جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

"كيف الطويير طار وما عاد للاوكار"الرفيق محمد فكري

 مسيرة الزغبي المنحوس ـ 44 ـ

"كيف الطويير طار وما عاد للاوكار"
*/*
كان يسير في ساحة السجن المركزي بالقنيطرة بصحبة طائره الصغير الذي اختار، مسقرا ومقاما له، شعر رأسه الذي تركه كثيفا وفوضوي دون تسريح، شبيها بشعر الهيبيين، يبقى طائره فوق رأسه، يسير معه أنى سار لا يتحرك ولا يبالي بالذي يجري أمامه، وهو أيضا يحرص، أشد الحرص، أن لا يزعجه، أحبا بعضهما البعض، وصار الكل يناديه بالطويير.
لا يعلم الزغبي من أين أتى هذا الطائر، ولا كيف ساقته الأقدار ليصبح أنيسا ورفيقا لرشيد في زنزانته، لقد ترك عالم الحرية والطيران في الفضاء الواسع، واختار أن يسجن في زنزانة، مصمما أن لا يفارق رشيد، كأنه يقول له إنك لست وحدك فأنا أنيسك.
لا زال الزغبي يتصور رشيد نزهري في ساحة السجن المركزي، كأنه يراه الآن، يخرج رشيد من زنزانته بألف واحد، طائره الصغير فوق شعره، يلقي تحية الصباح على من صادفه، يتمشى في ساحة للالة شافية ومعه طائره. كان جسمه نحيفا، ربما بسبب عدم اهتمامه بالأكل وإدمان التدخين، مثل طائره يكفيه القليل.
غاب الطائرالصغير فجأة في أحد الأيام كيف تم هذا؟، هل مل حياة الأسر وقرر أن يذهب ليعيش حريته مع إخوته وعشيرته، أو مات فجأة بين يدي صديقه الحميم، رشيد نزهري.
فجأة ظهرت في زنزانة رفيقنا رشيد، حمامة مزركشة اللون، صارت بدورها لا تفارقه، تسير معه أين ما سار داخل أسوار السجن، وتنام بالقرب من رأسه في زنزانته فوق الجدار الصغير، الذي يفصل مكان قضاء الحاجة عن السدة الأسمنتية التي ينام فوقها ساكن الزنزانة الضيقة المساحة طولا وعرضا، والذي هو عبارة عن ثقب صغير يغلق بحجر أو قنينة زجاجية مليئة بالماء، درءا لخروج "الطوبة" التي تسكن هي أيضا مع ساكني الزنازن، وتستطيب المقام معهم، وإن أحست في يوم ما، أنهم قطعوا عنها رزقها ولم يعودوا يزودونها بفتات الطعام، تتمرد وتزيل الحجر أو القنينة الزجاجية أو أية وسيلة شبيهة بهما، وإن لم تفلح في هذا، تحدث ثقبا جديدا في أرضية الزنزانة تخرج منه ولسان حالها يردد "للي عندو باب واحد الله يسدو عليه".
حمامة رشيد التي تبقى معه، تتبعه لأي مكان لا تفارقه ولو لحظة
كان المعتقلون السياسيون يعقدون الكثير من التجمعات لمناقشة ما يتعلق بتسيير أمور حياتهم اليومية، أو إذا جد جديد ما يستلزم النقاش واتخاذ موقف منه، وبين المعتقلين كانت تتصارع الكثير من الأفكار، ولكل رأيه مما يجعل بعض التجمعات تطول لساعات، والبعض منها لأيام، حمامة الرفيق رشيد كانت تبقى معه في هذه التجمعات، ما بقي هو حاضرا بها لا تفارقه ولا يزعجها أصوات المتدخلين في النقاش التي ترتفع وتيرتها أحيانا، بل تبقى صامدة ولا تبالي بأي شخص آخر غير الرفيق رشيد تبقى معه حتى يدخل زنزانته للنوم، تستقر فوق الجدار القصير الذي يفصل ما يسمى المرحاض، وتحرص حين تريد التخلص من فضلاتها أن تقوم بهذا في اتجاه ثقب المرحاض، كي لا يتسخ الفراش أو أرضية الزنزانة.
كان الطائر الصغير يختار شعر رأسه الكثيف والفوضوي للاستقرار، أما الحمامة فقد اختارت كتفه مستقرا لها.
رشيد أحبته الطيور وجاءت عنده لسجنه وشاركته زنزانته، ولم تختره عبثا، وإنما لطيبوبته ونبله وصدقه ووفائه.
رشيد دائم الابتسامة، مرح ينثر الفرح في أي مكان حل به، صادق وصدوق، تسأله عن حاله فيقول لك "كونت دوديو"، ويزيد عليها "وهو يجي باه ودارو في المقلا قلاه وكلاه" هذه الألغاز لم يكن يفهمها غيره.
رشيد صديق الجميع محبوبا من الكل، ومن رفاقه أكثر، كان المرحوم عبد السلام المودن يناديه بالطوييك.
كان رشيد في السجن المركزي يبلسم الجراح، يرفع من المعنويات، يزرع بذور الأمل والتفاؤل، ويواجه ضغط السجن والسجان بالسخرية والإيمان بأن الغد لا بد أن يكون أفضل وأجمل..
بقي رشيد مخلصا ووفيا لمبادئه صادقا مع نفسه حتى عندما ولج مهنة المحاماة التي فيها ما فيها، وعليها ما عليها، أخلص لقيم المهنة ونبلها.
رشيد، ربما هو المحامي الوحيد الذي يُعرض عليه ملفا ما ولا يقبله قبل أن يدرسه من كل جوانبه، وإن لاحظ أن هناك شكوك تحوم حوله، يعيده لصاحبه ويصارحه بأن ملفه خاسر.
رشيد، هو المحامي الوحيد الذي يذهب للمحكمة ممتطيا دراجة نارية إشتراها قبل أن يلج مهنة المحاماة، وهي من النوع الذي انقرض شكله ونوعه، حين يذهب الزغبي ليبحث عنه في المقاهي التي يلجها، تكون تلك الدراجة هي علامة وجوده.
"كيف الطويير طار وما عاد للاوكار" طار الرفيق الطيب الخلوق رشيد نزهري، طار لعالم لا رجعة منه، طار ليحضن والدته أم خدوج والتي كانت تعزه كثيرا، لم ترد مفارقته والابتعاد عنه فاستدعه ليلتحق بها في عالم الخلود.
رشيد حبيبنا ورفيقنا الودود، "كيف الطويير طار وما عاد للاوكار" رشيد بكيناه وتألمنا لفراقه وتضاعف حزننا وألمنا لأننا لم نستطع توديعه الوداع اللائق به، بسبب هذا الوباء اللعين الذي فتك به وحرمنا منه ومن ابتسامته.
وداعا يا أعز رفيق وأعز صديق وأعز أخ. فطيلة ما يزيد عن أربعين سنة، لم يتذكر الزغبي أنه في يوم ما أو لحظة ما، سمع رشيد ينطق بكلمة سوء في حق أحد، تختلف معه في الرأي يجادلك ويبقى مختلفا معك، ولكن لا يقطع صلته بك.
نبكيك رفيقنا كما لم نبكي أحدا قبلك، لأنك خُطفت من بيننا، غدر بك الوباء اللعين الذي لا زال يفتك بالعشرات، بل المئات من أبناء الوطن، ولا يظهر في الأفق أن لهذا الفتك نهاية.
نم قرير العين أيها الرشيد العزيز، إن ذهب الجسد، فستبقى الروح محلقة بيننا، وتبقى ذكراك الطيبة حاضرة دوما. لن ننساك وسنبقى على العهد سائرون وعلى الجمر قابضون ولذكراك الطيبة حافظون، يا أيها المدثر بالمحبة والوفاء يا رشيد الصدق والطيبوبة والكرم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *