتراكية" ( الحزب الشيوعي سابقا)، إلا أن " الماوية" كانت أكثر إغراء بالنسبة لجيل الشباب الذي كان يطمح إلى "التغيير الجدري".
وهكذا عندما تأسست منظمة " إلى الأمام" في شهر غشت ، 1970 كان ادريس بنزكري من بين أول من التحقوا بها. وهكذا كلف ادريس بنزكري بتشكيل الخلايا الأولى في زمور والأطلس المتوسط والغرب.
عاش المرحوم ادريس بنزكري الفترة ما بين صيف 1970 وربيع 1972 كمرحلة تفتق ونضج روح التمرد والتحرر وإعادة النظر في كل شيء لجيل ال 18-22 سنة الذي كان ينتمي إليه؛ و كان العمل موجها نحو المجتمع المدني: اكتساح الجامعات والنقابات والمراكز الثقافية ووسائل الإعلام.
وهكذا اشتغل ادريس بنزكري في جمعية تهتم بحقوق الطفل بهدف استقطاب مناضلين للمنظمة، ثم فيما بعد في نقابات الطلبة والأساتذة قبل الدخول في السرية للإفلات من الاعتقال.
بدأت حملات الإعتقالات الاولى ضد التيار" الماركسي اللينيني " سنة 1972 و كانت أقل وطئة من 1974 و 1976، و التي كان إدريس من بين ضحاياها حيث اعتقل و نال حظه من التعديب بدرب مولاي الشربف قبل أن تصدر المحكمة في حقه سنة 1977 حكما نافذا للسجن لمدة 30 سنة .
أحداث 3 مارس 1973، دفع القمع بمنظمة "إلى الأمام" تدريجيا إلى العزلة، حيث عمدت كرد فعل، إلى إستراتيجية الانسحاب من جميع الفضاءات المجتمعية والثقافية، واختارت إستراتيجية أكثر راديكالية ونمطا تنظيميا من النوع "اللينيني الستاليني"، وذلك بإحداث هيكل سري مكون من مناضلين مجربين أو ما يسمى "بثوريين محترفين"، مع إعلان الحرب الإيديولوجية على النظام والأحزاب السياسية والاتجاهات الماركسية أو الشعبوية ذات النزعات الانقلابية أو " البلانكية". كانت النتيجة أن صعدت " إلى الأمام" من خطابها الثوري مع انكماش قاعدتها.
بعد ذلك كانت سلسلة من المعارك كالإضراب عن الطعام من أجل تحسين ظروف الاعتقال وخاصة حق تنظيم مكتبة والحصول على الصحف ومتابعة الدراسة بالمراسلة. وهكذا تمكن ادريس بنزكري من متابعة دراساته العليا.
حصل ادريس بنزكري على دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات والآداب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1983 ثم على دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات من جامعة ايكس مرسيليا بفرنسا سنة 1987، وعلى الماجستير في القانون الدولي، تخصص القانون الدولي لحقوق الإنسان من جامعة اسيكس بانجلترا سنة 1997. وفي مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان أنجز مجموعة من الدراسات من بينها "مهام وأنشطة هيئة الأمم المتحدة في إطار مجموعة العمل حول الاختفاء القسري" و"مسلسل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية والتطورات التي شهدها القانون الدولي الجنائي".
أما الحديقة السرية لإدريس بنزكري، فكانت الثقافة، واللغة الأمازيغية والشعر الأمازيغي بصفة خاصة. فبالإضافة إلى الدراسات والأبحاث التي أنجزها في هذا المجال ومنها على الخصوص"فونولوجيا ونحو اللغة الأمازيغية" و"شعر المقاومة الأمازيغي للثلاثينيات"، كان يكتب شعرا منذ الصغر وقد ترك كراسات مليئة بما جادت به قريحته. وفي سنة 2006، كتب مقدمة في غاية من الروعة لكتاب المصور البرازيلي كارلوس فريري "Amazigh ou voyage dans le temps berbère".
مدرس، عرف بأنه مقل في تصريحاته، وصبره وقدرته على التحمل. وكان يحب العمل بهدوء ومن دون ضجيج.
التحق ادريس بنزكري فور خروجه من السجن سنة 1991 بالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، حيث عمل بها بادئ الأمر كمدير تنفيذي، قبل أن يتقلد مسؤولية نائب رئيسها قناعة منه بأن النضال الحقوقي يشكل أولوية الأولويات بالنسبة للمرحلة.
وخلال السنوات التسع التي وهبها كاملة وبكل ما لديه من إمكانيات وقدرات للمنظمة، ساهم في أن تتصدر المشهد الحقوقي من خلال عملها النوعي، سواء فيما يتعلق بالرصد اليومي لانتهاكات حقوق الإنسان، من خلال تلقي الشكايات والتظلمات، أو من خلال إعداد ونشر التقارير المضادة للتقارير الحكومية في إطار التزامات الدولة، أو الاشتغال على الملفات الشائكة وفي مقدمتها ملف الاختفاء القسري، ومع الناجين من الاختفاء القسري، وضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عموما، كما لعب دورا أساسيا في إعداد أوراق وتصورات حول الجوانب التنظيمية وفي تنظيم وتأطير الندوات الفكرية والدورات التكوينية وربط الاتصالات والتعاون مع منظمات حقوقية دولية وإصدار مجلة " الكرامة"، وضبط أرشيف المنظمة والانفتاح على الطلبة الباحثين. وكان يخصص ليله، إذ كثيرا ماكان يسهر بمقر المنظمة إلى ساعات متأخرة، للدراسة والبحث. و في سنة 1995، قامت منظمة " هيومن رايتس واتش" بتكريم ادريس بنزكري اعترافا بنشاطه الحقوقي، وذلك خلال حفلين في كل من واشنطن ونيويورك. ويعترف له كل من احتك به في تلك الفترة بأنه كان زاهدا في كل شيء إلا في المشروع الذي حمله والذي لم تشكل المنظمة إلا إحدى محطاته.

أعتقاله وسجنه

أوقف في العام 1974 وحكم عليه في العام 1977 بالسجن ثلاثين عاماً نظراً لنشاطه في منظمة ماركسية مغربية قضى منها 17 عاما. وعن اعتقاله الطويل هذا، قال حديثاً لصحيفة فرنسية "نشعر دائماً أن الجرح لم يندمل لكنه ليس شيئاً يفسدنا من الداخل. أقول نحن وليس أنا لأن كثراً واجهوا المصير نفسه". ومنذ إطلاق سراحه، عمل هذا المعارض السياسي القديم والمدافع عن الثقافة الأمازيغية بالتزام متزايد من أجل نشر حقوق الإنسان في المغرب.

تأسيس الفضاء الجمعوي وإدارة برامجه

طيلة سنة 1996 ساهم ادريس بنزكري بمعية نشطاء آخرين في الحركة الجمعوية في تأسيس الفضاء الجمعوي كبنية لبناء قدرات الفاعلين ليلتحق بمكتبه التنفيذي سنة 1997 باسم المنظمة المغربية لحقوق الإنسان وليضطلع فيما بعد بمهمة إدارته بعد انسحابه من المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وقد ساهم في إعداد استرتيجية الفضاء وبرامجه وتصوراته، وبحكم رؤيته الاستباقية وحكمته أشرف من داخل الفضاء الجمعوي على إطلاق نشاطات ذات الصلة بقياس أثر تدخلات الفاعلين في المجال الاقتصادي والاجتماعي وفلسفة وتقنيات المرافعة بالإضافة إلى إعداد التقارير الموازية وعلى الخصوص حول التنمية الاجتماعية. ولكونه متشبع بثقافة الحوار والاختلاف، فقد ساهم رفقة نشطاء الفضاء الجمعوي في تأطير والإشراف على العديد من الموائد المستديرة التي نظمت من قبل الفضاء الجمعوي، ناهيك عن مساهمته الكبيرة في إنجاح حملة تعديل قانون الجمعيات بالمغرب وفي أشغال شبكة الترافع من أجل تفعيل مضامين خطة إدماج المرأة في التنمية.

تأسيس وقيادة حركة الضحايا

في نهاية أكتوبر 1999 شارك الراحل إدريس بنزكري في التجمع الوطني الأول للضحايا بالدار البيضاء، وتقدم بعرض تناول إستراتيجية العدالة الانتقالية، وانتخب ضمن لجنة تحضيرية من 6 أعضاء للتحضير للمؤتمر التأسيسي لمنتدى الحقيقة والإنصاف.
وقد ساهم بقسط وافر في صياغة الوثيقة التأسيسية والنظام الأساسي للمنتدى حيث اعتمدها المؤتمر يوم 28 يناير 1999 وأصبحا من وثائقه الأساسية.
قام إدريس بنزكري بوضع الصيغة الأولى للوثيقة الأولى المعروفة ب "من أجل الحقيقة والإنصاف"، وتم اعتماد الوثيقة بعد مناقشتها وإغناءها من طرف المكتب التنفيذي ثم المجلس الوطني للمنتدى في بداية 2001.
وقد أصبحت هذه الوثيقة أساسا للمشاورات التي انطلقت مع مسؤولي الدولة والفاعلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين عقب ذلك. وكانت روحها هي منطلق المناظرة الوطنية حول ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عقدت في نونبر 2002، والتوصية الصادرة عن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والتي أفضت إلى تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة.

مؤسس منتدى الحقيقة والعدالة

ساهم في إقامة منتدى الحقيقة والعدالة المنظمة التي تضم ضحايا سابقين للقمع السياسي وأسرهم.

قائد لهيئة الإنصاف والمصالحة

في العام 2003، دعاه الملك محمد السادس لقيادة هيئة حكومية هي هيئة الإنصاف والمصالحة التي كان يفترض أن تسوي ملفات حقوق الإنسان خلال "سنوات القمع" (1960-1999) ووافق بن زكري وغادر أصدقاءه في المنتدى ليبدأ هذه التجربة الجديدة. وقد انتقده عدد كبير من الناشطين ورؤوا أن السلطة استعادته. وعلى رأس هذه الهيئة التي انتهت مهمتها في نوفمبر 2005، حقق في 16 ألف ملف لضحايا النظام السابق. أهم ما أنجزه على رأس هيئة الإنصاف والمصالحة كان عقد جلسات علنية أدلى خلالها ضحايا سابقون بشهادات عن القمع السياسي.
وتم حل الهيئة بعد أن قدمت تقريرها إلى الملك. أما متابعة القضايا التي رفعتها، فقد عهد بها إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي أنشأه الملك الحسن الثاني في العام 1990. وهذه المرة أيضاً لجأ الملك محمد السادس إلى بن زكري ليترأس هذا المجلس.



إدريس بنزكري أو "أبو منجل" المناضل الذي فضل الالتزام السياسي عن الحب

نشر في هسبريس يوم 23 - 08 - 2011


هؤلاء من أبناء المغرب كما ظل المغاربة يحلمون به
-إدريس بنزكري-
كانت صورته بالزي الرسمي التي عممتها وسائل الإعلام، محط استغراب من طرف زملائه، خصوصا الرفاق منهم، على اعتبار أن الرجل كان في الماضي القريب يرفض الرسميات، ويقضي جل وقته في كيفية تعميم الإيديولوجية الماركسية اللينينية لتشمل المغرب كله، وهو الحلم الذي ظل يراوده منذ أن وجد نفسه طالبا بين مدرجات جامعة محمد الخامس بالرباط، في بداية السبعينيات، إلى أن تم ضبطه من طرف رجال البوليس السري في إحدى المنازل العتيقة بمدينة الدار البيضاء، التي كانت المرتع الخصب الذي انتعشت فيه نشاطاته النضالية. عندما تداول رجال المخزن اسم إدريس بنزكري، وكذا تحركاته، أدرجوه في لائحة سوداء ضمن الأسماء التي تسبح ضد التيار، كما تبادر إلى ذهنهم أن الرجل يتميز بمواصفات خاصة تلائم نشاطه السري المحظور، من يدري ربما رسموا له صورة شاب ضخم بعضلات مفتولة لدوره الريادي في الحركة الماركسية اللينينية،غير أن الانطباع شيء والواقع شيء آخر، فبنزكري لم يكن سوى ذلك الشاب النحيف، صاحب العينين الغائرتين، بينما شفتاه الضيقتان كانتا تميلان إلى اللون البني بفعل النيكوتين، مما يضفي على ملامح وجهه عموما بعض الشحوب، قامته المتوسطة لا تلائم مشيته المتكسرة، إلا أن ما ميزه عن باقي رفاقه، هو شعره المتهدل الكثيف والمسرح طبيعيا، إذ كان يشبه إلى حد كبير شعر الموالين للزعيم "ماو سي تونغ" الصيني، قيل إن بنزكري كان يجد صعوبة في تسريح شعره الغزير إلى الوراء، على شاكلة "كوب طاليان" غير أن شعره ما يلبث أن يعود إلى الأمام، حتى أنه أخذ قرارا بعدم العودة إلى تسريح شعره، تاركا الرياح تلعب به كيفما شاءت تارة إلى الوراء وتارة أخرى إلى الأمام.
عكس باقي رفاقه عاش إدريس بنزكري المزداد سنة 1950 بقرية واحي بإقليم الخميسات رفقة أخيه الأصغر في وسط عائلي يغلب عليه طابع البداوة، وكانت أسرته الصغيرة تعيش فقرا مدقعا سيتحول مع مرور الوقت إلى علقم يصعب استساغته، علما أن هذه الأسرة البدوية تضم ذكرين ستعيش بسببهما أقصى أنواع العذاب النفسي خصوصا بعد اعتقال إدريس الذي اختفى فجأة عن أنظارها، لكونه كان قياديا بارزا في تنظيم "إلى الأمام" على المستوى الوطني، بينما كان أخوه الأصغر قياديا على المستوى المحلي، حتى أنه في ظل الأزمة وتشديد الخناق على الرفاق في منظمة إلى الأمام و 23 مارس، استغل الأخ الأصغر فرصة توظيفه كجمركي ليتمكن من الفرار إلى الخارج، ويعتبر حاليا من بين أبرز النشطاء الحقوقيين ضمن الحركة الحقوقية بفرنسا.
شخصية الرجل تخللتها تناقضات كبيرة، فرغم الفاقة التي عاشتها أسرته فإن الفتى الذي درس الابتدائي في إقليم تيفلت وأكمل تعليمه في مدينة الخميسات، كان مولعا بالأدب الفرنسي، وكان يلتهم الكتب والمؤلفات خصوصا تلك التي أبدعتها مخيلة الكتاب الرومانسيين، حتى أضحى رومانسي التفكير قبل اعتناقه الماركسية ، وبالرغم من ذلك فقد كان عمليا في ممارسته للسياسة، لتتقاطع فيه عدة مواصفات مشكلة منه ما سمي ب " المثقف العضوي"، أو "الثوري المحترف" ولإيمانه بأن الجامعة مشتل لغرس بذور العمل السياسي، التحق الشاب النحيف بكلية الآداب بمدينة الرباط شعبة الأدب الفرنسي لينعطف في اتجاه آخر سالكا شعبة القانون، وبالتالي أصبح ضمن خريجي الحقوق والقانون الدولي من جامعة محمد الخامس بالرباط،كما حصل سنة 1983 على دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات من كلية العلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط ثم دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات من جامعة إيكس-مرسيليا بفرنسا سنة 1987، كما أنه خريج القانون الدولي من جامعة إسيكس بإنجلترا سنة 1997، حتى أن أحد أصدقائه علق قائلا "بنزكري يضم في وعاء رأسه عقلا الكترونيا فريدا من نوعه، فقد كان يغيب عن الجامعة ولا يحضر إلا قبل يومين من أيام الامتحان، لكنه كان يجتاز المباراة بنجاح".
غاب صاحب الشعر المتهدل إلى الأمام قرابة ثلاث سنوات مفضلا العمل السري في مدينة الدار البيضاء، لكنه بالرغم من ذلك متن علاقاته مع باقي التنظيمات وكذا رفاقه في الجامعة، لكن دوره سيبرز أكثر عندما اختطف البوليس السري الناشط عبد الحميد أمين، الذي كان مكلفا بمنطقة الغرب؛ ونظرا لكون بنزكري ابن المنطقة ويحفظ جغرافيتها، عوضه في مهمته، ليصبح أحد الأسماء اللامعة داخل التنظيم، الذي يرجع له الفضل في انخراط العديد من الشباب على يده، في منظمة إلى الأمام.
إلا أن جل رفاقه كانوا يلاحظون أن إدريس يعاني من شيء ما، فتارة يبدو شارد الذهن وتارة أخرى يغيب تماما أو ينعزل، تاركا إياهم في جلستهم التي تشبه شيئا ما استراحة المحاربين، حتى قيل إن بنزكري كان يعاني من عدة أمراض في بنيته الجسمانية النحيفة، بل قال بعضهم والعهدة على القائل، إن إدريس تأثر بعلاقة عاطفية جمعته بإحدى فتيات الجامعة ليجد نفسه بين أمرين أحلاهما مر. إما أن يقوي هذا الارتباط أو يضحي به ليركز اهتمامه على العمل النضالي، وهذا ما كان، فقد فضل ابن البادية النشاط السياسي عن الحب، خصوصا أنه كان يعيش وضعا سريا آنذاك.
وصفه بعض المناضلين بالجسر المتين لدوره الريادي في صفوف المنظمة، بل حتى عندما وجد بنزكري نفسه في معتقل درب مولاي الشريف بالدار البيضاء رفقة المناضلين، أخذته الصدفة ليكون سجينا معصوب العينين مصفد اليدين إلى الوراء في ممر المعتقل المؤدي إلى باقي الزنازن المكتظة برفاقه، لقد كان جسرا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حتى أنه استغل تواجده في الممر لمراقبة الحراس الذين يتناوبون على حراسة المعتقلين، فرغم أنه كان معصوب العينين إلا أنه كان يعد خطاهم ويخمن عددهم، وما إن يشعر أن الكل غادر المكان حتى يصدر صوتا عبر الاستنشاق العميق، وهي إشارة إلى أن الكل غادر السجن أو في منأى عن مكان تواجدهم، عندها يمكن لكل المعتقلين نزع "البانضة" والتحرك بكل حرية، والتحدث عن ظروف الاعتقال، وعندما يستشعر خطوات حارس في الطريق إليهم، يصدر صوتا أشبه ب "الكح" لتعود الأمور إلى نصابها.
أصدقاؤه ورفاقه أقروا أن إدريس بنزكري رجل عملي، مثقف، رومانسي وكثير الحركة بالرغم من وضعه الصحي الحرج، فهو من خلال رؤيتهم كان دائم الصمت، لا يتكلم إلا حينما تطلب منه الكلمة، ولا ينبس بنبت شفة في موضوع ليس له عنه أدنى فكرة، حتى أن عائلته كانت تتضايق من صمته هذا إلى درجة أنها أدرجته في خانة المريض نفسيا أو الذي يعاني من انطوائية دائمة، بينما كان كثير الكلام إذا تعلق الأمر بإيديولوجية المنظمة أو كل ما يتعلق بالمبادئ الماركسية اللينينية؛ حتى قيل إنه في لحظة دخوله المعتقل، تم تجريده من كل ملابسه ليمنحوه لباسا "كاكي" اللون، ومن سوء حظه، كان نصيبه سترة واسعة وسروالا قصيرا لا يلائم نحافته وقامته.
ابتكر بنزكري لغة خاصة للتواصل مع باقي المختطفين الذين بحت حناجرهم من شدة الصراخ والآهات التي كانت تتصاعد إلى آذان سكان العمارة الواقعة في درب مولاي الشريف، وما سهل عملية التواصل هو تواجده قرب كل من عبد الله الحريف وابراهام والسرفاتي، وكانت اللغة التي ابتكرها بنزكري مشفرة (غوص) سهلت إلى حد كبير عملية التنسيق الدائم أثناء فترة الاعتقال في درب مولاي الشرف، ورغم الحراسة الشديدة المفروضة من طرف زبانية النظام آنذاك، كانت الكلمات التي تصدر عن بنزكري تمر عبر موزع الأكل الذي كان هو الآخر معتقلا مثلهم، وهي عبارة عن كلمة واحدة أو اثنتين.
لقبه البعض هناك بالداهية، خصوصا عندما استطاع التخلص من الأصفاد التي تعرقل تحركاته، حيث كان يُنزل الأصفاد إلى كعّيه حتى يجتمع الدم في ذراعه، ليشرع في المناداة على الحراس لإسعافه، وهكذا استطاع التخلص من الأصفاد، اعتبارا لنحافة يديه، ثم كان كلما نزعها ،يأخذ في حك أسنانها على إسفلت الزنزانة أو على الحيطان التي تشهد صمود رفاقه، حتى يتمكن من وضعها ونزعها متى شاء، إلى درجة أنه كان ينزعها عند النوم ليضعها في يديه عند استيقاظه، ومن تم عمم العملية على باقي السجناء، حتى بات البعض يتحرر وقتما شاء من نزع الأصفاد إلى أن تم اكتشاف أمرهم.
يقول أحد المعتقلين ضمن مجموعة بنزكري، إن هذا الأخير سقط في يد البوليس السري مباشرة بعد ضبط القيادي ذي الأصل الوجدي "الكرفاتي" وهو على متن دراجته النارية، ويضيف أنه بعد 24 ساعة توسعت الاختطافات في صفوف الحركة الماركسية اللينينة، مما طرح العديد من علامات الاستفهام التي لازالت عالقة، وبعد تجربة درب مولاي الشريف تم نقل إدريس بنزكري إلى سجن "اغبيلة"الذي عاني فيه الأمرين رفقة زملائه ،ليتم ترحيله إلى سجن القنيطرة، حيث قضى هناك ما يقارب 17 سنة، ضريبة على توجهاته ذات الطابع التحريضي حسب تعبير "موالين الوقت"، كما أنه كان ضمن المجموعة التي أعلنت الدخول في الإضراب احتجاجا على العزلة المفروضة على المختطفين، ليتم ترحيله رفقة احد المعتقلين إلى سجن تازة، يقول رفيقه الذي نقل وإياه إلى هذا المعتقل، "كنت دائم الخوف على بنزكري، فقد بلغ بنا الإضراب أرقى درجات الضعف والوهن، وكنت بين الفينة والأخرى أتحسس وجهه إلى أن تم نقله إلى مدينة الدار البيضاء للتفاوض معه حول فك الإضراب ، ساعتها راجت أخبار أن ابراهام السرفاتي وجه إلى رفاقه المعتقلين خطابا شديد اللهجة عن خوضهم لهذا الإضراب الذي سبقه بأيام معدودات إضراب طويل كادت معه أنفاس المختطفين أن تتحرر من أجسادها ، خصوصا بعد استشهاد المناضلة سعيدة المنبهي.
بعد خروجه من السجن أسس إلى جانب رفاقه، خصوصا زميله صلاح الوديع، منتدى الحقيقة والإنصاف، ثم أصبح فيما بعد رئيسا لهيئة الإنصاف والمصالحة،وحمل على عاتقه بمباركة من الملك محمد السادس، البحث عن المفقودين وكل الذين تحمل جلودهم آثار التعذيب إبان سنوات الرصاص، فكان أن اكتشف العديد من المقابر الجماعية، أهمها ثكنة الوقاية المدنية قرب مقبرة الشهداء، وفي إطار التوصيات التي وجهها بنزكري ورفاقه إلى الملك محمد السادس، عينه هذا الأخير أمينا عاما للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ثم رئيسا له، خلفا لعمر أعزيمان وزير العدل السابق.
الذين اختلفوا مع بنزكري عابوا عليه طريقة تدبيره لملف المعتقلين وكذا تمييزه بينهم وتجاهل إدراج أسماء الجلادين ضمن شهادات المعتقلين،غير أن بنزكري بادر بتوضيح الفكرة قائلا "إنه من غير المعقول أن يصنف متهم بالقتل كمعتقل سياسي لمجرد أنه يحمل بطاقة الانتماء لتنظيم سياسي.
ويبقى اسم بنزكري الذي ذاق مرارة السجون وجروح الأصفاد ولهيب سنوات الرصاص و الجمر الحامية، أحد أبرز شخصيات المغرب الذي استطاع في ظرف وجيز الكشف عن مصير المئات من المفقودين، وأحد أهم الأطباء الذي تمكن من جبر الضرر الذي ألحقته أعقاب البنادق وهراوات المخزن و "البانضة" السوداء في غرف الموت الباردة.
وقد كانت فرحة بنزكري بادية على محياه وهو يفتح بوابة معتقل درب مولاي الشريف رفقة أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة، ليعود إلى الوراء حيث مقابض الأبواب والأدراج الباردة المثقلة بذاكرة المختطفين،ومما لا شك فيه، تذكره وهو يلج بخطاه الوئيدة داخل أقبية الموت البطيء، الشهيدين عبد اللطيف زروال وأمين التهاني اللذين لفظا أنفاسهما الأخيرة بين حيطان المعتقل الذي لم يفلح في كتم أصواتهم.
وبالرغم مما راج حوله إلا أن بنزكري أو بومنجل، وهو"اسمه الحركي في منظمة إلى الأمام"، ساهم في تعميم ثقافة التسامح والمصالحة، وكم كانت صورته التي عممتها وسائل الإعلام مؤخرا "بمناسبة تكريم إحدى الفنانات الشعبيات، مؤثرة خصوصا فقدانه لأهم ما ميزه في الماضي، وهو شعره المتهدل إلى الأمام .
ومع ذلك فإن الرجل ما إن خرج من الصراع الأصغر ضد النظام حتى دخل في صراع آخر مع مرض عضال،إلا أن هذا الأخير لم ينجح في منعه من مزاولة نشاطاته كما لم يكن حاجزا عن تلبية كل الدعوات الموجهة إليه.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *