سيد خميس: مثقف مصري موسوعي وماركسي قومي وأول من أثار الاهتمام بشعر العامية
في ذكرى رحيله السابعة:القاهرة ـ ‘القدس العربي’ ـ من محمود قرني:
في هذا الشهر تمر الذكرى السادسة لرحيل الكاتب والمثقف الكبير سيد خميس عن حياتنا الثقافية اثر صراع طويل مع المرض الشعبي للمصريين، اعني تليف الكبد، الذي قضى به من قبله آلاف من المصريين، وأظن أن جعبة البلهارسيا تحوي الكثير الذي لم تفصح عنه بعد، رغم ان سيد خميس كان دائم التحذير لكل أصدقائه من مرض العصر المصري، ومع ذلك كان هو نفسه قد وقع في فخه، بتجاهل كل التعليمات التي صدرت اليه من اطبائه، وكأنه كان يريد أن يقول للحياة: ‘اذهبي الى حيث لا رجعة’، رغم ما كان يخلقه من بهجة وحضور اينما حل.وناقدنا الراحل ليس واحدا من العابرين الذين يمكن المرور على ذكراهم مرورا عابرا دون انتباه، بل هو واحد من اهم المثقفين المصريين منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الان، بل كان واحدا من المبرزين فيها، وقد اضاع من اجل معتقداته الشيء الكثير، فلم يخسر املاكه فقط عندما باعها للإنفاق على رفاقه من الشعراء والمثقفين، بل قدم ما هو اكثر من ذلك، وظل حتى رحيله لا يملك الا رصيدا ليس كبيرا من الكتب المهمة مثل القصص الديني بين التراث والتاريخ والشعر العامي في مصر ووجوه وأقفية وهو عبارة عن مقالات كتبها خميس في فترات مختلفة من حياته لا سيما في فترة التسعينيات. هذا رغم ان الاثر الباقي من الراحل يتجاوز ما قدمه في كتبه، حيث ظل واحدا من النماذج الفريدة الدالة على الثقافة الرفيعة والمتابعة الدقيقة لكل ما يصدر، ولم يكن ليتجاهل اصغر الكتاب اذا ما أهداه عملا جديدا، بل كان يفاجئنا جميعا بآراء شديدة التقدم والاستنارة حتى أمام أكثر الأشكال الإبداعية طليعية، كما بدا من موقفه من قصيدة النثر، هذا الموقف الذي فاجأنا بشكل كبير، لا سيما وان اهتمام سيد خميس بشعر العامية وأساطينها وغنائيتها وايقاعاتها المفرطة، كان من المتصور ان يخلق منه كاهنا ومحتكرا لأوزان الخليل ولايقاعية العامية الساحرة. على العكس تماما، كان تفاعل سيد خميس يجعله اكثر تقدما من كبار شعرائنا على امتداد العالم العربي بما في ذلك مصر، ولم يكن موقفا انشائيا وتقريرياً بل كان موقفا مبنيا على اسس وقواعد نظرية تعكس ثقافة واسعة وفهما عميقا لحركة الشعر العربي منذ مطالعه وحتى لحظتنا الراهنة. وقد كانت مشاركات سيد خميس بمقالات سجالية وخلافية في مختلف الصحف والدوريات، تثير العديد من المعارك بل كثيرا ما اثارت العديد من المعارك التي بدا منها القدرة اللوذعية لخميس في مساجلة اصدقائه ومحاوريه، وبقيت مشكلة العمل السياسي الذي اعتنقه سيد خميس منذ نهاية الخمسينيات سببا مباشرا في انصرافه عن الكتابة، واعتقاده بالتغيير بشكل جازم كان يرتكن الى انه سيكون يوما ما في صفوف السلطة التي يمكنها التغيير وقتما تشاء، غير ان واقع الحال تغير كثيرا بعد الضربات المتلاحقة التي تلقتها التنظيمات الشيوعية بمختلف تياراتها منذ عام 1959 وحتى عام 1964، ثم بعد ذلك بهزيمة 1967 التي مثلت هزيمة نهائية للمشروع القومي العربي كله.وقد عقدت ورشة الزيتون الابداعية ، إبان رحيله، ندوة موسعة شارك فيها عدد من المثقفين لتأبين سيد خميس، وهي الندوة التي قدمها وادارها الشاعر شعبان يوسف، وقد نشرت وقائعها كاملة جريدة ‘القاهرة’ التي كان يكتب فيها الراحل سيد خميس زاوية اسبوعية بعنوان ‘وصل ما انقطع’، وهي الجريدة التي احتضنته في سنواته الاخيرة وخاض منها عديدا من المعارك لمصالح وزارة الثقافة، وهي المعارك التي جلبت عليه عديدا من الانتقادات التي كانت تستنكف ـ في جملتها ـ موقفه المؤازر للمؤسسة في الوقت الذي كانت متهمة فيه بتحقيق اقصى درجات الفساد. جمل سيد خميس يرى الناقد ابراهيم فتحي مؤكدا ان سيد خميس هو احد اصدقاء يمكن ان يطلق عليهم اصدقاء العمر، وذكر انه التقى سيد خميس في ايار (مايو) 1964 بعد ان خرج من المعتقل، وكان اول حديث بينهما عن شعر العامية، الذي كان يمثل الاهتمام الحقيقي لسيد خميس آنذاك. يقول ابراهيم فتحي: لم نكن نعرف الكثير عن شعر العامية في هذا الوقت ولم يصلنا منه داخل المعتقل الا قصيدة صلاح جاهين التي كانت بمثابة تحية لنا، (يقصد قصيدة ‘غنوة برمهات’) التي يقول فيها جاهين: يا ساكني الصفيح افتحوا صاحبكم الغايب رجع صحصحوا الدنيا كدب ف كدب وانتوا بصحيح.ويضيف ابراهيم فتحي: انه كان يعجب بالرؤية الماركسية لسيد خميس لا سيما بعد ان قام بتدريس الماركسية للشـــــعراء والكتاب عبر كتاب ‘الماركسية وعلم اللغـــة’ لستالين الذي ذهب فيه الى ان اللغـة بوصفها نظاما نحويا ومجمــــوعة من المفردات تنتقل من المجتمع الرأسمالي الى الاشتراكي دون تغيير لان اللغة ليست ظاهرة طبقيــــة، بينما كان سيد خميس يرى ان الظواهر الاجتماعية بطبيعة الحال طبقية، واللغة ككل الظواهر طبقية فـستالين ـ حسب هذا النظر ـ مخطئ تماما فهناك فارق بين اللغة كقواعد جامدة واللغة المستخدمة واستعمالاتها وطرق الكلام المقنن.ويضيف ابراهيم فتحي: ان سر اعجابي بسيد خميس ليس فقط تبحره في الماركسية ولكن لانه كان يقرأ الماركسية من واقع خبرته الذاتية، فهي بالنسبة له ليست محفوظات، وفي هذه الفترة كانت الماركسية مطروحة للنقاش كنظرية سياسية وكمنهج للأدب والفن وكان سيد خميس جزءا حيا في هذا النقاش، يسعى للاجابة عن الاسئلة الصعبة، فكانت يساريته قومية والجانب الطبقي دائما في كتاباته يتعلق بالحركة الوطنية والتعاون بين الفئات الشعبية وقوى الشعب العامل، كما ارتبط الجانب الطبقي لديه بالفلاحين بشكل خاص، ففي فترة الستينيات كانت المفاهيم والمصطلحات غير واضحة والمناهج غير محددة ولم تبتذل الماركسية كما تم ابتذالها في هذه الفترة.ولم ينس ابراهيم فتحي ان يشير الى قصة كتبها الكاتب الفذ محمد حافظ رجب تتناول حياة سيد خميس وتقول عنه انه يسير وخلفه جمل يحمل على ظهره حمولة ضخمة من الكتب في اشارة الى ثقافة سيد خميس العميقة والمتعددة والشاملة. واحد من زعماء النهضةاما الكاتب والناقد والمحلل السياسي نبيل عبد الفتاح فيرى ان اهتمام سيد خميس انصرف الى منطقة فريدة ومهمة هي جانب التراث الاسلامي بمعناه المصري اي بهوامشه التي اغفلها المتن، وكانت معرفة سيد خميس في هذا الجانب ذات طابع موسوعي وهي جزء من ميراث النهضة المصرية الحديثة، فالجماعة الثقافية المصرية سواء بفرعها الديني او فرعها العلماني اتسم تكوينها الثقافي بالموسوعية والرغبة الشديدة في توظيف المعارف العلمية الحديثة وخاصة العلوم الانسانية.ويضيف عبد الفتاح: ‘كان سيد خميس صانع مودات ومنتج بهجة ويمتلك عمقا شديدا وقدرة على فهم الحالة الانسانية واستيعابها، وهو الذاكرة الحية لتطوير (الجماعة الثقافية المصرية)’ وهي جماعة لم يتم التأريخ لها منذ عام 1952 حتى الان. ايضا تحدث الحقوقي امير سالم الذي شبه سيد خميس بـشيخ الحارة بالنسبة للمثقفين والسياسيين بفضل موسوعيته، كذلك تحدث محمد هاشم مدير ‘دار ميريت للنشر’ عن الجانب الانساني في الراحل، كما دعا التشكيلي وجيه وهبة متضامنا مع طارق سيد خميس نجل الراحل بأهمية عمل كتاب عنه، والمقالات التي كتبها.القصص الديني ومنى طلبةاما الناقدة الدكتورة منى طلبة فترى أن خميس ليس كاتبا متخصصا في تاريخ الاديان ولا في التفسير وقد سبقته كتابات اخرى عن القصص الديني في التراثين العربي والغربي، لكنه في هذا الكتاب يهتم باظهار البعد الدلالي للكلمة وعلاقتها باللغات السامية الارامية ـ البابلية ـ العبرية، واظهار الصلات بين هذه الكلمات من خلال الاساطير التي استخدمتها وما حيك حولها من قصص ديني سابق على النص القرآني.وتضيف منى طلبة ان سيد خميس اتبع المنهج التاريخي ولم يقتصر على الناحية الفنية بل ذهب الى المصادر الاولى الاساسية وبحث عن قصص الانبياء في الجزيرة العربية سواء المعروفين من التوراة او الانجيل او الانبياء والمتنبئين في الجزيرة العربية وورد ذكرهم ايام العرب ومنهم من عاصر عهد الرسول محمد. وتحدث الكتاب ايضا عن الاحناف الذين وصلوا الى درجة النبوة قبل البعثة المحمدية مثل عبد الله وعثمان بن الحويرث، بالاضافة الى الانبياء الذين ذكروا في القرآن الكريم وايضا في حكايات العرب وقصصهم مثل هود وصالح وقبائل عاد وتمود. وترصد الدكتورة منى طلبة استخدام سيد خميس لمنهج تحليل الخطاب والتفريق بين مفهوم التاريخ ومفهوم الدين وكيف استخدم التاريخ والتوثيق، في حين ان النص القرآني يقدم ما اسماه الوجه الروحاني للتاريخ الانساني وايضا اوضح الفرق بين مفهوم الاساطير ومفهوم القصص. وتضيف طلبة: اهتم المؤلف اهتماما بالغا بعلوم الحفريات الحديثة فتتبع الاكتشافات الخاصة على سبيل المثال بـ ‘إرم ذات العماد’، كما استخدم المنهج الانثروبولوجي لتفسير معنى الطواف الدائري حول الكعبة ورمزيته.وتضيف طلبة: ‘ان الكتاب تضمن نظريات فنية في التفسير فتتبع سيد خميس استخدام الزمن في النص القرآني مثلما فعل في (سورة يوسف) فهناك تنكير للزمن في علاقة يوسف بفرعون في حين هناك تحديد للزمن فيما يتعلق بالتنظيم الاجتماعي الذي تكفل به يوسف لانقاذ مصر. كما خصص المؤلف فصلين اولهما لعرض وجهة نظره في كتاب حياة محمد للراهبة الانكليزية كارين ارمسترونغ الذي صدر عام 1992 وثانيهما عن كتاب (عرائس المجالس) للثعالبي’. واختتمت منى طلبة حديثها عن سيد خميس قائلة: ‘هذا ما عبر عنه سيد خميس بدقة شديدة فامتلك موهبة في الكتابة شديدة التشويق بقدرته على الربط بين الاشياء بحيث يرى القارئ ان ما سبق يصب في اطار ديني ووعي انساني بضرورة وجود المقدس والتوجه المستمر نحو الخالق.’
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق