جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

عطلة عكاشية (3) في حضرة المعتقلين..فريد الحمديوي

عطلة عكاشية (3)
في حضرة المعتقلين..
رغم أننا نعيش نفس الروتين والإجراءات التفتيشية والإدارية أثناء الزيارة، لكن لكل زيارة طعم خاص، ولكل زيارة ظروفها وتفاصيلها التي تميزها عن الأخرى، داخل قاعة الزيارة، تنفرد كل عائلة بالمعتقل الذي جاءت لزيارته، وغالبا ما يكون الأزواج في أمس الحاجة لرؤية أطفالهم وزوجاتهم، أما الأمهات فلهن السلطة العليا، داخل القاعة، فهن يتشبثن بأبنائهن طيلة مدة الزيارة، يلتصقن بهم، فبذلك لا يتمكن المعتقل من الحديث إلى عدد كبير من الزوار ممن جاؤوا ودخلوا نفس القاعة، ولذلك نضطر لإلقاء التحية ومعانقة المعتقل الذي برفقة زوجته وأطفاله أو أمه، لنفسح لهم المزيد من الوقت، لأن لوعة الفراق بنكهة الظلم والحكرة تكون أكثر مأساة وعذابا.
أصبح يوسف فيلسوفا، يتحدث بعمق، يرى الأشياء بمنظور فلسفي راق، قال لي: إن الفضيلة منزلة بين رذيلتين، بين الإفراط والتفريط، فالشجاعة فضيلة، بين التهور والاندفاع في منزلة الإفراط، والجبن والتخاذل في منزلة التفريط...
قاطعته، حين كان أشهبار النوري المحكوم بسنتين سجنا نافذا، رفيقه في الزنزانة جالسا بجواري: إن يوسف أمانة في عنقك، فاعلمني إذا لاحظت علامات التفلسف زائدة عن اللزوم... ضحكنا بصوت عال، أثار انتباه الجالسين بجوارنا، وكانت عائلة المعتقل فؤاد السعيدي، عن يميننا..
قال لي النوري: لا تخف يا عيزي فريد، يوسف من أفضل من لاقيناه في هذا المعتقل، ونحن هنا في خدمته من أجل أن يكمل دراسته ونوفر له ظروفا ملائمة لذلك..
قال يوسف: إن النوري وعبد الحق صديق، يمنعاني من القيام بأي شيء، فقد تفاجأت يوما بأنهما قاما بغسل ملابسي وتصبينها، فرغم احتجاجي على ذلك، كان ردهما: لنا الشرف بأن نكون في زنزانة مع شخص نبيل مثلك يا يوسف..وهذه خدمة بسيطة نقدمها لك حتى تتفرغ لدراستك بشكل أفضل..
عانقت النوري، قاومت دموعا أرادت أن تذرف، اغرورقت عيناي بدموع الفرح والشكر والتقدير لهؤلاء الشرفاء خلف القضبان، فرحت كثيرا لهذا التضامن بين المعتقلين، بهذه اللحمة والرحمة التي تسود بينهم، فرحت بعد أن وعوا كل الوعي بأن السجن مجرد مرحلة عابرة يجب عليهم أن يستثمروها بأن تقوي من عزيمتهم وبأن يكونوا أكثر قوة واتحادا..
يبلغ عدد المتواجدين في القاعة حوالي 60 شخصا أو أكثر باحتساب عدد الحراس الذين يتوزعون على القاعة في كل زواياه وفي وسطها، يمنحون لنا مسافة الأمان، لكن عيونهم لا ترحل عنا، إضافة إلى كاميرات المراقبة الموزعة أيضا على الزوايا الأربع للغرفة، في بعض الأحيان نتجاذب معهم أطراف الحديث بشكل مختصر، لأننا نرغب في قضاء وقت أطول مع معتقلينا الأبرياء..
بعد مدة قررت أن أنتقل إلى مكان آخر لأدع يوسف يكمل حديثه مع والده وابن عمته حسن أزرقان الذي يزوره لأول مرة منذ اعتقاله، في دورتي تلك، صادفت فؤاد السعيدي، الذي أفرحني بخبر متابعته لدراسته الجامعية بجامعة طنجة تخصص التاريخ، قلت له: صديقي السجن زمن يقضى ويفنى، وليس فضاء للإقامة، المكان ثابت، والزمن يدور ويمشي، فاسثمر زمنك ليصل بك إلى مكان أفضل مما كنت عليه من قبل، وإلا فستكون سلحفاة كسولة تتراجع إلى الوراء..
كانت جلستي المطولة الثانية بعد يوسف قد قضيتها مع محمد الأصريحي، الأصلع بنظارات ولحية خفيفة، هنأته على حصوله على إجازته، وجه بشوش بملامح طفولية وبراءة قل نظيرها بين المعتقلين، يحمل في قلبه أمورا تفوق وزنه وسنه، ساهم أثناء الحراك بالشيء الكثير كصحفي نقل الحقيقة للعالم أجمع عبر موقعه الإلكتروني.. كان رفقة أخيه وائل الأصريحي، جلست بجانبه، خضنا في الحديث عن ظروف الاعتقال وإذكاء روح التضامن والاتحاد بين المعتقلين، قال لي:
" الاختلاف صحي وأصل في الحياة، فلولا الليل لما عرفنا قيمة النهار، لكن علينا أن لا نحول الاختلاف إلى خلاف، ثم نصبح بعد ذلك في صراع ونزاع، ثم سندق طبول الحرب.. فالحمد لله نحن على توافق بيننا.."..
أجبته:" إن كنتم قد بلغتم هذا الحد من التفكير، فلن أخاف عليكم، لكن ما أرجوه منكم هو أن تتفهموا طبيعة بعض الشباب الذين يرون الأمور من منظور مختلف، وغالبا ما يكونوا هم أيضا على نصيب من الصواب، فالأمر الجيد في كل هذا هو أن تجعلوا من اختلاف الرأي مصدر قوة، فلكل رأي نقاط قوة ونقاط ضعف، فلتستثمروا الإيجابي منها في مصلحتكم الفضلى"..
أحسست وأنا أجالس هذا الشاب الذي اتهم بزعزعة استقرار البلد، بكاميرا تنقل الحقيقة وتوثقها، أن من اتهمهم لا يحب النور ويعشق العيش في الظلام، فالحق نور يسطع، مهما عملنا على إخفاقه، فإنه سيجد الطريق ليسطع من جديد، لأن سطوع نوره أصل فيه.. استحضرت كل زملائه الموقوفين معه من الصحفيين، فؤاد السعيدي، الحسين الإدريسي، جواد الصابري والمهداوي...الذي دفعوا ضريبة غالية في سبيل ما قاموا به، ودفعت أيضا عائلاتهم نصيبها من الضريبة، دفاعا عن حلم لن يستطيع السجن أبدا أن يحجب عنه النور وتكبله بين الجدران، فالأحلام تطير ولا تفنى حتى وإن جعلت الحالم خلف القضبان. (يتبع)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *