الهند: البؤس وحده لا يصنع يسارا
الهند: البؤس وحده لا يصنع يسارا
يقف اليسار الهندي بثبات على الرغم من الجهود الحثيثة لإخراجه من المشهد السياسي، وفي إطار انتخابات البرلمان الخامس عشر التي تحدث هذه الأيام، ينتشر المرشحون الشيوعيون في جميع أنحاء البلاد لمحاولة جمع أصوات من قاعدة الناخبين الهندية الضخمة (ما يقرب من ٨٠٠ مليون ناخب، مع توقعات بمشاركة ٤٠٠ مليون على الأقل في العملية التصويتية). ويأتي أغلب هؤلاء الشيوعيون من ثلاثة أحزاب:
الأول هو الحزب الشيوعي الهندي وهو أقدم الثلاث، وكان قريبا من الإتحاد السوفييتي، وفقد الكثير من قوته مع انهيار الاتحاد السوفييتي.
والثاني، الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) وتم تأسيسه كنتيجة لانشقاق في الحزب الشيوعي الهندي، عندما شعر الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) أن الحزب الشيوعي الهندي كان مقربا من حزب المؤتمر ولا يرغب -في ذلك الوقت- لتطوير صراعات شاملة ذات طابع ثوري، وهو أكبر الأحزاب الشيوعية الهندية.
والثالث، الحزب الشيوعي الهندي (ماركسي – لينيني) – نشأ في الثمانينيات من رحم الحركة الماوية السرية. في ١٩٦٧، انشق أعضاء من الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) لمواصلة الكفاح المسلح، ولكن تم القضاء عليهم بشكل كبير من قبل أجهزة الدولة العدوانية. وبعد ١٥ سنة، قام جزء من الماويون بالظهور في العلن لإنشاء الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي-لينيني) والذي يقع في ولاية بيهار الهندية.
من سبعينيات القرن الماضي، كان الحزب الشيوعي الهندي والحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) جزء من جبهة اليسار، وهو تحالف سياسي وانتخابي يهدف إلى توحيد قواهم، ولكن ما زال الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي-لينيني) خارج التحالف. وظلت الأحزاب الثلاثة تنتقد من قبل الماويين الذين لا يزالون يعملون تحت الأرض، والذين يعملون وفقا لوجهة النظر القائلة بأن الأحزاب اليسارية تشكل عائقا أمام قيادتهم للقطب اليساري. في بنغال الغربية فقط تم اغتيال ١٣٩ من كوادر جبهة اليسار من قبل الماويين وحلفائهم في الفترة ما بين مايو ٢٠١١ ويناير ٢٠١٤.
قام التكتل الحاكم بفعل أفضل ما في وسعه لطمس وجود الأحزاب الشيوعية من المشهد الوطني، والقتل هو التكتيك الأكثر شيوعا، ولكن يبدو أن الحيل الأكثر مكرا هي أيضا الأكثر فعالية، مثل شن حرب أيديولوجية فحواها عدم قابلية برنامج اليسار للتطبيق.
بالرغم من أن سياسات التحالف الحاكم في الهند مستمرة في صنع البؤس لا السعادة للجمهور، إلا أن تلك الحقيقة ليست وحدها كافية لترجيح كفة البديل اليساري، فالوعود التي تقدم في وسائل الإعلام بوفرة السلع وترويج نشوة الاستهلاك تخلق حالة محصنة لللتكتل الحاكم ضد نتيجة سياستهم التي أدت لوجود ٨٠٠ مليون هندي يعيشون في حرمان (وفقا لدراسة حديثة لماكينزي وشركاه).
البؤس وحده لا يصنع نموذج سياسي لمواجهة أسبابه. البؤس من الممكن أن يؤدي إلى العديد من الاتجاهات بما فيها أحضان القادة الشعبويين والذين يستخدمون البؤس لخدمة أجنداتهم الضيقة أو أحضان التشكيلات السياسية التي تبث الانقسام والخلاف (على أرضية التعصب الديني) وتلوم مجموعة من الفقراء على معاناة مجموعة أخرى من الفقراء. ولكن ليس البؤس هو ما حافظ على بقاء الحركة الشيوعية لكنها عدة عوامل أخرى:
أولها مجال غني بالصراعات الاجتماعية بدأ بالحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني ومن ثم سمح له بالازدهار –باستثناء بعض الأوقات مثل طوارئ عام ١٩٧٥-١٩٧٧- في عهد الاستقلال. وهذه المساحة من المجال السياسي العام لا تزال مفتوحة للعديد من الاتجاهات ويتم إثرائها بالتعددية السياسية، ولهذا السبب تؤمن الشيوعية الهندية –على عكس الماوية– بالتعددية السياسية.
ثانيا، تفضيل لمبدأ الاستقلال في تفسير الواقع الاجتماعي. انشق الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) عن الحزب الشيوعي الهندي جزئيا بسبب عدم رغبته في أن يعتمد على الاتحاد السوفييتي أو على قومية العالم الثالث لتقييم حالة العالم أو الواقع الهندي، فمن الضروري وجود نظرية ثورية قريبة من التكوين الفعلي للطبقات، ومستوى وعي الطبقات المختلفة. الحزب الشيوعي (الماركسي) استطاع تطوير نظرية خاصة به أسعفته وساعدته على البقاء بعد انتهاء مشروع العالم الثالث في الثمانينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي في ١٩٩١.
ثالثا، استمرار نضال اليسار باستخدام استراتيجيات وتكتيكات مبتكرة لدفع أجندته في زمن النيوليبرالية، في الوقت التي أصبحت فيه الأزمة الزراعية حادة، وأصبحت ممارسة السياسة أمر صعب بالنسبة للنقابات العمالية مع وجود سياسات صناعية تتميز بتفضيل سياسات مناطق التجارة الحرة، وما يسمى سياسات “السباق إلى القاع” التي تتبعها الحكومات لجذب الاستثمار بأي ثمن، مما يؤدي إلى أجور زهيدة، وظروف عمل قاسية ورقابة بيئية منعدمة على المصانع والشركات. وقدمت المنظمة الجماهيرية جمعية عموم الهنديات الديمقراطية التابعة للحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) الريادة في نظرية التنظيم العابرة للقطاعات، بمعنى أنها نظرية تأخذ في الاعتبار بجدية كل جوانب الصراع الاجتماعي (الطائفة والعائلة والدين على سبيل المثال) بدون افتراض أن هذه مشاكل كونية لكن مع ذلك تقوم بالحفاظ على روح التضامن.
وقال براكاش كارات الأمين العام للحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) قبل بضع سنوات موجها حديثه للحزب “يجب علينا التعامل مع مشكلات تلك القطاعات من الناس الأكثر تأثرا بسياسات النظام النيوليبرالي.” وما كان يقصده هو أنه يجب على الحزب الذهاب إلى غير المنظمين والعمل في الأحياء الفقيرة والاستجابة للاستغاثات والانضمام إلى النضالات. وبالفعل نشأت من رحم هذه النضالات في مختلف أنحاء البلاد جبهات القضاء على المفهوم المجتمعي لفكرة “المنبوذين” كما أنشئت منظمات الوحدة القبلية. قادة هذه النضالات هم من يقفون اليوم كمرشحو البرلمان تحت المطرقة والمنجل.
رابعا، قاتل اليسار من أجل خلق أجندة سياسات بديلة بعيدا عن السياسات النيوليبرالية المُجمَع عليها من قبل الأحزاب البرجوازية، فالخبرات الصعبة للحكم في كيرالا وبنغال الغربية علمت اليسار ما هو الممكن وما يجب أن يتم القتال من أجله. الأخطاء في الحكم والسياسات كانت بمثابة المدرسة للخطة البديلة الجديدة التي يقدمها المرشحون إلى الناس. أما مانيفستو الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) فهو الأكثر تقدمية على الساحة بلا منازع، بما فيها موقفه من القضايا الاجتماعية الهامة مثل وضع نهاية لعقوبة الإعدام ووقف تجريم العلاقات الجنسية المثلية وإطار من السياسات العامة يهدف لوقف العنف ضد المرأة.
اليسار الهندي ما زال مشروع غير مكتمل، ومازال يحارب للحفاظ على قواعده (في تريبورا وكيرالا وبنغال الغربية) في هذه الانتخابات، والتوسع لأماكن لم يتم فيها بعد تجميع النضالات الجماهيرية وتحويلها لقوة سياسية. يحارب أيضا اليسار لتطوير تقييمه الثوري للواقع الهندي المعقد وسريع التغير. ليست هذه أوقات سهلة لليسار، ولكن ما يقلل من صعوبتها هو العمل والجهود المخلصة للملايين من كوادر ومؤيدي جبهة اليسار الذين يريدون إنتاج عالم أفضل كثيرا من هذا الذي نعيش فيه.عن مدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق