جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

القاصة السورية "غادة اليوسف".. من نماذج الأدب المقاوم / حسين سرمك حسن

 

ملف: المرأة والمجتمع .. الطموحات والقابليات

القاصة السورية "غادة اليوسف".. من نماذج الأدب المقاوم / حسين سرمك حسن

في اللقاء التاريخي الذي جمع بين الروائيين والنقاد العرب والروائيين والنقاد الفرنسيين والذي عقد بمبادرة من معهد العالم العربي في باريس في آذار من عام 1988، تحدّث الروائي الفرنسي

" آلان روب غرييه " صاحب نظرية الرواية الجديدة عن فهمه للإلتزام بلعب لغوي ودلالي يثير الحيرة عن الماوراء، ومهمة الرواية التي لا أشعر بها، ومهرجان المجازات في رواية "الغيرة"، وعدم القدرة على الإلتزام بقضايا سياسية .. إلخ . فرد عليه المبدع الكبير " حنا مينة " قائلا :

(إنني أحترم السيّد آلان روب غرييه وأقرؤه . لكني وجدت في كلامه شيئا من التناقض لعله يكون ناتجا عن الترجمة . فهو مرة يقف ضد الإلتزام، ومرة يقول إنه لا يرفض الإلتزام . وهو يقول أيضا إن من شأن الأدب أن يطرح أسئلته على العالم . وهذا صحيح . فأي عمل أدبي وأي رواية لا يطرحان التساؤلات لا تكون لهما أية قيمة فنية . لقد حمل السيد آلان روب غرييه على الواقعية وقال إن هناك كتّاب واقع وليس كتّاب واقعية . وأنا أقول الواقعية شيء كبير في حياة الرواية .، ليس في الزمن القديم فقط وإنما في الوقت الحاضر أيضا . لكن لدي هنا ملاحظة : لقد سئل بابلو نيرودا مرة : لماذا لا تكتب عن الزهور ؟ فأجاب : أنظروا إلى الدماء في شوارع الشيلي . ونحن الذين نعيش قضايا ساخنة ولاهبة لا نستطيع إلا أن نكتب عنها . نحن لا نستطيع إلا أن نقول للذين يريدون أن نكتب عن ترف الفن : انظروا الدماء في شوارع الأراضي العربية المحتلة في فلسطين . إن هذه المواضيع تفرض ذاتها علينا، وهي تحتاج إلى الواقعية الخلّاقة التي يمكن من خلالها أن تقول الرواية أشياء كثيرة) (1) .

ولعل واحدا من نماذج الترف الفني الروائي الذي أشار إليه حنا مينة يتمثل في رواية غريه "غيرة" أو مهرجان المجازات كما وصفها صاحبها . عن هذا المنهج في كتابة الرواية وهذه الرواية تحديدا يقول الروائي العراقي الراحل "مهدي عيسى الصقر " :

  (آلان روب غرييه لا يهتم بالإنسان إلا قليلا في أعماله . القصة يجب أن تقف على قدميها بعيدا عن هذه الأمور حتى لو كانت بالطريقة التقليدية أو أي شكل آخر، إذ يجب أن تشد القاريء، وأن يكون فيها حس إنساني وإقناع بصرف النظر عمّا إذا كانت واقعية أو خيالية أو أسطورية . وبالنسبة لي أعتبر الحس الإنساني أهم من كلّ شيء على عكس جماعة " الرواية الحديثة " الذين لا يعنون فيه . إذ أن العملية قائمة عندهم على اللعب بالكلمات، والبناء كله كلمات . والمؤسف أن بعض الشباب بدأوا يكتبون بهذه الطريقة بعد أن سوّغها لهم بعض النقاد . فمثلا رواية " الغيرة " لألن روب غرييه، يتحدث الكاتب فيها عن أشجار الموز وعددها وعدد صفوفها وحجمها وغيرها من الأمور، بينما يمر على الأفارقة الجالسين مرور الكرام . وينطبق هذا الأمر على القصة أيضا) (2) .

المشكلة تكمن في هذا الإنبهار – وهو جزء من حالة إنبهار مرضية للمواطن العربي بـ " الآخر" – بأطروحات "غرييه" بين الكثير من كتاب القصة العرب خصوصا من الشباب . والمصيبة أن هذا الإنبهار الصاخب حصل ولم تترجم لغرييه اية رواية آنذاك . تُرجم فقط كتابه التنظيري " من أجل رواية جديدة " !! . صرنا لا نعلم أين القصة وكيف تكتب .. أسهم في ذلك أطروحتان مربكتان هما: النص المفتوح الذي لم نعد، في ظلّه ن نعرف رأس الحكاية من ذيلها، و" شعرنة " القصّة التي أفقدت القصة " لسانها " الأصلي .

أستدعي كل ذلك وأنا أتناول النصوص القصصية للقاصة " غادة اليوسف " في مجموعاتها القصصية الثلاث التي راجعتها، وهي – حسب تواريخ إصدارها - :

-في العالم السفلي – 2006 .

-على نار هادئة – 2007 .

-أنين القاع – 2009 .

وكلها صدرت عن دار الينابيع في دمشق .

في نصوص غادة لا تلمس المعنى الحقيقي للإلتزام الذي صار مذئوما مدحورا الآن حسب، ولكن توسيعا لمفهوم الموقف المقاوم في الأدب . بالنسبة لغادة لا حياة للقصة من دون أن يكون الإنسان حاضرا في مركزها الملتهب . ولا معنى لحكاية لا ترتكز على عذابات الإنسان المقهور الذي يمسخ وجوده لحظة بعد أخرى وبلا رحمة . وهي ترى أن وحشا مفزعا يحاول التهام أو هو يلتهم وجود الإنسان فعليا ويحط من كرامته، وأن مواجهة التأثيرات الأخطبوطية لهذا الوحش والتي طالت كل شيء ينبغي أن يتم بكل الوسائل مهما بدت في الظاهر بسيطة ولاغائية . يرى الكثير من النقاد العرب أن القصاصين – والمبدعين عموما – قد تحولوا من فاعلين في الحياة إلى مفعول بهم في الواقع العربي . فبعد أن كانت قصيدة واحدة من الجواهري تكفي لانطلاق تظاهرة عارمة تندد بالطغاة حدّ الاشتباك بقوات السلطة وسقوط شهداء احبة، لم يعد يحضر أماسي الشعر سوى الشعراء أنفسهم . وقل الشيء نفسه عن القصة والرواية . وفي الملتقى ذاته اشار الروائي الفرنسي (ديدييه ديكوان) إلى أن الروائيين ليسوا هم الذين يغيّرون المجتمع اليوم، ولو قليلا، بل إن المجتمع هو الذي يغيّر الروائيين ؛ الذي يتغير هو وظيفة الروائيين وشخصيتهم . وقدم رقمين غريبين هما أحد عشر مليون مواطن فرنسي يشاهد حلقة من البرامج التلفزيونية، مقابل خمسين ألف قاريء لأفضل الكتب الفرنسية !! وقد خاطب الروائيين العرب قائلا : أنا أعتقد أنكم في العالم العربي مازلتم قادرين، دون أيما خجل، على لفظ كلمة " رواية " وأن تسمّوا أنفسكم روائيين، وأنه في حضارة السمعي – البصري التي هي حضارتنا، بات ينبغي أن يُلصق باسم الروائي لقب روائي – كاتب سيناريو، روائي / سينمائي، أو كما يقال اليوم روائي متلفز أو روائي فيديو (3) . يبدو أننا كلنا في محنة انحدار دور الأدب . ولكن لهذا حديث آخر .      

# الهمّ المحلي :

على الأرض التي تحيا عليها غادة أطنان من الهموم التي يزداد ثقلها على كتفي الإنسان حدّ الإنسحاق الذي يوصل إلى الرغبة الخلاصية اليائسة في التخلص من هذه الأعباء ومن العبء الأصلي الثقيل الذي يُسمى " الحياة " . والمصيبة أن هذا القهر الاجتماعي لا يستثني أحدا في المجتمع حتى الأطفال الذين يصفهم مجتمعنا المتدين المنافق بأنهم " أحباب الله " أو أنهم " ملائكته على الأرض " . يا إلهي، ألا توجد لدينا استثناءات في عملية طحن أوصال الجمال التي نقوم بها بلا هوادة كل يوم ؟! . تحتل " الطفولة المغدورة " كما أسميها موقعا مركزيا في إبداع غادة . تتكرر معالجة إنسحاق الطفولة ومسخ براءة تفاصيلها وتلويث بياض روحها الشفيف في الكثير من النصوص لعل في صدارتها قصة (المنديل) التي عدّها الأستاذ الناقد (يوسف سامي اليوسف)، وبدقة لا تعرف في حق النقد لومة لائم، في مقدمته لمجموعة غادة (في العالم السفلي) (من أجود القصص، ولئن كتبت غادة اليوسف عشر قصص بهذا المستوى فإنها تضاهي يوسف إدريس الذي لم يبزه كاتب عربي حتى الآن – ص 8) .

وقد يكون هذا الموقف دليلا على ما كررته كثيرا عن أخدوعة أطروحة (الناقد الموضوعي الفولاذي) الذي لا يأتيه " باطل " العامل الذاتي لا من ورائه ولا من خلفه . والأمر يتطلب بحثا معمقا يعيد الإعتبار للعامل الذاتي . فـ (الذاتية حال في الموضوعية . فالمعرفة في صميمها إنما هي علاقة بين ذات وموضوع , المخاطب فيها إنما هو حال في المتكلم , فإذا ما اكتملت معرفة الذات كان ذلك إيذانا بمعرفة الآخر في الذات، ومن ثم ستظل الموضوعية الحقة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية . ولما كان الأمر كذلك إذ يستحيل أمر الموضوعية المطلقة للإنسان , فأحسب أن الأمر واجب عليّ هنا بأن اعلق الحكم (أن أضع العالم بين قوسين) مهما كان تصوري لموضوعية تدرك حتمية الذاتية، تلك الموضوعية التي تغيب عن منظري جمهرة من المدارس التي استندت إلى وهمها في رحلة اصطناعها لمفاهيمها , بتقليدها للعلوم الطبيعية متناسين أنه لا وجه للقياس بين قطعة الحديد والإنسان , او حتى كلب بافلوف أو فأر تورنديك , بل وقرد كوفكا او كوهلر . وقد رأينا كيف أن نظرية تعلّم تنطلق من الكلب اختلفت نتائجها وقوانينها عن نظرية تعلم أخرى انتقلت من القرد , آنئذ أحسب أن القارئ سيعضد معنا رأي (اميرسون) إذ يرى أن ما في مخ العالم آنئذ , إنما هو ذاته ما في مخ  الكلب (أو الفار أو القرد , او أي سياق آخر غير الإنسان بما هو إنسان) . ترى أنستبدل الذي هو أدنى , بالذي هو خير؟ (4) .

تنطبق أطروحة جدل الذاتي والموضوعي على القاصة نفسها . فحين تتعاطف الآنسة (الباحثة الاجتماعية) مع الطفلة " حنين " التي أشبعها المدير الطاغية قهرا وإذلالا وتأخذها إلى غرفتها وتتبسط معها يدور بينهما الحوار التالي :

(حنين : آنثة (آنسة) أنت حلوة كتير .. آنثة أنا بحبك .. شو إسمك آنثة ؟

وانفلت سيل اسئلة لا يتوقف .. سألتني عن كل شيء :

-إنت أمّت (أمّك) ماتت شي ؟

-أجل ..

-وأبوت تمان (أبوك كمان) مات ؟

-وأبي أيضا ..

-يعني أنت مثلي ؟

-أجل ولكن أنا أعتني بنفسي وأغسل راسي وأسرّح شعري دائما .. أريدك أن تكوني مثلي إن كنت حقا تحبينني – ص 104 و105).

قبلها نعرف أن حنين الطفلة المستوحدة والمذلّة هي يتيمة مات أبوها ورحلت أمها إلى (الحارة البعيدة) . ومع تصاعد تعاطف الراوية الآنسة مع الطفلة التي كانت دموعها تسحّ من زاويتي عينيها تصف القاصة انفعالها الماحق :

(وتوضّأت يدي بحرارة دمع حارق، وصل بلله الواخز إلى قاع الروح، حين مسحته بمنديلي الذي يمسح دموع الكون – لو استطاع – دون أن أجد من يمسح دمعي . مسحت رأسها المشعث بيدي، وأنا أعرف ما مهنى أن تمسح يد حانية رأسك في لحظة يتم – ص 102) .

وفي موقع آخر وحين تتجرأ حنين على الوقوف أمام الآنسات والتلاميذ لغناء أغنية عن الأم رغم لثغتها الكلامية المعوّقة تصف الراوية تعاطفها مع حنين :

(لا أدري هل تقمصتها أم لبستني .. تداخلت معها وخضت معها معركة مع كل تاريخ القهر والإقصاء والعنف العبي والتسلّط .. معركة انتزاع الاعتراف بإنسانية مهدورة .. معركة خضتها باستماتة من يرعبه الفشل . فشلي .. فشل حنين – ص 111) .

ما أبغيه من هذه المداخلة التمهيدية هو أن (المؤلف لا يموت) على العكس من الأطروحة البنيوية الفجّة والهشّة هذه . سيجد القاريء غادة اليوسف حاضرة دائما على مسرح نصوصها كلّها . والتعاطف المفرط الذي تسرد به حكاياتها لا يمكن أن يصدر عن مؤلف (ميّت) أبدا . أضف إلى ذلك أن الغالبية المطلقة من نصوصها في مجموعاتها الثلاث تسرد بضمير المتكلم (الأنا) . تغني حنين أغنية بالعامية تستغيث فيها وبها بحرقة بأمها الغائبة .. وهو نص أرشحه ليلحن كواحدة من أجمل أغاني الطفولة والأمومة المركبة . في النهاية تظفر الراوية بنتيجة مراهنتها على البذرة الخيرة الكامنة في أعماقنا .. فيتعاطف معها الجميع ويصفقون لها وهم يبكون .. حتى من كانوا يسخرون منها ويقدّم لها زميلها (اللدود) عبد الصمد الذي كان يركلها في الصف والساحة منديلا لتجفف به دموعها .

في قصة (وحشة) تعالج غادة، من جديد، موضوعة اليتم الأثيرة إلى نفسها، موضوعة تستولي على أغلب مساحة تعاطيها مع فاجعة " الطفولة المغدورة " . فالآنسة تطلب من تلاميذها أن يرسموا ما يشاؤون . ومن سمات غادة الأسلوبية هو أنها تمرّر بين طيات حكاياتها – حتى لو كانت عن الطفولة البريئة – وخزات انتقادية لحالنا الراهن كمجتمع من الراشدين العتاة.. وخزات تغور عميقا في لحم الظواهر الاجتماعية المرضية .. وخزات تأتي منسابة تحت أغطية الفن السردي الباهرة :

(رسموا بيكومونات .. سلاحف النينجا .. سيارات .. طائرات ومدافع .. سيوف .. دكاكين .. كراسي .. شعرا .. فستانا .. طاولة .. حين كنا صغارا كنّا نرسم تفاحة .. عروسا ... أزهارا .. بيوتا ونهرا أزرقا ينسكب من السماء إلى الأرض – ص 115) .

ودائما تجد هذه المقارنة متسيدة على مسارات وقائع قصص الكاتبة : المقارنة بين زمن ماض آسر وباذخ العطايا ولّى إلى غير رجعة .. وزمن حاضر فاجع قاتم سلبنا كل معالم إنسانيتنا المشتبهة اصلا . طفلة واحدة رسمت زهرة صغيرة جدا كالنملة وسط فراغ  الصفحة . وهي ترفض أن تكبّرها ولا تلوّنها رغم أوامر الآنسة . وبالمناسبة فإن اسم طفلة هذه القصة (حنين) أيضا . تأتي النهاية سوداء خانقة بعد أن تترك حنين الصف لتفرغ أمعاءها وتعود :

(-أرجو أن تخبري أباك كي يحضر غدا إلى المدرسة

-أبي صعقته الآلة عند السيّد مطاع .. من زمان

-وكيف هو الآن ؟

-مات ..

-ليرحمه الله .. إذن لتأتي أمّك

-أمّي؟؟ نادرا ما أراها .. تركت لي أطعمة وشغلات كثيرة ومصاري .. وغادرت مع السيد مطاع إلى مدينة الليل – ص 118) .

دقيقة هي غادة حتى في اختيار الأسماء .. فالسيد مُطاع ينبغي أن يُطاع .. فلا يكتفي بـ " قتل "  الأب حسب، بل يخطف الأم أيضا، ليترك " حنين " بلا أي مصدر للحنان .        

وليست قصة "المنديل" هي التي تعبّر عن الأداء الفني العالي والإنشغال بالهم الاجتماعي حسب، هناك – ولازلنا في إطار مجموعة (من العالم الأسفل) – نصوص أخرى شديدة الثراء في مقدمتها قصة "استعداد" بمعانيها الرهيبة : كيف تُمسخ إنسانية الطفل الصغير من أجل تنفيذ شكليات العمل المدرسي اليومي . ومن مميزات القاصة الأسلوبية هي حدّة الصورة وعنف الجملة الوصفية التي تعبر بها بدقة وقوة عن سلوك الشخصية المعنية المدان :

(ما إن زعقت صافرة المديرة حتى اكتسح حضورها الصارخ المدرسة بمن وما فيها، ساحقا الجدران والسقوف والنوافذ وممرات الطوابق العلوية ودورات المياه وآذان التلاميذ، مخترقا اللقيمات الأخيرة المتبقية من قضّوضات اللبنة والزعتر، كابحا القطرات الأخيرة في المثانات التي أدركها الصوت الحاد مسمّرا الخطوات الأخيرة لنهاية شوط العراك الطفولي، مفرّقا تشرذم الفتيات المتحلقات المتملقات حول المعلمة المناوبة، مصادرا من المشاكس (عبد الصمد أبو فكشة) – تكرر اسم عبد الصمد المشاكس في قصة "المنديل" – متعة الشركلة الأخيرة لتلاميذ القامات الضئيلة، مثلما فض نزاعا مفتعلا بين عصابة الرداء الأبيض وعصابة الكف الأسود سلاحها الفولارات التي سرعان ما توضّعت منعقدة حول أعناقهم – ص 75) . 

لكن لم كل هذه الهجمة العارمة لزعقة صافرة المديرة التي أربكت مجتمع الأطفال التلاميذ إلى هذا الحد، ربكة وضعتنا القاصة في قلبها منذ السطر الأول ؟ وهذه من سماتها الأسلوبية أيضا حيث تدخلنا غادة إلى مركز دائرة القصة الملتهب منذ أسطر استهلالها الأولى دون مقدمات مستفيضة تعطّل نسج الوشائج العاطفية بين المتلقي وحدث قصتها المركزي وانفعالات شخوصها المركزيين . ونفس السمة تقال عن بنية القصة الرشيقة التي تأتي بلا استطالات أو  ترهلات . المهم أن زعيق صافرة المديرة المنذر ونظراتها المنذرة بالويل والثبور والمتربصة بأي حركة تند عن الأطفال جاء لجعلهم يستعدون لتحية العلم . وهو إجراء تربوي يغرس شيئا من بذور الولاء والروح الوطنية في نفوس الصغار الغضة . لكن القاصة تخلق مفارقة مسمومة وموجعة حين تجعل المديرة المتشدّدة في أداء مراسيم رفع العلم وانشداد الأطفال الحديدي نحوه تتجاوز الحاجات الإنسانية لإحدى التلميذات وتصفعها وتدعوها لمواصلة ترديد النشيد الوطني فتمتثل الصغيرة مكرهة :

(ومع انهمار دمعتين كبيرتين على وجهها الطفل، منكّسة نظرات مستسلمة لخذلان البلل على سروالها رددت مع الجموع : مستعد دائما – ص 77) .

وما يفسد بعض النصوص أحيانا هو الروح النقدية التي تصلح للمقالة وليس للفن السردي . فكلما زادت جرعة الأفكار والآيديولوجيا كلما قلّت الجرعة الفنية السردية وأضعفت روحها الشعرية مع تحفّظي على الإفراط في استعارة لغة الشعر في القصة الذي سأعالجه لاحقا :

(وانكسرت شمس ذلك الصباح، فتشظّت كسفا رمادية سربلت النفوس الأباة، ولكن تحية العلم أنجزت، وردّد الشعار بدقة ونظام – ص 77) .

خاتمة القصة هذه مضافة وذات روح انتقادية مقالية وكان من الممكن أن تنتهي القصة متألقة بالمفارقة المؤلمة عند حدّ (مستسلمة لخذلان البلل على سروالها) هنا تصل الرسالة موحية جدا بالإنقهار الذي سيجهض هدف الولاء الأكبر الذي تأسس على انجراح الكرامة الشخصية، وستتيح لنا كمتلقين فرصة استجابة وتأويل أوسع .

في قصة (في الحديقة) تقترب القاصة من موضوعة الطفولة المغدورة من مقترب آخر تعرض فيه جانب من عملية الغدر تلك . وأقول مغدورة لأن الغدران يعني الخيانة ونقض العهد – راجع الجذر " غدر " في معجم المنجد مثلا . ولأن الطفل الأعزل لم تستوي قدراته العقلية والنفسية والجسدية على سوقها فإنه يوضع " أمانة " و" عهدا " بين أيدينا نحن الراشدين العتاة الذين نتشدق بروح المسؤولية وأداء الأمانة والشاة التي تنفق على ضفاف الفرات .. إلخ، نحن في الواقع، نغدر بالطفولة عندما لا نتعهدها بالرعاية المسؤولة الشريفة .. نغدر بها بوحشية حين نتركها تتلاعب بها رياح المهانة والإهمال والعوز والفقر . وفي قصة " في الحديقة " تنشر القاصة خزي الموقف الغادر الذي نقترفه بصورة غير مباشرة من خلال حديقة الحي التي بدأت تشهد غزاة جددا . وتدخلنا القاصة مسرح القصة مباشرة منذ الاستهلال :

(في حيّنا حديقة، لا ندري أية يد بيضاء من أيادي بلديتنا – وما أكثرها ! – قد أنشأتها، وكالعادة أسلمتها للنسيان . وعلى الرغم من أنها لا تحمل من مزايا الحدائق إلا ما تبقى من سور حديدي تصدّأ .. يواري هرمه بسياج من الأعشاب ... وبضع نخلات شمخن في غفلة من الإهمال والعطش – ص 89) .

والقاصة من الموالين حدّ النفس الأخير – قد يكون نوعا من التثبيت النفسي – fixation – للزمن الجميل الغابر .. مثلنا نحن جيل " أسمر يا أسمراني " اللذين كنا نعلق صور جيفارا على جدران غرفنا ونحمل صور نادية لطفي في جيوبنا .. لذلك تستثمر القاصة كل فرصة تسنح لعرض دفء وبهاء ما كان، وقسوة وخراب ما هو كائن :

(عشّاق، يلوذون بها بعيدا عن أعين الرقيب في أحيائهم البعيدة، وصبية ضاقت منازلهم بعصاب الفقر فلفظتهم خارجا، ليصبّوا ما ملأ أرواحهم الغضة سخطا على الكرة ... ومتقاعدون فاض عليهم الوقت فأغرقهم – ص 90) .

هكذا كانت الحديقة المتهالكة ملاذا لنفوس تواجه ظروفا ضاغطة .. متنفسا للتفريج عن الأرواح المكلومة .. فمن هم الغزاة الجدد – كما تصفهم القاصة – الذين بدأوا يستبيحونها ؟ . إنهم (يافعون، ومراهقون بزي موحد، يلقون محافظهم على الأرض ويفترشون ستراتهم المدرسية، ثم يسارعون فيتحلقون حول علبة السجائر وأوراق اللعب، يحتدمون وفي كل مرة أحسبهم سيتعاركون بعد الشتائم المقذعة – ص 90) .

والساردة ترصد حركة هؤلاء الصبيان وأفعالهم الطفولية النزقة من شباك بيتها في الطابق الثالث . والقاصة ترصد سلوكياتهم وتحللها نفسيا يالإشارة والتلميح وليس بالشرح والموعظة . في رصدها اليومي هذا تقدّم تصويرا دقيقا عن سيكولوجية المراهقين وهم يضعون أقدامهم الصغيرة على منحدر هاوية الجنوح الذي يبدأ بـ "الملل " .. الملل هو مفتاح أغلب الاضطرابات السلوكية التي تصيب المراهق وهو يعيش تفجّر طاقاته الجامح جسديا ونفسيا . تقول القاصة :

(بعد أن يجهزوا على الوقت المخصص للمدرسة، وعلى علبة السجائر التي يدخّنونها بمسرحية – محاولين انتزاع الإعتراف برجولة مباغتة، غير معترف بها، داهمتهم، فأربكتهم، وأرهقتهم في معركة لا يعرفون كيف يتدبّرون أسلحتها، متنوعة الساحات، تبدأ من مساحة أجسادهم، وتنتهي في شوارع المدينة متنقلة بين العيون المتهمة المتربصة، والألسن الناهرة الواعظة – يرحلون بتكاسل، ساحبين محافظهم المدرسية وما تحويه، كعبء لا لزوم له، يُجرّ على الأرض، أو يُلقى على ظهورهم بلا مبالاة، كمرافق ثقيل الظل، أو كمعاق ابتلى كلّ منهم بنقله في رحلة يومية سيزيفية الهدف – ص 91) .

هذا التصوير الرائع يحيلنا – وهذا ما كررته سابقا في أكثر من كتاب ودراسة – إلى ما أشار إليه " معلّم فيينا " من أن المبدعين هم أساتذته الأصلاء في فهم أسرار النفس البشرية . المبدع يلتقط صراعات النفس البشرية بحسّه المرهف وقدرته الفذّة على الغوص في مجاهيلها ويصوّرها كسلوك وليس من مهمته تفسيرها ووضعها في هيئة قواعد ونظريات وقوانين . هذا واجب علماء النفس الذين سيقعدون تلك الصور والظواهر السلوكية على أسس بحثية علمية . لكن غادة توسّع هذا الدور في نصوصها إلى ما أسميته بـ " الفسح السردية التأملية " الضرورية للفن الروائي اساسا، بل هي روح الرواية، وأقصد بها الوقفات غير الحوارية وغير الوصفية التي يتأمل فيها السارد حقائق الكون والحياة، وصراعات شخصياته، وتضارباتهم السلوكية ليطرح رؤيا أو فكرة فلسفية أو وجهة نظر نفسية مستترة بأستار الفن الباهرة . وقد أسس أهمية هذه الفسح أساطين الرواية أمثال ستندال وفلوبير وخصوصا مارسيل بروست في البحث عن الزمن الضائع . وتكون نقطة الإنطلاق لتأسيس تلك الرؤى واللمحات الفلسفية والنفسية التحليلية كلمة عابرة أو وقفة بسيطة أو حدث مبتذل . تتحدث القاصة عن جلستها في الطابق الثالث التي ترصد منها سلوكيات (الغزاة) المراهقين المضيّعين في الحديقة، فتوسع تداعيات أفكارها منطلقة من هذا المشهد اليومي إلى دائرة اجتماعية ونفسية سلوكية أوسع في تأثير " العلو في الإحاطة بالظواهر الاجتماعية سلبا أو إيجابا حسب الزاوية التي ينظر منها الفرد الراصد للحالة المطروحة، والصلات التي تنبني بين ذات الراصد والحالة والتي تثير فيه الإنفعال والحماسة والشعور بالمسؤولية . تقول القاصة بحكمة بليغة :

(أرقبهم [ = المراهقين في الحديقة ] بغضب وحسرة من نافذتي في الطابق الثالث، مدركة أن العلوّ في الإقامة والمقام يجنّب كثيرا من المخاطر، وهو يرى المشهد بكليّته، متمتعا بمزيّة الإحاطة بشمولية الرؤية، فيبصر اللوحة كاملة، ببعديها الزماني والمكاني، إلا إذا كان العلوّ لا يناسب ضعف البصر والبصيرة لمن يعتلي المقام، فعندئذ يعجز عن الإحاطة بالمشهد، ويضطر إلى التفرّج من بعيد، غير عابيء بما يجري، أو متجنبا إرهاق عينيه الكليلتين في فهم ما يحصل في الأسفل .

والطّامة إذا كان من أصحاب القرار، فإن قراراته تصدر مناسبة لتزاوج بعد المسافة مع ضعف البصر، كما يحصل بيننا وبين من يعتلون الشرفات العالية، يشيحون بأبصارهم، ويديرون ظهورهم لمشهدنا اليومي المستغيث.

أمّا إذا كان من ذوي الهمم العالية – على ندرتهم – ودبّت في وجدانه نخوة التواصل مع من على الأرض، فعليه أن يتحمل تبعات قد لا تُحمد عقباها، ليس أقلها الإحساس بالعجز والخيبة  – 91) .

وضمن هذه الرؤيا، وبعدها، ولأنها من " أصحاب الهمم العالية، تقرر الساردة أن تقتحم حلقة (الغزاة) المغلقة لعلها تصل إلى ما يمور في وجدانهم الهارب المنتحر، بعد أن هيّأت أذهاننا لحقيقة أن هؤلاء الصغار هم ضحية من ضحايا " بعد المسافة " الممزوج بضعف البصر والبصيرة . وبعد التحية المعروفة وردّها المتوجس من قبل الصغار، بدأت بـ " خطبة " تصفها هي نفسها بأنها وعظية الطابع، وتوقعت أنهم سيصفقون لها باستخفاف وينسحبون . لكن الصبية يبدأون بكشف ما يختزنونه من هموم في طيات نفوسهم الصغيرة . ومن خلال ما يفصحون عنه من معاناة تقوم القاصة بـ " تمرير " مواقفها الإنتقادية فتشهر سبابتها الحادة في وجه المجتمع القاسي والأرعن الذي يسحق أرواح هؤلاء الصبية بلا رحمة . إنه يغدر بهم وينقض العهود التي تعهد بها تجاه رعايتهم والحنو عليهم .. ويسهم في جريمة الغدر هذه – وهي جريمة كبرى في المفاهيم الإنسانية – الجميع حيث يبدو أن المجتمع الذي يخضع للقهر يبدأ بأكل ذاته ذاتها ويقرض مكوناته في نوع من العدوان المزاح – displaced aggression  " والمرتد على الذات . ولا يسلم من أذرع أخطبوط الخراب هذا أي شيء .. الأبوة التي هي الصورة الأولى للسلطة في المجتمع مخصيّة تلهث وراء " توفير العلف لنا " كما يقول أحد الصبية . ولا وقت لديها للعناية بالأولاد .. نفض اليد من الشعور بأهمية الشهادة العلمية التي كانت امتيازا اجتماعيا ولها هيبتها النفسية في الأيام الخوالي فصارت عبئا ومصدرا للتندر في الأيام الغبراء الراهنة، وصار العمل في مقصف ليلي حتى الصباح، كما يقول مراهق آخر، أفضل من العمل الرسمي الذي لا يشبع ولا يغني من جوع .. والمعلم المدير وهو الصورة الأصل لسلطة الأبوة الرحيمة يقوم بحلاقة غرّة أحد الفتيان فعاد يتستر على فضيحته خوفا من عيون الصبايا .. ولا المعلم ولا الآباء يلجأون إلى الحوار مع الأبناء " الحوار الذي فلقتمونا به – ص 95 " .

لا يوجد لديهم غير " التعيير " المهين والمقارنة المذلّة . ثم خراب القيم حيث صارت نظافة اليد سبّة بعد أن كانت شرفا . دروس ودروس غيور وغنية تقدمها القاصة على ألسنة الفتيان هؤلاء في جلسة الحوار والمكاشفة الهادئة والمؤلمة التي تجري بينها وبينهم وكأنها تقدّم لنا صورة عن رؤياها التأملية التي طرحتها قبل قليل عن " علّية " المسؤولية وبعد المسافة وضعف البصيرة . لقد نزلت هي صاحبة الهمّة العالية مدفوعة بشعورها العارم بالمسؤولية والغضب . فماذا كانت النتيجة ؟ كانت النتيجة مزيجا – كما توقعت – من الشعور الحارق بالخيبة والعجز . ومن عادة القاصة، وهذه سمة مضافة، هو أنها تعتصر المعضلة حتى ثمالتها . تقلّبها على وجوهها المختلفة ولا تتركها إلا بعد أن توغل في رسم أكثر الصور قتامة وتشاؤما لها . ففي اليوم التالي ستكون الساردة مكلّفة بإلقاء محاضرة عن " الهروب من المدرسة " – كأننا ناقصون همّ بعد الذي حصل – ولمن ؟ لصبية الحديقة (الغزاة الجدد) الذين ثبت أنهم ضحايا غزو خرابي شامل :

(حين دخلت الصف في اليوم التالي وقد كُلفت بمحاضرة عن " الهروب من المدرسة " انبعثت وجوه صبية الحديقة بين أكثر من أربعين زوجا من العيون الطفلية وقد غشاها ذبول الحصة الرابعة للدوام المسائي تحملق فيّ بحياد مستسلم .. وهم يحلمون بقيلولة رخيّة . " كيف سيكون عليه الحال في الحصّتين الباقيتين برفقة المدرّسة " ساجدة " ؟! وبرفقة صوتها الواني .. وجسدها المتثاقل المحشور بمعطفها الأسود الذي لم تخلعه منذ دخلت تلك المدرسة، وقد أنضبتها الثلاثون سنة من عمل تقاسمها بين المدرسة والبيت ؟! – ص 96) .

ويعبر اختيار القاصة لموضوع المحاضرة ذكاء ماكرا حيث طُرحت المحاضرة، في الحقيقة، في اليوم السابق . فقد طرح هؤلاء الصبية في حوارهم مع الساردة معضلة الهروب من المدرسة وناقشوها تفصيليا معبّرين عن وعي متقدم لا أستغربه أبدا . فمثلا عندما تضع القاصة حديثا انتقاديا طويلا على لسان أحد المراهقين وهو ينتقد درس التاريخ يقول فيه :

(وكلّه إلا دروس التاريخ .. (فهذه عنها سكتة) .. أنا ماذا يهمني من ملوك الطوائف والبويهيين والسلاجقة والحملات الصليبية على الوطن الذي كان عربيّا ؟! إي دون أن يحفّظونا بالغصب ما فعله هؤلاء الرمم اللذين صارت عظامهم مكاحل، نستطيع أن نحكي لهم حتى يشبعوا عن تاريخنا المشرّف، الذي نحياه والذي حمّلتمونا عبأه بجهودكم الكريمة . لدينا ملوك طوائف على كيف كيفك، ولدينا بويهيين وسلاجقة وزنادقة وبلاطقة، وهراطقة وفلاطقة .. قه قه قه .. وحملات صليبية معاصرة في فلسطين والعراق .. ولا نحلم كثيرا بولادة صلاح الدين – ص 93) .

وقد يعتقد بعض القرّاء أن القاصة قد وضعت حوارا ذا مضامين عالية على لسان مراهق من شخوصها .. قد يكون ذلك صحيحا جزئيا لكنني لم أفاجأ أبدا . إليكم ما كتبته في صحيفة " الرأي " العراقية قبل مدة قليلة :

(من منا لا يعرف المفكر الأمريكي الشهير "نعوم تشومسكي".. نعوم تشومسكي- ولكي نفرغ من هذا الأمر- هو صاحب نظرية "النحو التوليدي-generative grammer" الشهيرة في اللغة وأعتقد أن القراء العرب عرفوه أولا من خلال نظرياته في هذا المجال. لكن تشومسكي هو فيلسوف ومفكر سياسي أمريكي يهودي.. العجيب أن هذا اليهودي الأمريكي هو من المفكرين الأمريكان القلائل الذين يقفون علنا ضد إسرائيل وضد أمريكا .. أنا متعلق به وبأفكاره وبإنصافه.. لكن لن تصدقوا ما فعله به شابان فلسطينيان في الحوار الذي أجرته معه قناة الجزيرة وعرض يوم الجمعة الماضي.. كان يشرح أهمية حل الدولتين على أرض فلسطين. قال له الشاب الأول: أنت لا تميز بين الواقع والحق. تساند الواقع وتنسى الحق. هناك أتراك في ألمانيا وجزائريون في فرنسا هل تمنحونهم دولة إذا أرادوا أو امتلكوا القوة؟ ذنوبكم في طرد اليهود نحن دفعنا ثمنها. أما الشاب الثاني فقد قال له: ستون سنة مقاومة أشرف من دقيقة واحدة في ظل حل الدولتين لأن هذا تزوير للتأريخ وشرعنة لجريمة القاتل.. لن تتصوروا ما الذي حصل لهذا المفكر الكبير؟

لقد ارتبك.. واستمر يجيب على الأسئلة الكثيرة وكل إجاباته رد متشنج على الشابين اللذين طرحا أفكارهما بكل هدوء وبطريقة متحضرة وبتعبيرات بليغة.. والمشكلة أنه كان يرد على الأسئلة ونظراته مركزة على الشابين اللذين ينصح العرب من خلالهما بعدم تفويت الفرصة.. والله لدينا إمكانيات رهيبة.. مرحى لشباب العرب.. مرحى لشباب فلسطين الأنموذج.. وبعد ما كو مفكر كبير يبيع تمر على أهل البصرة.. الناس صحت..)

وعليه فلا أعتقد أن القاصة قد جعلت هذا المراهق ينطق بلسانها وتنسرب أفكارها على شفتيه بلا ضابط . ولعل من ضمن عملية الغدر التي نمارسها بلا تردد هو أننا نستهين بطاقات هؤلاء الصبية و " حكمتهم " التي جسدتها القاصة من خلال أحاديثهم . تلك الأحاديث البليغة في رؤيتها للخراب وإمساكها بمصادره الفاعلة والتي ظلت تلاحق الساردة في يقظتها وتستولي على ذهنها :

(أصوات صبية الحديقة تخدش واعيتي منذ الأمس ... جدران الصفّ الرمادية العارية، والمقاعد المتهرئة ترقص فيها قامات فتية محكوم عليها بالتقزّم، محافظ مرمية تحت الأقدام ترتطم بأحذية وحّدت لونها وحول وأتربة دروب متعبة خدّدها الإهمال وأنين الفقر المنسكب من كعوبها قذفتني خارج الصف .. وخارج المدرسة بعيدا .. بعيدا .. بضآلة وعجز صرصور محاصر – ص 96) .

ولعل وصف (صرصور محاصر) هو المفتاح المناسب الذي يفتح لنا أبواب الموضوعة الإشكالية الثانية التي تحتل مساحة كبرى من المنجز القصصي للقاصة " غادة اليوسف " وهي موضوعة " الإنسان المقهور " – والوصف الدقيق هذا مأخوذ من عنوان كتاب المحلل النفسي الدكتور " مصطفى حجازي " – الذي تفوق عذابات انمساخه حتى آلام ومعاناة حشرة كافكا . فهناك في " مسخ " كافكا يستيقظ بطله ليجد نفسه وقد انمسخ حشرة وعليه أن يتحمل، وبهدوء " " الوجود " الشائه الجديد بكل تبعاته .. لكن أبطال غادة اليوسف – وهذه كارثة كبرى – يحيون جحيم شهادتهم على الكيفية التي " يتحولون " فيها من بشر إلى صراصير محاصرة ..ولكن لهذا حديث طويل آخر .    

 عن صحيفة المثقف 

...........................

هوامش :

1و3-الإبداع الروائي اليوم – أعمال ومناقشات لقاء الروائيين العرب والفرنسيين آذار – مارس 1988 معهد العالم العربي – باريس – دار الحوار – سورية – 1994.

 2-الزاوية والمنظور – عبد الستار البيضاني – سلسلة الموسوعة الصغيرة – العدد 465 – بغداد – 1998.

4- التحليل النفسي , ماضيه ومستقبله – د. حسين عبد القادر ود. محمد أحمد النابلسي , سلسلة حوارات القرن جديد - دار الفكر - دمشق 2002.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *