جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

عرّاب يرسم الموت، وجرأة الشاعر عبد اللطيف زروال جمهورية واسيني

عرّاب يرسم الموت، وجرأة الشاعر عبد اللطيف زروال

جمهورية واسيني


الثلاثاء 25 جانفي 1977.الجو في وهران ممطر جدا، وعطر الأرض والطرقات يصل حتى الأنف. أستنشق هواء معطرا ببرد الخارج ورائحة البيرة والببوش الأبيض، بوعزيزة، والقهوة المختلطة بالحمص المقلي والنعناع. عندما انزويت في المقهى بار المقابل لجريدة الجمهورية مع رسام الكاريكاتور الكبير عراب، الذي لا يعرف من اللغة العربية والقبائلية إلا جانبها المحكي، كانت في رأسي أشياء كثيرة. عراب فنان كبير ارتبطت جهوده واسمه بالكاريكاتور السياسي العالمي والوطني. واحد من أهم فناني الكاريكاتير العرب والعالم، في وقته، في السبعينيات. ضحك وهو يقول: من أين أبدأ يا واسيني، أخذوا منا كلاّ شيء، حتى القهوة أخلطوها بالحمص، والبيرة أفسدوها في هذه البلاد. نكته ثقيلة وعميقة مثل رسوماته التي كثيرا ما قالت بصريح العبارة ما كان يفكر فيه. لهذا كان الكثير منها عرضة للمصادرة. سألني عن طبيعة المقالة التي طلب منه رئيس التحرير أن ينجز لها رسما. وهو ينظر من وراء النافذة الثقيلة للبار. حكيت له عن المادة بالتفصيل الممل. أن الأمر يتعلق هذه المرة أيضا بمثقف مغربي. إذ سبق أن أنجز رسما عن مقالتي التي كنت قد خصصتها للمهدي بن بركة. قلت له عبد اللطيف أيضا شخصية كبيرة. رفيقنا الذي توفي في المعتقل، تحت التعذيب. المغرب بالنسبة لي كان جزائر أخرى في الخفاء. كنت أحس ما معنى ذلك. تذكرت الشاعر بشير حاج علي، الذي كان يكفي ذكر اسمه لنهدد بالاعتقال. لم يهمهم الشاعر الذي يعرف نفسه بهويته الأدبية، ويعرفونه بهويته السياسية كأمين عام للحزب الشيوعي الجزائري. نسوا كليا أناشيد ديسمبر، وتذكروا فقط الرجل الذي كتاب العسف ضد التعذيب والظلم. كانت الديمقراطية في المغرب العربي تصنع داخل الخوف والدم والآلام القاسية. سألني عراب هل عرفت عبد اللطيف الزروال. قلت لا. العلاقات مع المغرب مقطوعة منذ مشكلة الصحراء، لكن، صورته موجودة في الأرشيف والمجلة معي. قال: أحتاجها لساعة وأرجعها لك. ربما وجدت مدخلا للكاريكاتور. قلت له هو شاعر. ومناضل سياسي. واحد من الطلائع الثورية في الحركة الشعبية المغربية. كان يحتل موقعا قياديا، في الإدارة المركزية السرية إلى الأمام. سجن ومات تحت التعذيب لكن اغتياله ظل طي الكتمان زمنا طويلا قبل أن تفضحه مناضلة فرنسية تعرف جيدا الحركة النضالية في المغرب. كان عبد اللطيف زروال يعرف أن موته ليس بعيدا. فكل من تحول إلى صوت حي لشعبه ولأحلامه، عليه أن يستعد لكل شيء، حتى الموت. ها أنا ذا عريان أزحف فوق القتلى. ألم أطرافي، كي أمسك بالراية الممزقة. أنفخ بدمي في رماد الشرارة المحترقة. ها أنا ذا أدفع الضريبة. عندما ترجمت القصيدة أو المقطع لعراب، شعرت بالألم يرتسم في عينيه. Nu, je rompe sur les cadavres Je ramasse mes membres pour bien tenir l*étendard déchiré. De mon sang, je souffle sur les cendres  d*une étincelle brulante. Me voilà payant la dette.  قال أحتاج أن أقرأه أكثر وتطوعت لترجمة بعض قصائد عبد اللطيف الزروال في قسم التحرير عندما غادرنا المقهى البار. كان متحمسا وهو الكاريكاتوري السياسي المحنك. نقده صارم. اضطر إلى المغادرة هو أيضا بعد تعريب الجريدة. كان يقول دائما كيف أرسم شيئا لا أعرف معناه. وفي كل مرة أشحذ من يترجم لي. كان هو أيضا تعبيرا عن جرح استمر طويلا في الجريدة. جيل لا ذنب له سوى أنه وجد نفسه وجها لوجه أمام وضع لا مسؤولية له فيه. الجميل في عراب أنه يومها غير توقيعه الذي كان بالحرف اللاتيني Arab أصبح بالحرف العربي: عراب. لكن ذلك للأسف لم يشفع له. في قاعة التحرير حكيت له عن الشاعر عبد اللطيف الزروال أكثر. وأن الذي فضح الاغتيال هي المناضلة والمتعاونة الفرنسية كريستين جوفان التي قضت زمنا طويلا تجاوز 13 سنة إقامة في المغرب، وعايشت أهم الانتفاضات التي ذهب ضحيتها الكثير من المناضلين. كانت شهادة كريستين مهمة لأنها كانت آخر من رآه عندما ألقي عليه القبض حيا. وردت على الرواية الرسمية التي كانت تقول إن الموت كان طبيعيا. وأنه توفي بسبب مرضي. فضحت موته والاحتفاظ بجثته التي لم يكن لها أي تبرير مقنع. وتقول إنها نادمة على شيئ واحد وهو أنها لم نتمكن من مساعدة رفاقها على الفرار من السلطة والسجون، كما فعلت في سنة 1972. الحب يا رفيقتي صليب الذين يحبون ويظلون يحفرون في الجدار حتى يسقط أو يسقطون. Camarade, l*amour c*est la croix de ceux qui aiment. Qui creusent, sans répit, dans la muraille Jusqu*à ce que le rempart tombe, ou ils s*éteigne. كلما ترجمت بيتا توقف الصديق عراب طويلا متأملا متخيلا الصورة. عندما انتهيت قال لي: نلتقي بعد ساعة. بالفعل كان عند وعده. كنت قد انتهيت من كتابة مقالتي الحماسية التي كانت تحمل عنوان: عبد اللطيف زروال أو أغتيال الكلمة الثورية. ألصقت الكاريكاتور مع المقالة وأنزلتها ألى رئيس التحرير الذي تحسر: عراب، خسارة؟ ستخسره الجريدة، فنان حقيقي. كدت أقول له كانت هناك حلول أخرى لكن أصحاب الحل والربط رأوا شيئا آخر. لم أكن في وضع لإبداء ملاحظة مثل هذه. لا أدري لماذا سكنني الصمت يومها. حتى عندما ركبت الترولي خط 7 المتجه نحو حي اللوز ليزامونديي، ببطاقة ابن الشهيد التي كانت تعطيني حق الركوب مجانا في وسائل نقل الدولة، تعمق صمتي وغضبي الداخلي. صباحا مررت على كشك عمي علي، في ظهر مقر الجريدة، أخذت جمهورية اليوم واتجهت نحو مقهى المسرح. سغلت نفسي قليلا بتأمل ساحة السلاح بلاص دارم، وحمامتها العالية رمز الحرية والسمو. كم من حمامة ماتت قبل أن تطير؟ كان في رأسي عبد اللطيف زروال، ولكن أيضا الشاعر بشير حاج علي الذي سرقت منه ذاكرته بالسطل الألماني. وهو تعذيب قاس يمحو الذاكرة مع الزمن. يوضع السطل على رأس المعتقل ثم يبدأ الزبانية في الضرب على السطل الذي تتضخم فيه الأصوات وتصم الإذان لدرجة سيلان الدم منهما. بعد سنوات قليلة ضاعت ذاكرة بشير حاج علي. رأيت لحظتها أيضا عبد اللطيف وهو مسجى على سرير حديدي بارد بلا فراش ولا غطاء. رجل لا أعرفه لكن كأني كنت أعرفه. منذ أن عرفت قضيته تمنيت لو اسطعت أن أفعل شيئا مثل كريستين جوفان، لكني لم يكن مهيأ لذلك بسبب صغر سني. وربما حتى على الكتابة عن موضوع كبير كان يتجاوز قدراتي الثقافية، لكني فعلت. كان المطر صباح الأربعاء 26 جانفي 1977، يغسل الساحات الوهرانية ويغسل قلبي. تأملت مقالتي. كاريكاتور عراب كان سياسيا بامتياز، وقاسيا، لكن أقل قسوة من موت الظلم، في سجن أسود، وجثة رجل لم تجد تربتها. لكن القضايا الإنسانية الكبيرة لا تموت بفعل التقادم. صوته ما يزال حيا إلى اليوم. فقد انتقدت لجنة “كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال”، بقوة، تعاطي المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان مع ملف المختفين ومجهولي المصير. وقالت إن المجلس أثبت انعدام الكفاءة والإرادة لديه في التعاطي مع توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة. وأكدت اللجنة، في ندوة عقدتها بالرباط، أنه بعد مرور أزيد من 36 عاما على استشهاد عبد اللطيف زروال، ما زالت الحقيقة بصدد الظروف والملابسات التي أحاطت باختطافه، وتعذيبه، وقتله، مجهولة. كما أن لا أحد بعرف قبره، ولم تتسلم عائلته رفاته حتى اليوم، وهذا يعني الاستمرار في نكران الحقيقة ودفنها. قام عبد الرحمان بنعمرو، عضو اللجنة، بتحريك المتابعة ضد المشتبه في تورطهم في اختطاف وقتل عبد اللطيف زروال، وعدم التبليغ، وإخفاء الجثة، والتزوير. شيء ما في الحقيقة لا يموت أبدا، يستمر حيا حتى انكشاف الحقيقة.

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *