جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

في ذكرى رحيل جورج طرابيشي

اليوم ذكرى وفاة المفكر والمترجم الكبير جورج طرابيشي (في 16 آذار 2016).
هاتان مادتان عنه كانتا قد نُشرتا وقتذاك في موقع "حبر" وجريدة "السفير"، على التوالي:
1- جورج طرابيشي، تحيّة وداع إلى معلّم
ثائر ديب
تعرّفت إلى جورج طرابيشي شخصياً وبأمّ العين في دمشق أواخر عام 2003، في بيت الشاعر والمثقف بندر عبد الحميد المفتوح للبشرية جمعاء.
كان قد جاء إلى دمشق كي يبرم عقوداً مع مترجمين وكتّاباً وناشرين لمصلحة "مؤسسة التحديث الفكري العربي" و"رابطة العقلانيين العرب". وكنتُ من بين أولئك المترجمين بعد أن أشار عليه بي أكثر من شخص، في مقدمتهم د. فيصل درّاج. وفي بيت بندر اتفقت وإيّاه على ترجمة كتاب "23 عاماً: دراسة فى السيرة النبوية المحمدية" للكاتب الإيراني علي الدشتي الذي قضى في السجن أيام الخميني بسبب كتابه هذا. وفي هذا البيت ذاته سألتقيه مرتين أخريين طويلتين، قبل أن أراه آخر مرّة في بيروت بين أواخر نيسان وأوائل أيار من عام 2004.
من بين ما يعنيه الوجود في بيت بندر عبد الحميد، فضلاً عن تيسير العمل والمشروعات الثقافية والتعارف والصداقة، كانت النقاشات الفكرية الثرّة. فما بالك إذا ما توفّر لهذه النقاشات وجود جورج طرابيشي المفكّر المتبحّر المتعمق، موسوعيّ التجارب والمعارف الذي يليق به لقب المعلّم على نحو ما أُطلق على فلاسفة ومفكرين كبار؟ كنتُ قد قرأتُ، بحكم اهتمامي وعملي، أغلب ما خطّه قلم طرابيشي تأليفاً وترجمةً، كتباً ومقالات ومواد صحفية، ما زاد طمعي في اعتصار حضوره هناك. لكن المفاجأة أنني وجدتُ نفسي إزاء شخص يسأل أكثر مما يجيب، متواضعٌ في أسئلته كما في إجاباته، جمّ التهذيب من دون تمثيل أو تظاهر. يهمّه رأيك في ترجماته كما في كتبه، ويفرح خَجِلاً كالطفل إذا ما امتدحت أوجهاً فيها عن معرفة واطلاع.
كدتُ لا أصدّق أنَّ مترجم موسوعة علم الجمال الهيغلي كاملةً، وتاريخ الفلسفة لإميل برهييه برمّته، ومعدّ معجم الفلاسفة، ومترجم عشرات كتب فرويد، وأعمالٍ لسارتر ولوكاش وماركوزه وغيرهم كثر، فضلاً عن عشرات المؤلّفات في الماركسية والفكر القومي والنقد الأدبي والفكر العربي ونقد العقل العربي ونقد نقده، كدت لا أصدّق أنّ هذا الرجل حريص كلّ هذا الحرص على الإصغاء بكلّ اهتمام، وأنَّ عينيه تلتمعان بكل هذا الفرح إذا ما سُرَّ لجديدٍ يُقَال، في حين لا يبدي من جهته كبير اهتمام أو جهد لأن يمسك بناصية الكلام ويشدّها صوبه.
أولّ ما لفت انتباهي لدى طرابيشي هو ملابسه البسيطة ونظافتها البالغة، حتى لتحسّ أنّه خرج للتوّ من دعاية تلفزيونية لأحد مساحيق الغسيل وراح يشيع حوله نظافةً وإحساساً بها لا سبيل إلى ردّهما.
ثاني ما لفت انتباهي لديه خليطٌ من الصوفية والرواقية، ربما، تولّدان في شخصيته كلّ هذا الهدوء، وتفضيل الإصغاء، والصوت الخفيض عند الكلام، وحبّاً لبني البشر وحنوّاً تجاههم كائناً من كانوا، مع ميل إلى غفران أخطائهم وتبريرها، والرغبة في مدّ يد العون لهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ثالث ما لفت انتباهي هو الطريقة التي يتحدث بها عن زوجته (الكاتبة والمترجمة المهمة هنرييت عبودي التي جاءت معه في المرات التالية) ومقدار اهتمامه بشؤونها الشخصية والكتابية وبكلّ ما يسعدها. وحين لفتُّ انتباهه إلى أنّه يتكلم عليها كما يتكلّم العاشق على الرغم من طول السنين معاً، أبدى استغراباً وأشار إلى أنّه يجد نفسه مقصّراً على هذا الصعيد، وعبّر عن حسد وإعجاب شديد بعلاقة الحبّ التي يعجز عنها المراهقون بين د. نصر حامد أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس، الأمر الذي سأتأكد منه عمّا قليل حين سأراهما في بيروت رفقة طرابيشي وثلّة من المثقفين العرب.
مع د. نصر ود. ابتهال اللذين طلقهما طيور الظلام في أواخر القرن العشرين -إثر اتهامه بالارتداد والكفر وفقاً لقانون الحسبة، لمجرد تجرّؤه على التأويلات الإسلامية السائدة ودعوته إلى التعامل مع النصوص تبعاً لكونها نصوصاً- نصل إلى ما كان طرابيشي منكبّاً عليه في أواخر حياته من شغل لا على نقد هذا العقل التكفيري المستشري فحسب، بل على نقد عقول أخرى فاقدة للعقل مثله، تصنيفية وشعبوية، لدى مفكّرين وكتّاب واتجاهات فكرية وسياسية ما لبثوا، مع انطلاق الانتفاضات العربية، أن أقاموا أحلافاً خائبة شتّى مع أشباه عبد الصبور شاهين الذي كفّر نصر أبو زيد، لا بل مع تكفيريين أشنع بكثير، ما أودى –إلى جانب قمع الأنظمة الوحشي- بأغلب براعم انتفاضات الربيع العربي الأولى وحوّل أغلبها إلى مجرد حفلات لعنٍ للأرواح مفتقرة إلى أي توجّه اجتماعي واقتصادي يُذكَر.
في بيروت، بين مساء 29 نيسان وصباح 3 أيار 2004، سأبقى قريباً من طرابيشي الذي سلّمني مكافأةً مجزية لقاء ترجمتي كتاب الدشتي، واكتشف من قراءتها أنني عدتُ، في شغلها، إلى عدد من كتب السيرة، قديمها وحديثها، وإلى عدد من كتب التفسير من دون أن يكون الدشتي قد أورد منها مقبوسات محددة، وسألني إن كنت اشتريت تلك المراجع كي يطلب ثمنها من المؤسسة.
كانت تلك الأيام أيام انعقاد مؤتمر "الحداثة والحداثة العربية" الذي عقدته "المؤسسة العربية للتحديث الفكري" بوصفه مؤتمر إشهارها. واجتمع هناك، جورج طرابيشي، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وكمال عبد اللطيف، وناجية الوريمي بوعجيلة، وعادل ضاهر، وفهمي جدعان، ورجاء بن سلامة، وهاشم صالح، وعزيز العظمة، وأحمد برقاوي، ومحمد كامل الخطيب، وممدوح عدوان، وفيصل دراج، وكثر غيرهم، ليتفكّروا في هوّة التخلف المتنامية التي تفصل المجتمعات العربية عن المجتمعات الأخرى التي ربحت معركة الحداثة، وليطرحوا إشكالية النهضة على ضوء الراهنية الجديدة التي اكتسبتها في مطلع القرن الحادي والعشرين الذي تسارع فيه مأزق الانسداد العربي وتعمق على نحو غير مسبوق.
لعلّ تلك الأيام كانت أيضاً -حتى بالنسبة إليّ أنا ابن التجارب الحزبية والأيديولوجية والفكرية الذي ملّ الكلام على النهضة والانسداد وينتظر جدّةً في التفكير والخطاب- من أواخر الإيماءات على إدراك كبار المشتغلين بالفكر العقلاني الحداثيّ ضرورة التجمّع واالتعاون، الأمر الذي يكاد يزول اليوم من عالم العرب مقتصراً على حالة أو حالتين. ولعلّ تلك الأيام كانت من أواخر الأيام السابقة على احتلال الواجهة الثقافية والفكرية من قبل كتبة المقالات الصحفية المبتسرة ومغردو تويتر ومدبّجو جمل الفيسبوك السريعة الذين لا يترددوا في تخوين كلّ من يخالفهم.
في تلك الأيام، أصغى طرابيشي ولم يشارك. كان مكتفياً بالسهر على راحة الجميع وبسير الأمور على ما يُرام. كان خادم الجميع كما يليق بكبير قومٍ. كان مكتفياً بالمحبة والنظافة يشيعهما كيف تحرّك وأنّى اتجه.
2- الإصلاح الديني والثقافويّة ونقّاد طرابيشي
ثائر ديب
لا تحيل مشكلة الإسلام السياسي إلى مشكلةٍ في الإسلام ذاته ونصوصه بقدر ما تشير إلى سيادة التفسير الجامد الذي أضفاه التيار المذكور على هذه النصوص أو انتزعه منها. لكنَّ نصوصاً يمكن لأحد أن ينتزع منها كلّ هذا التأويل الجامد، وكلّ هذا الإرهاب، لا بدّ أنها تعاني مشكلة من النوع الذي عادةً ما وجد حلّه في الإصلاح الديني.
يعني الإصلاح حركةً داخل الدين المعني تناوئ تأويلاته السائدة والمصالح الواقفة وراءها وتطرح تأويلات جديدة ترمي إلى ملاءمة هذا الدين مع العصر. لكن الإصلاح في هذه التجارب كان جزءاً من تغيير تاريخي شامل (اسمه الرأسمالية، باختصار) هو الذي دفع إليه. وبخلاف ما رآه ماكس فيبر من أنَّ البروتستانتية هي روح الرأسمالية، فإنَّ الرأسمالية المتنامية هي روح البروتستانتية التي لم تكن، على الرغم من جرأتها وأثرها، سوى عنصر واحد، دفاعيّ في جوهره، بين أمواج ذلك الانقلاب الجوهري المتلاطمة.
بتغيير الواقع يتشجّع الدين على التغيّر. وبالركود وقمع محاولات التغيير يجمد الدين ويزداد عنفاً وتوحّشاً. ولنا أن نتوقع عندئذٍ أن تتراجع البرامج الراديكالية إلى مواقع خلفية، فيزداد تركيزها على نقد الفكر الديني وغيره من صنوف الفكر التي تمثّل وعياً زائفاً، خصوصاً في مجتمعات لا يقتصر نقد الدين فيها على أنّه غير ناجز بل يتعدّاه إلى كونه ممنوعاً، بخلاف ما تشير إليه جملة ماركس الشهيرة: "بالنسبة إلى ألمانيا، نقدُ الدين ناجز على الأغلب، ونقد الدين منطلق لكلّ نقد".
تمكن في هذا الضوء قراءة قدر كبير من الفكر العربي الحديث الناقد للتراث والتيارات الفكرية والسياسية الدينية، فضلاً عن نقده الاتجاهات الفكرية المختلفة التي تناولت كلّ ذلك. هكذا انتقل جورج طرابيشي، مثلاً، من كتابته "الاستراتيجية الطبقية للثورة" (1970) وترجمته "في التنظيم الثوري" (1972) إلى "من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة (2000) و"العقل المستقيل في الإسلام" (2004) و"من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" (2010).
ترى، ما علاقة هذا بـ"الثقافوية" التي يرمي بها بعضهم طرابيشي؟ لا علاقة. فالثقافوية هي الرؤية التي ترد جميع الظواهر إلى تقاليد ثقافية معينة، ربما ترجعها إلى دين بعينه يُرى على أنّه القوة المحركة الأساس التي تفسّر التاريخ والاجتماع بدل أن تتفسّر بهما. وطرابيشي ليس هنا قطّ. بل هو جزء من تقليد فكري نقدي عريق ديدنه كشف الوعي الزائف الذي يساهم في انسداد أفق التغيير.
والحال، أنّ اتهام طرابيشي بالثقافوية يأتي، بالأخص، من محاكمة سياسية لمواقفه النقديه حيال الثورة السورية على الرغم من موقفه النقدي من النظام السوري. وهو يأتي غالباً من جهات لم يُسمع لها صوت في نقد من قال: "إننا في المجلس الوطني لم نعلن لا تصريحًا ولا تلميحًا ضد جبهة النصرة أو غيرها، وقد دافعنا في اجتماعنا مع الأمريكان دفاعًا قويًا عن جبهة النصرة، كما لم تدافع هي عن نفسها"، أو من قال: "داعش وغيرها هم إخوة لنا، نتحاور معهم ونتفاهم على كثير من الأمور ولا مشكلة لدينا معهم".
ويبقى اتهام طرابيشي بـ"العلمانية المتشددة" نكتة غير مضحكة. لكن الخشية أن يكون رحيل طرابيشي، بجهده العميق والهائل، وتسيّد "فكر" نقّاده، بخفته كمّاً ونوعاً، ضرباً من التحذير أنَّ هذه النكتة تحتلّ كامل المشهد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *