الديمقراطية في مواجهة الريع : بقلم طوني نيكري ترجمة جمال الدين حبيب
أرغب أن أقاسم أصدقائي في الفايس هذا المقال الذي ترجمه صديقي ورفيقي جمال الدين حبيب ،الذي كنت قد خصصته لعدد جديد من مجلة الأفق الديمقراطي ،ونظرا لضعف الموارد المالية للمجلة ،توقف المشروع .
المقال سبق نشره في المجلة الفرنسية المحكمة Actuel marx سنة 2012وهو للفيلسوف الإيطالي طوني نيكري ،منظر الألوية الحمراء في السبعينيان من القرن الماضي التي أدى عنها عشر سنوات سجنا قبل أن يصدر في حقه عفوا تحت ضغط المنظمات الحقوقية والأحزاب اليسارية والمثقفين الديمقراطيين ، وهو اليوم يشغل أستاذ للفلسفة في جامعة باريس 8،حيت يدرس الفلسفة ،وهو ناشط سياسي في إطار الحركات الاجتماعية الجديدة ومنظر لها .
الديمقراطية في مواجهة الريع :
بقلم طوني نيكري
ترجمة جمال الدين حبيب
كلنا يعرف ما هو الريع أو على الأقل يعرف صاحب ريع ما. كل واحد منا نجده قد أمعن النظر، ولو لمرة في حياته، في وجه مالك الشقة التي يكتريها. من الممكن أن نحسد أو نكره هذا الرجل، في كل الحالات، يستوجب اعتباره كالذي يكسب مالا دون داع لأن يعمل. نقصد "بالنظام القديم" تلك الفترة التي كانت فيها قوانين الريع ذات قيمة لا حدود لها. يعتبر الرجعيون، على طريقة بيرك أو هيجل، هذه القوانين كقوانين طبيعية ويثنون عليها؛ في حين يمتعض منها الثوريون أتباع روسو وإصلاحيو عصر الأنوار ومؤسسو حقوق الإنسان. ويعتقد الليبراليون الانجليز والفلاسفة الكانطيون بأن الحرية لا يمكن أن تقوم ولا أن تتطور انطلاقا من استغلال ثروة متأتية من ميراث ما، وأن الثروة "اللائقة" ينبغي لها أن تتأسس على العمل. أما بالنسبة لمنظري "ثروة الأمم"، مبتكري الاقتصاد السياسي، فقد شكل غموضهم وازدواجيتهم ثقلا في التاريخ : فمن جهة، كانوا يؤكدون فعلا على أن الثروة الرأسمالية يجب أن تنشأ ضدا على الريع (وحقيقة علم الاقتصاد كانت تقوم في تحقيق هذا المنحى)؛ ومن جهة أخرى، كانوا لا يخفون (حتى وإن كانوا بالمقابل يخفون ذلك على قرائهم) كون التطور الرأسمالي لم يكن ليوجد ولا ليُقلع بهذه القوة، لو لم يفعل ذلك انطلاقا من تملك أصيل وعنيف. تاريخيا، كان هذا هو ما وقع بالفعل: امتلاك ما هو عام، الأراضي والعمل في فترة التسوير(التسييج).
هذا إذن هو الريع المطلق: تجميع أو تراكم متأصل وعنيف لكنه ضروري، وهو ما وجب إخفاءه لأنه كان كريها ومُقززا: عبودي(استعبادي) ضال، فظيع وشنيع في طرقه وأساليبه...
طبعا، حسب مؤسسي الاقتصاد السياسي، يعيش الريع المطلق بارتباط مع احتكار الملكية الخاصة للأرض، في السيرورات العادية واليومية للاستمتاع بالريع، لكن بشكل تابع كليا للأشكال الأخرى لإنتاج الثروة (وهذا عموما ما قاله الاقتصاديون ـ لأنهم كانوا يرغبون فيه من دون شك، لكن كذلك لأنهم كانوا يعانون من غموضه وازدواجيته).
كذلك، بالنسبة لسميث، تعمل المنافسة على إلغاء كل ريع في القطاعات الاقتصادية الأخرى، أي أنها تحول دون كل حالات الاحتكار وتجاوز السلطة. في الحقيقة، لم يصبح الريع مهما بالفعل، إلا عندما بدأ يمثل أول استعمال بين الرأسماليين: ربح زائد مرتبط بقدرة مقاول أو آخر على التجديد و/أو على انتهاز الفرص الأكثر ربحا للسوق.
أصبح الريع النسبي أو المتغير أحد الأشكال التي تظهر من خلالها القيمة المضافة الناتجة عن العمل، تلك التي تنشأ انطلاقا من فارق إنتاجية الأراضي المحروثة بالنسبة لتلك التي لم يتم حرثها.
لقد ذهب ريكاردو مثلا، إلى حد نفي وجود الريع المطلق وذلك بالتأكيد على الدينامية الوحيدة للريع التفاضلي النسبي. فمن خلال هذا الأخير، يحرص الاقتصادي على أن ينحاز إلى حزب الإصلاحيين وأن يجد نوعا من القبول والاستساغة لحججهم. في الواقع، وبعيدا عن التطور الرأسمالي البسيط، كان يبحث ـ ودون إخفاء ذلك ـ عن إضفاء المشروعية على الامتلاك الأصلي الذي يعود للتراكم الأولي.
متى هاجم كينز، في منتصف الطريق بين مؤسسي الاقتصاد السياسي واليوم، أي ما يناهز قرنا من الزمن، متى هاجم الريع متمنيا "القتل الرحيم لصاحب الريع"، والذي كان بإمكانه أن يعتقد بأن بداية القرن الواحد والعشرين ستتميز من جديد بالنقاش حول الريع وبالثأثيرات السياسية على مركزيته؟ أو بالتحميس الإيديولوجي والرجعي لانحرافاته الأكثر كآبة؟
عندما نقوم بدراسة السلطة المؤسسة والديمقراطية داخل المجال في سيرورات تأسيس النظام القانوني المعاصر، فإننا لا نستطيع أن لا نلاحظ بأن هذه السلطة تمس دائما علاقات الملكية التي تخص النظام الرأسمالي بوجهة نظر نقدية، إنها تهاجم علاقات الملكية الناشئة سلفا؛ وهي تعبر عن الرغبة في أنماط جديدة ذات طابع اجتماعي للملكية، وذلك من زاوية النظر الإصلاحية و/أو الثورية التي تجعلها ممكنة. وتجدر الإشارة إلى أنه مع شدة عزم هذه السلطة المؤسسة، ليس مفاجئا أن يكون العلم القانوني البورجوازي قد حاول على طول فترة الحداثة، أن يعزل المفهوم وأن ينتزعه من حقيقة (مادية) العلاقات الاجتماعية التي تنشأ فيها، علاقات اجتماعية كانت في وقت سابق علاقات ملكية، لكنها أصبحت في وقت لاحق، علاقات الامتلاك الرأسمالي عموما. لقد انتهت السلطة المؤسسة من حيث ابتدأ القانون. يمثل تيرميدور الفترة التي تحققت فيها السلطة المؤسسة، وذلك وبشكل مفارق، من أجل نفيها وإلغائها على التو بعد ذلك.
مع ذلك، كان العلم الدستوري يعرف أيضا بأن إبطال الثأثير هذا، كان باطلا ولا طائل تحته. حتى إن كان من الممكن عزل السلطة المؤسسة شكليا، كان رجال القانون والسياسيون مُرغمين على الأخذ بعين الاعتبار تحليل "المقوم المادي" (أي دراسة العلاقات الاجتماعية ودراسة تعقيداتها وتنافرها و منافستها الشديدة والتي توجد في قاعدة "البنية الشكلية" أو القانونية (الشرعية)) كأساس لعملهم الخاص. إنها إذن حالة غريبة تظهر هنا. تشكل علاقات الملكية المشكل الذي انطلاقا منه تتضح تمردات السلطة المؤسسة. بخلاف ذلك، تعتبر السلطة المؤسسة علاقات الملكية كشيء مقدس وثابث. طبعا، في الشكلية المخادعة للقضاء المعاصر، لا يمكن للسلطة المؤسسة أن تنتعش إلا "كسلطة استثنائية"، أي دون أي مضمون لا يكون مرتبطا بشكل مباشر بقوة القرار. مع ذلك، في كل مرة تظهر فيها السلطة المؤسسة في ماديتها وتستعيد موضوع الملكية، فإنها على العكس من ذلك، تضطلع بزمن التأسيس، وتبادر فيه بالاقتراح كعنصر تجديد قانوني وتحرر اجتماعي، وتفسح فيه المجال لإمكانية إرساء المؤسسات الديمقراطية. هذا الأوان بالذات، هو الذي اصطدمت فيه السلطة المؤسسة ب"الريع المطلق"، وتكونت ـ كوظيفة ديمقراطية ـ في زمنية الـتأسيس المادي الطويلة، وناضلت من داخل الأشكال القانونية "للريع التفاضلي" النسبي.
اليوم، لا توجد الديمقراطية فقط أمام وضد الريع المطلق، العقاري: عليها أن تواجه خاصة الريع المالي، الرأسمال الذي يعبئه المال بصفة شمولية كأداة أساسية لتدبير الكثرة. إن استعمال المال هو الشكل الحالي للقيادة الرأسمالية. وواضح أن المال والتمويل لازال مرتبط بالريع، ويعيد قصيدته العنيفة، تماما كما يعيد غموض وتناقضات أي شكل من الاستغلال الرأسمالي. سيكون من الغباوة بمكان، الاعتقاد بأن الرأسمال المالي لا يمثل في حد ذاته لحظة تنافر وتضاد، لأنه يحتوي في داخله على هذا العنصر الضروري الذي هو قوة العمل، والذي يعتبر منتجا للرأسمال وتهديدا له في نفس الآن.
يتعين الشكل الذي من خلاله يضم الرأسمال المالي التنافر والتضاد، حسب ثوابث نوعية قطعا: تجريد قوي بالنسبة للكيفية الجسدية للعمل؛ التأسيس الرأسمالي لعالم مُقَََنع و/أو عالم حاجيات فاسدة وضالة؛ جماعة استهلاكية هائلة. استغلال كل شيء: لأنه عندما تصبح قوة العمل كثرة ويصبح العمل تعاونيا وإدراكيا، فإن الرأسمال لا يقتصر على استغلال العامل لوحده، بل يصادر كل ما ينتجه هذا العامل نفسه. يظهر الريع المالي إذن كاستغلال للكل ولكل شيء.
إذن، ريع مطلق أم ريع نسبي؟ ريع قائم على حركة تملك جذري، أو بخلاف ذلك، على حركة نزع الملكية واستغلال معمم، أي متمفصل على كل القيمة المُنتَجة، على التقويم الشامل؟ سيجيب بدون شك وبدون خجل، اقتصادي معاصر، ما بعد صناعي، وذلك باستحضار أسطورة المقاول (شامبتريان) وبالتأكيد على أن حركية الرأسمالية وقوتها التدميرية المبدعة، تنشأ عن المقاول المتحفز بالبحث عن ربح زائد، وعن وضع انتقالي للاحتكار، وعن الريع الذي ينتج عن ذلك، الخلاصة: لا ريع دون ابتكار ودون تجديد. فليكن.
نعلم أن الابتكار يكون جماعيا ومشتركا وأن الريع وحقوق الملكية المعنوية لا يمكن إلا أن تحاصر تنقل وإنتاج المعرفة والعلم، وبالتالي حركية التجديد نفسها. نعلم كذلك بأن هدف الرأسمال ليس هو الوصول إلى ريع انتقالي مرتبط بالتجديد ولكن إلى ريع دائم ومستمر، قائم على مصادرة قوة الخلق والابتكار الجماعيين. هكذا تتفكك الحدود بين الريع والربح، وتحدث تجديدات الرأسمال الحقيقية الوحيدة في مجال حقوق الملكية المعنوية وفي مجال المالية، من أجل تقوية سلطة الريع وقوة إغرائه للثروة...
والحال أنه عندما يظهر الربح نفسه كريع (بحيث يجد نفسه على الفور قد تحول إلى هذا الشكل، في السوق الإجمالي)، فإن الريع المالي والسيولة المالية أي "عالم الريع" يصبح فورا مخترقا ومشروطا بمقاومات الكثرة وكفاحاتها. ومع ذلك، عندما يظهر لنا عالم الريع التفاضلي(النسبي) هنا، فإنه الريع نفسه من يُظهر بعد الآن وجها آخر. إنه يتواجه بالفعل مع الأغلب الأعم، لأنه يبرز بالتحديد في العام أو في ما هو عام، في تعميم الاستغلال. توجد بلدان كالصين مثلا، حيث تكون هذه السيرورات أكثر صفاء من العلاقات الاجتماعية بين التمركز السياسي للقيادة من جهة، وبُعد (ولفور) للأجر الاجتماعي ولتوزيع الثروة بصفة عامة. من جهة أخرى، والتي تظهر على التو كعلاقات كفاح ونضال: حتى الأجر اكتسب الطابع العام للريع المالي. بالمقابل، عندما ننظر إلى ما يحدث في بلدان حيث التمفصل المعقد بين الريع والربح قذر وفاحش، كالولايات المتحدة وأوروبا (أو كذلك في كل بلدان العالم الثالث السابق، حيث لازالت توجد "أوليغارشيات" الريع)، يجب هنا أيضا أن نلاحظ إلى أي حد يعتبر الكفاح من أجل إعادة امتلاك الريع شديدا في تكوين علاقات إعادة إنتاج المجتمع.
في أي مكان إذن، نجد أن صمود الريع قوي جدا. وفي أي مكان تصل مقاومة الريع من جديد إلى اقتراح توليف بين الريع المطلق وحالة الإستثناء، توليف رأينا بأنه يخترق جينيالوجيا الريع نفسه. يظهر إذن الريع من جديد، بما في ذلك في مجال القانون، ويتعارض بقوة مع السيرورات الديمقراطية ومع حقوق الإنسان. إنها اللحظة التي يختار فيها أن يتأكد كضمان للربح، وذلك بقلب مجرى تاريخ التطور الرأسمالي.
والحال أنه بمجرد ما يمتص الريع ـ أو على الأقل يُدمج ـ ديناميات الربح، هل توجد في هذا السياق، إمكانية تحديد كفاح حول "الأجر التفاضلي" (الأجر المتغير)؟ هل توجد بالتالي إمكانية لوصف عُدة كفاحية من داخل الريع وضد هذا الأخير؟ بعبارة أخرى، على ماذا يرتكز الكفاح حول الدخل؟ وما هو "أجر الريع"؟ ينبغي لأي جواب على هذه الأسئلة، وقبل كل شيء، أن يُدرج ثانية موضوع أو باعث فعل: في اللحظة التي يخادع فيها الريع معظم الإنتاج الاجتماعي، فبين أية مواضيع ينبني الكفاح؟ موضوع أو باعث ما: قوة مضادة، قائمة على الكثرة، لها القدرة على تدمير صلابة السلطة الحيوية الممارسة باسم الريع المطلق.
عندئذ، ومرة أخرى أيضا، كيف يمكن أن ينشأ باعث كهذا؟ هذا ما لا يمكن ارتقابه من دون شك إلا إذا استثمرنا مجالا من الكفاح، مؤسس، مهيكَل، موجه من طرف الريع النسبي التفاضلي. الضرورة الأولى، هي بالتحديد إنشاء باعث أو موضوع انطلاقا من الكفاح، وفي قلب الكفاح. يصبح الريع المطلق نسبيا عندما يخضع لديمقراطية الكفاح. يجب خوض كفاح قادر على إنشاء هذا الموضوع. توحيد غير الثابثين والمقصيين، إعادة تركيب العمل المادي والعمل المعنوي ـ الأول من خلال تعقد التمفصلات التي تلعب في نفس الوقت، في المعمل وفي الحاضرة، الثاني في الكثافة الراهنة لتركيبه (سانتر دي كال للجامعات، خدمات صناعية لمصالح التواصل، مراكز بحث للخدمات الاجتماعية، الصحية والتربوية...). هذا ما تتكون منه هذه الكثرة القادرة اليوم على تمثيل موضوع سياسي يمكنه، وبكل حيوية، أن يدخل إلى ساحة الريع الذي تقوده المالية، وأن يُطلق أو يخوض كفاحا حول الدخل بنفس القوة التي كان يناضل بها قديما، عندما كان يخوض مع العمال في المعامل الفوردية نضالات حول الأجر. في هذا السياق يمكن التفكير في "أجر للريع". لنتخذ الحذر مع ذلك. لا يتعلق الأمر، بأي حال من الأحوال، بأن نعتقد بأن المقادير الأجرية المقتلعة من الريع (المطلق قبل كل شيء، ثم النسبي) يمكنها أن تحدد، بشكل أو بآخر، أزمة قيادة الرأسمالية. إن النضالات حول الدخل (بالتدقيق: النضالات من أجل "دخل المواطنة" هي قبل كل شيء، الوسيلة لإنشاء موضوع سياسي، قوة سياسية، وسيلة بلا غاية؟ نعم، من دون شك، لأن سعيها إلى غاية ليس ـ ولا يمكن أن يكون ـ هو سعي السلطة إلى الغزو؛ كما لا يمكن أن يكون أيضا تحولا مستمرا لميكانيزمات إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي: لا يمكن في هذا النمط من الكفاح إلا بناء الحقيقة والاعتراف بقوة تعرف كيف تتحرك بفاعلية في ساحة الدخل. انطلاقا من هذا المنعطف، من هذه الممارسة المكونة للكفاح ـ من أجل تحديد والاعتراف بباعث (موضوع) سياسي ـ سيكون ممكنا بعد ذلك أن نرتقب بأن كفاحا ما لا يُختزل في (التفاوض حول) تحويل أجر مواطنة، بل أن يبحث، خلافا لذلك، عن إعادة امتلاك العام وعن تدبيره الديمقراطي.
لا يوجد هناك صراع طبقي من دون مكان يمكن أن ينضوي إليه. اليوم، هذا المكان هو المنطقة العاصمية. في ما مضى كان المعمل، في أيامنا هذه، لا زال المعمل جزئيا ـ لكن أن يقول المرء "المعمل" فذلك يعني، من الآن فصاعدا، شيئا آخر. المعمل اليوم هو البلد الأصلي، بعلاقاته الانتاجية، إجراءاته في البحث، مواقعه في الإنتاج، المباشرة وغير المباشرة، تدفقاته التنقلية التواصلية، محاوره في النقل، حدوده، أزماته في الإنتاج، انحصارات حركيته، أشكاله المختلفة في العمل، إلخ.
البلد الأصلي: معمل عصري جدا بحيث وحدها المكانة الراجحة للعمل الادراكي في سيرورات التقويم، بإمكانها جعله ممكنا، ومع ذلك، معمل قديم جدا بحيث يكون فيه المهاجرون والنساء، المؤقتون والشباب، الغير المؤهلون والفائقو الأهلية، "المحميون" (المؤَمَنون) القدماء والمقصيون الجدد، كلهم مُدرجون في العمل كالعبيد ـ لأنه بعد الآن يستثمر الاستغلال كل أشكال الحياة.
البلاد الأصلية: معمل ما قبل صناعي يلعب على اختلافات القوانين والأنظمة والثقافة وذلك بإبداء نسق كامل من أشكال واشتراطات الاستغلال، ويقوم على سبيل المثال بفوارق النوع والعرق وفوارق طبقية؛ ومع ذلك، معمل ما بعد صناعي، حيث تشكل هذه الفوارق، العام والمشترك لهذا التشبيك، هذا الخليط المبدع المستمر، هذا الالتقاء للثقافات ولأشكال الحياة.
عام ومشترك يمكنه اليوم، داخل الموطن الأصلي، أن يعترف به وأن تسلط عليه كل الأضواء. يخفي الريع ويغطي هذا المشترك: إنه يبنيه انطلاقا من الأدوار الأكثر ارتفاعا لناطحات السحاب، يسيطر عليه في أسواق الأسهم (الأسواق المساهمة)، يبوح به لأولئك الذين يخفونه لمنتجيه الحقيقيين. على العكس من ذلك، يمكن لديمقراطية مطذلقة للنضال من أجل الشفافية، أن تدلنا على طريق تحرر المشترك والأغلب، لأن الأمر يتعلق بالتصدي لكل تدفقات الريع ـ من الريع العقاري (من خلال التمفصلات المالية للربح) إلى الريع الناتج عن إعادة الإنتاج والإنتاج الإعلامي.
الصراعات والنضالات التي أشرنا لها،في الحال، بين قوسين، هذا الوسيط الذي نلح عليه، تشكل اليوم القلب النابض للرأسمال. يمكن للديمقراطية ـ ويجب عليها ـ أن تدمر الريع المطلق من أجل الوصول إلى القوة والشدة الضرورية لتطوير نضالات ضد الريع النسبي. بعد ما مثل الريع المطلق الوجه الأصيل والعنيف لانطلاق الرأسمال، أصبح اليوم ممثلا للاستغلال الرأسمالي الذي يعيش في أعلى مستوى من التطور: إنه وجه استغلال الأغلب والأعم. أن نضع في التناقض العلاقة بين القيادة والأغلب الأعم ـ إلى أن ينفجر هذا التناقض ـ هذا إذن هو الطريق الذي يجب اتباعه. بادعائنا أنه لا جدلية (دياليكتيك) قادرة على حل المشكل، ووحدها الديمقراطية يمكنها اليوم تحقيق ذلك، شرط أن تصبح مطلقة، أي أن يتم فيها الاعتراف بضرورة كل واحد منا بالنسبة للآخرين لأنه مساو في، من خلال وبفضيله المعظم الأعم.
المقال سبق نشره في المجلة الفرنسية المحكمة Actuel marx سنة 2012وهو للفيلسوف الإيطالي طوني نيكري ،منظر الألوية الحمراء في السبعينيان من القرن الماضي التي أدى عنها عشر سنوات سجنا قبل أن يصدر في حقه عفوا تحت ضغط المنظمات الحقوقية والأحزاب اليسارية والمثقفين الديمقراطيين ، وهو اليوم يشغل أستاذ للفلسفة في جامعة باريس 8،حيت يدرس الفلسفة ،وهو ناشط سياسي في إطار الحركات الاجتماعية الجديدة ومنظر لها .
الديمقراطية في مواجهة الريع :
بقلم طوني نيكري
ترجمة جمال الدين حبيب
كلنا يعرف ما هو الريع أو على الأقل يعرف صاحب ريع ما. كل واحد منا نجده قد أمعن النظر، ولو لمرة في حياته، في وجه مالك الشقة التي يكتريها. من الممكن أن نحسد أو نكره هذا الرجل، في كل الحالات، يستوجب اعتباره كالذي يكسب مالا دون داع لأن يعمل. نقصد "بالنظام القديم" تلك الفترة التي كانت فيها قوانين الريع ذات قيمة لا حدود لها. يعتبر الرجعيون، على طريقة بيرك أو هيجل، هذه القوانين كقوانين طبيعية ويثنون عليها؛ في حين يمتعض منها الثوريون أتباع روسو وإصلاحيو عصر الأنوار ومؤسسو حقوق الإنسان. ويعتقد الليبراليون الانجليز والفلاسفة الكانطيون بأن الحرية لا يمكن أن تقوم ولا أن تتطور انطلاقا من استغلال ثروة متأتية من ميراث ما، وأن الثروة "اللائقة" ينبغي لها أن تتأسس على العمل. أما بالنسبة لمنظري "ثروة الأمم"، مبتكري الاقتصاد السياسي، فقد شكل غموضهم وازدواجيتهم ثقلا في التاريخ : فمن جهة، كانوا يؤكدون فعلا على أن الثروة الرأسمالية يجب أن تنشأ ضدا على الريع (وحقيقة علم الاقتصاد كانت تقوم في تحقيق هذا المنحى)؛ ومن جهة أخرى، كانوا لا يخفون (حتى وإن كانوا بالمقابل يخفون ذلك على قرائهم) كون التطور الرأسمالي لم يكن ليوجد ولا ليُقلع بهذه القوة، لو لم يفعل ذلك انطلاقا من تملك أصيل وعنيف. تاريخيا، كان هذا هو ما وقع بالفعل: امتلاك ما هو عام، الأراضي والعمل في فترة التسوير(التسييج).
هذا إذن هو الريع المطلق: تجميع أو تراكم متأصل وعنيف لكنه ضروري، وهو ما وجب إخفاءه لأنه كان كريها ومُقززا: عبودي(استعبادي) ضال، فظيع وشنيع في طرقه وأساليبه...
طبعا، حسب مؤسسي الاقتصاد السياسي، يعيش الريع المطلق بارتباط مع احتكار الملكية الخاصة للأرض، في السيرورات العادية واليومية للاستمتاع بالريع، لكن بشكل تابع كليا للأشكال الأخرى لإنتاج الثروة (وهذا عموما ما قاله الاقتصاديون ـ لأنهم كانوا يرغبون فيه من دون شك، لكن كذلك لأنهم كانوا يعانون من غموضه وازدواجيته).
كذلك، بالنسبة لسميث، تعمل المنافسة على إلغاء كل ريع في القطاعات الاقتصادية الأخرى، أي أنها تحول دون كل حالات الاحتكار وتجاوز السلطة. في الحقيقة، لم يصبح الريع مهما بالفعل، إلا عندما بدأ يمثل أول استعمال بين الرأسماليين: ربح زائد مرتبط بقدرة مقاول أو آخر على التجديد و/أو على انتهاز الفرص الأكثر ربحا للسوق.
أصبح الريع النسبي أو المتغير أحد الأشكال التي تظهر من خلالها القيمة المضافة الناتجة عن العمل، تلك التي تنشأ انطلاقا من فارق إنتاجية الأراضي المحروثة بالنسبة لتلك التي لم يتم حرثها.
لقد ذهب ريكاردو مثلا، إلى حد نفي وجود الريع المطلق وذلك بالتأكيد على الدينامية الوحيدة للريع التفاضلي النسبي. فمن خلال هذا الأخير، يحرص الاقتصادي على أن ينحاز إلى حزب الإصلاحيين وأن يجد نوعا من القبول والاستساغة لحججهم. في الواقع، وبعيدا عن التطور الرأسمالي البسيط، كان يبحث ـ ودون إخفاء ذلك ـ عن إضفاء المشروعية على الامتلاك الأصلي الذي يعود للتراكم الأولي.
متى هاجم كينز، في منتصف الطريق بين مؤسسي الاقتصاد السياسي واليوم، أي ما يناهز قرنا من الزمن، متى هاجم الريع متمنيا "القتل الرحيم لصاحب الريع"، والذي كان بإمكانه أن يعتقد بأن بداية القرن الواحد والعشرين ستتميز من جديد بالنقاش حول الريع وبالثأثيرات السياسية على مركزيته؟ أو بالتحميس الإيديولوجي والرجعي لانحرافاته الأكثر كآبة؟
عندما نقوم بدراسة السلطة المؤسسة والديمقراطية داخل المجال في سيرورات تأسيس النظام القانوني المعاصر، فإننا لا نستطيع أن لا نلاحظ بأن هذه السلطة تمس دائما علاقات الملكية التي تخص النظام الرأسمالي بوجهة نظر نقدية، إنها تهاجم علاقات الملكية الناشئة سلفا؛ وهي تعبر عن الرغبة في أنماط جديدة ذات طابع اجتماعي للملكية، وذلك من زاوية النظر الإصلاحية و/أو الثورية التي تجعلها ممكنة. وتجدر الإشارة إلى أنه مع شدة عزم هذه السلطة المؤسسة، ليس مفاجئا أن يكون العلم القانوني البورجوازي قد حاول على طول فترة الحداثة، أن يعزل المفهوم وأن ينتزعه من حقيقة (مادية) العلاقات الاجتماعية التي تنشأ فيها، علاقات اجتماعية كانت في وقت سابق علاقات ملكية، لكنها أصبحت في وقت لاحق، علاقات الامتلاك الرأسمالي عموما. لقد انتهت السلطة المؤسسة من حيث ابتدأ القانون. يمثل تيرميدور الفترة التي تحققت فيها السلطة المؤسسة، وذلك وبشكل مفارق، من أجل نفيها وإلغائها على التو بعد ذلك.
مع ذلك، كان العلم الدستوري يعرف أيضا بأن إبطال الثأثير هذا، كان باطلا ولا طائل تحته. حتى إن كان من الممكن عزل السلطة المؤسسة شكليا، كان رجال القانون والسياسيون مُرغمين على الأخذ بعين الاعتبار تحليل "المقوم المادي" (أي دراسة العلاقات الاجتماعية ودراسة تعقيداتها وتنافرها و منافستها الشديدة والتي توجد في قاعدة "البنية الشكلية" أو القانونية (الشرعية)) كأساس لعملهم الخاص. إنها إذن حالة غريبة تظهر هنا. تشكل علاقات الملكية المشكل الذي انطلاقا منه تتضح تمردات السلطة المؤسسة. بخلاف ذلك، تعتبر السلطة المؤسسة علاقات الملكية كشيء مقدس وثابث. طبعا، في الشكلية المخادعة للقضاء المعاصر، لا يمكن للسلطة المؤسسة أن تنتعش إلا "كسلطة استثنائية"، أي دون أي مضمون لا يكون مرتبطا بشكل مباشر بقوة القرار. مع ذلك، في كل مرة تظهر فيها السلطة المؤسسة في ماديتها وتستعيد موضوع الملكية، فإنها على العكس من ذلك، تضطلع بزمن التأسيس، وتبادر فيه بالاقتراح كعنصر تجديد قانوني وتحرر اجتماعي، وتفسح فيه المجال لإمكانية إرساء المؤسسات الديمقراطية. هذا الأوان بالذات، هو الذي اصطدمت فيه السلطة المؤسسة ب"الريع المطلق"، وتكونت ـ كوظيفة ديمقراطية ـ في زمنية الـتأسيس المادي الطويلة، وناضلت من داخل الأشكال القانونية "للريع التفاضلي" النسبي.
اليوم، لا توجد الديمقراطية فقط أمام وضد الريع المطلق، العقاري: عليها أن تواجه خاصة الريع المالي، الرأسمال الذي يعبئه المال بصفة شمولية كأداة أساسية لتدبير الكثرة. إن استعمال المال هو الشكل الحالي للقيادة الرأسمالية. وواضح أن المال والتمويل لازال مرتبط بالريع، ويعيد قصيدته العنيفة، تماما كما يعيد غموض وتناقضات أي شكل من الاستغلال الرأسمالي. سيكون من الغباوة بمكان، الاعتقاد بأن الرأسمال المالي لا يمثل في حد ذاته لحظة تنافر وتضاد، لأنه يحتوي في داخله على هذا العنصر الضروري الذي هو قوة العمل، والذي يعتبر منتجا للرأسمال وتهديدا له في نفس الآن.
يتعين الشكل الذي من خلاله يضم الرأسمال المالي التنافر والتضاد، حسب ثوابث نوعية قطعا: تجريد قوي بالنسبة للكيفية الجسدية للعمل؛ التأسيس الرأسمالي لعالم مُقَََنع و/أو عالم حاجيات فاسدة وضالة؛ جماعة استهلاكية هائلة. استغلال كل شيء: لأنه عندما تصبح قوة العمل كثرة ويصبح العمل تعاونيا وإدراكيا، فإن الرأسمال لا يقتصر على استغلال العامل لوحده، بل يصادر كل ما ينتجه هذا العامل نفسه. يظهر الريع المالي إذن كاستغلال للكل ولكل شيء.
إذن، ريع مطلق أم ريع نسبي؟ ريع قائم على حركة تملك جذري، أو بخلاف ذلك، على حركة نزع الملكية واستغلال معمم، أي متمفصل على كل القيمة المُنتَجة، على التقويم الشامل؟ سيجيب بدون شك وبدون خجل، اقتصادي معاصر، ما بعد صناعي، وذلك باستحضار أسطورة المقاول (شامبتريان) وبالتأكيد على أن حركية الرأسمالية وقوتها التدميرية المبدعة، تنشأ عن المقاول المتحفز بالبحث عن ربح زائد، وعن وضع انتقالي للاحتكار، وعن الريع الذي ينتج عن ذلك، الخلاصة: لا ريع دون ابتكار ودون تجديد. فليكن.
نعلم أن الابتكار يكون جماعيا ومشتركا وأن الريع وحقوق الملكية المعنوية لا يمكن إلا أن تحاصر تنقل وإنتاج المعرفة والعلم، وبالتالي حركية التجديد نفسها. نعلم كذلك بأن هدف الرأسمال ليس هو الوصول إلى ريع انتقالي مرتبط بالتجديد ولكن إلى ريع دائم ومستمر، قائم على مصادرة قوة الخلق والابتكار الجماعيين. هكذا تتفكك الحدود بين الريع والربح، وتحدث تجديدات الرأسمال الحقيقية الوحيدة في مجال حقوق الملكية المعنوية وفي مجال المالية، من أجل تقوية سلطة الريع وقوة إغرائه للثروة...
والحال أنه عندما يظهر الربح نفسه كريع (بحيث يجد نفسه على الفور قد تحول إلى هذا الشكل، في السوق الإجمالي)، فإن الريع المالي والسيولة المالية أي "عالم الريع" يصبح فورا مخترقا ومشروطا بمقاومات الكثرة وكفاحاتها. ومع ذلك، عندما يظهر لنا عالم الريع التفاضلي(النسبي) هنا، فإنه الريع نفسه من يُظهر بعد الآن وجها آخر. إنه يتواجه بالفعل مع الأغلب الأعم، لأنه يبرز بالتحديد في العام أو في ما هو عام، في تعميم الاستغلال. توجد بلدان كالصين مثلا، حيث تكون هذه السيرورات أكثر صفاء من العلاقات الاجتماعية بين التمركز السياسي للقيادة من جهة، وبُعد (ولفور) للأجر الاجتماعي ولتوزيع الثروة بصفة عامة. من جهة أخرى، والتي تظهر على التو كعلاقات كفاح ونضال: حتى الأجر اكتسب الطابع العام للريع المالي. بالمقابل، عندما ننظر إلى ما يحدث في بلدان حيث التمفصل المعقد بين الريع والربح قذر وفاحش، كالولايات المتحدة وأوروبا (أو كذلك في كل بلدان العالم الثالث السابق، حيث لازالت توجد "أوليغارشيات" الريع)، يجب هنا أيضا أن نلاحظ إلى أي حد يعتبر الكفاح من أجل إعادة امتلاك الريع شديدا في تكوين علاقات إعادة إنتاج المجتمع.
في أي مكان إذن، نجد أن صمود الريع قوي جدا. وفي أي مكان تصل مقاومة الريع من جديد إلى اقتراح توليف بين الريع المطلق وحالة الإستثناء، توليف رأينا بأنه يخترق جينيالوجيا الريع نفسه. يظهر إذن الريع من جديد، بما في ذلك في مجال القانون، ويتعارض بقوة مع السيرورات الديمقراطية ومع حقوق الإنسان. إنها اللحظة التي يختار فيها أن يتأكد كضمان للربح، وذلك بقلب مجرى تاريخ التطور الرأسمالي.
والحال أنه بمجرد ما يمتص الريع ـ أو على الأقل يُدمج ـ ديناميات الربح، هل توجد في هذا السياق، إمكانية تحديد كفاح حول "الأجر التفاضلي" (الأجر المتغير)؟ هل توجد بالتالي إمكانية لوصف عُدة كفاحية من داخل الريع وضد هذا الأخير؟ بعبارة أخرى، على ماذا يرتكز الكفاح حول الدخل؟ وما هو "أجر الريع"؟ ينبغي لأي جواب على هذه الأسئلة، وقبل كل شيء، أن يُدرج ثانية موضوع أو باعث فعل: في اللحظة التي يخادع فيها الريع معظم الإنتاج الاجتماعي، فبين أية مواضيع ينبني الكفاح؟ موضوع أو باعث ما: قوة مضادة، قائمة على الكثرة، لها القدرة على تدمير صلابة السلطة الحيوية الممارسة باسم الريع المطلق.
عندئذ، ومرة أخرى أيضا، كيف يمكن أن ينشأ باعث كهذا؟ هذا ما لا يمكن ارتقابه من دون شك إلا إذا استثمرنا مجالا من الكفاح، مؤسس، مهيكَل، موجه من طرف الريع النسبي التفاضلي. الضرورة الأولى، هي بالتحديد إنشاء باعث أو موضوع انطلاقا من الكفاح، وفي قلب الكفاح. يصبح الريع المطلق نسبيا عندما يخضع لديمقراطية الكفاح. يجب خوض كفاح قادر على إنشاء هذا الموضوع. توحيد غير الثابثين والمقصيين، إعادة تركيب العمل المادي والعمل المعنوي ـ الأول من خلال تعقد التمفصلات التي تلعب في نفس الوقت، في المعمل وفي الحاضرة، الثاني في الكثافة الراهنة لتركيبه (سانتر دي كال للجامعات، خدمات صناعية لمصالح التواصل، مراكز بحث للخدمات الاجتماعية، الصحية والتربوية...). هذا ما تتكون منه هذه الكثرة القادرة اليوم على تمثيل موضوع سياسي يمكنه، وبكل حيوية، أن يدخل إلى ساحة الريع الذي تقوده المالية، وأن يُطلق أو يخوض كفاحا حول الدخل بنفس القوة التي كان يناضل بها قديما، عندما كان يخوض مع العمال في المعامل الفوردية نضالات حول الأجر. في هذا السياق يمكن التفكير في "أجر للريع". لنتخذ الحذر مع ذلك. لا يتعلق الأمر، بأي حال من الأحوال، بأن نعتقد بأن المقادير الأجرية المقتلعة من الريع (المطلق قبل كل شيء، ثم النسبي) يمكنها أن تحدد، بشكل أو بآخر، أزمة قيادة الرأسمالية. إن النضالات حول الدخل (بالتدقيق: النضالات من أجل "دخل المواطنة" هي قبل كل شيء، الوسيلة لإنشاء موضوع سياسي، قوة سياسية، وسيلة بلا غاية؟ نعم، من دون شك، لأن سعيها إلى غاية ليس ـ ولا يمكن أن يكون ـ هو سعي السلطة إلى الغزو؛ كما لا يمكن أن يكون أيضا تحولا مستمرا لميكانيزمات إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي: لا يمكن في هذا النمط من الكفاح إلا بناء الحقيقة والاعتراف بقوة تعرف كيف تتحرك بفاعلية في ساحة الدخل. انطلاقا من هذا المنعطف، من هذه الممارسة المكونة للكفاح ـ من أجل تحديد والاعتراف بباعث (موضوع) سياسي ـ سيكون ممكنا بعد ذلك أن نرتقب بأن كفاحا ما لا يُختزل في (التفاوض حول) تحويل أجر مواطنة، بل أن يبحث، خلافا لذلك، عن إعادة امتلاك العام وعن تدبيره الديمقراطي.
لا يوجد هناك صراع طبقي من دون مكان يمكن أن ينضوي إليه. اليوم، هذا المكان هو المنطقة العاصمية. في ما مضى كان المعمل، في أيامنا هذه، لا زال المعمل جزئيا ـ لكن أن يقول المرء "المعمل" فذلك يعني، من الآن فصاعدا، شيئا آخر. المعمل اليوم هو البلد الأصلي، بعلاقاته الانتاجية، إجراءاته في البحث، مواقعه في الإنتاج، المباشرة وغير المباشرة، تدفقاته التنقلية التواصلية، محاوره في النقل، حدوده، أزماته في الإنتاج، انحصارات حركيته، أشكاله المختلفة في العمل، إلخ.
البلد الأصلي: معمل عصري جدا بحيث وحدها المكانة الراجحة للعمل الادراكي في سيرورات التقويم، بإمكانها جعله ممكنا، ومع ذلك، معمل قديم جدا بحيث يكون فيه المهاجرون والنساء، المؤقتون والشباب، الغير المؤهلون والفائقو الأهلية، "المحميون" (المؤَمَنون) القدماء والمقصيون الجدد، كلهم مُدرجون في العمل كالعبيد ـ لأنه بعد الآن يستثمر الاستغلال كل أشكال الحياة.
البلاد الأصلية: معمل ما قبل صناعي يلعب على اختلافات القوانين والأنظمة والثقافة وذلك بإبداء نسق كامل من أشكال واشتراطات الاستغلال، ويقوم على سبيل المثال بفوارق النوع والعرق وفوارق طبقية؛ ومع ذلك، معمل ما بعد صناعي، حيث تشكل هذه الفوارق، العام والمشترك لهذا التشبيك، هذا الخليط المبدع المستمر، هذا الالتقاء للثقافات ولأشكال الحياة.
عام ومشترك يمكنه اليوم، داخل الموطن الأصلي، أن يعترف به وأن تسلط عليه كل الأضواء. يخفي الريع ويغطي هذا المشترك: إنه يبنيه انطلاقا من الأدوار الأكثر ارتفاعا لناطحات السحاب، يسيطر عليه في أسواق الأسهم (الأسواق المساهمة)، يبوح به لأولئك الذين يخفونه لمنتجيه الحقيقيين. على العكس من ذلك، يمكن لديمقراطية مطذلقة للنضال من أجل الشفافية، أن تدلنا على طريق تحرر المشترك والأغلب، لأن الأمر يتعلق بالتصدي لكل تدفقات الريع ـ من الريع العقاري (من خلال التمفصلات المالية للربح) إلى الريع الناتج عن إعادة الإنتاج والإنتاج الإعلامي.
الصراعات والنضالات التي أشرنا لها،في الحال، بين قوسين، هذا الوسيط الذي نلح عليه، تشكل اليوم القلب النابض للرأسمال. يمكن للديمقراطية ـ ويجب عليها ـ أن تدمر الريع المطلق من أجل الوصول إلى القوة والشدة الضرورية لتطوير نضالات ضد الريع النسبي. بعد ما مثل الريع المطلق الوجه الأصيل والعنيف لانطلاق الرأسمال، أصبح اليوم ممثلا للاستغلال الرأسمالي الذي يعيش في أعلى مستوى من التطور: إنه وجه استغلال الأغلب والأعم. أن نضع في التناقض العلاقة بين القيادة والأغلب الأعم ـ إلى أن ينفجر هذا التناقض ـ هذا إذن هو الطريق الذي يجب اتباعه. بادعائنا أنه لا جدلية (دياليكتيك) قادرة على حل المشكل، ووحدها الديمقراطية يمكنها اليوم تحقيق ذلك، شرط أن تصبح مطلقة، أي أن يتم فيها الاعتراف بضرورة كل واحد منا بالنسبة للآخرين لأنه مساو في، من خلال وبفضيله المعظم الأعم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق