منظمة الى الأمام * مضمون التحرر الاجتماعي في الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية
منظمة الى الأمام
مضمون التحرر الاجتماعي
في الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية
برزت في السنتين الأخيرتين، داخل المنظمة، في ظرف يتميز بتأثير اعتقالات خريف 1985، تساؤلات وطروحات حول مصير المنظمة وحول توجهاتها الأساسية المتعلقة بدور الطبقة العاملة فيالثورة المغربية. من ضمن هذه الطروحات رأي يعتبر أن المرحلة الحالية للنضال في المغرب، مرحلة نضالية ذات طابع وطني تخوضها جميع فئات الشعب ضد الإمبريالية والاستعمار الجديد، مرحلة يجب أن ترتكز على تطوير النضال الديمقراطي للجماهير وتجميع الجمهوريين بهدف الإطاحة بالنظام الملكي، وذلك بالخصوص عبر نشر وتوزيع جريدة ثورية موجهة للشعب ومرتكزة على تقاليده والإسلام. ويعني ذلك السكوت عن برنامجنا وأيديولوجيتنا الماركسية – اللينينية وكدا عن جريدتنا "إلى الأمام" والتخلي أيضا عن هدف التجذر وسط الطبقة العاملة لأن "العامل المغربي هو مغربي أولا ثم عامل ثانيا".
بعد عام من اعتقالات خريف 85، وفي الوقت الذي تبين أن منظمتنا استطاعت أن تصمد أمام هذه الضربات القاسية جدا وفي الوقت الذي تمكنت فيه من الحفاظ على تماسكها تنظيميا وسياسيا و إيديولوجيا، نتمنى أن يكون التشاؤم الضمني في هذا الرأي قد تم تجاوزه. ونريد في الصفحات التالية إعطاء وجهة نظرنا في هذه المسألة الجوهرية المتمثلة في إشكالية الوعي الطبقي والوعي الوطني عند الطبقة العاملة المغربية.
يجب الاعتراف أن هناك أسبابا موضوعية من شأنها أن تدفع، خصوصا في الخارج، إلى طرح مثل هذه الطروحات: أن أغلبية العمال المغاربة المهاجرين إلى أوربا الغربية منحدرون من البادية ولم يساهموا قط في النضالات الطبقية للطبقة العاملة في المغرب ويؤكدون هويتهم الطبقية في أوربا الغربية أساسا في نضالات الطبقة العاملة للبلد المضيف. وفي نفس الوقت، فإن شروط الهجرة والاستغلال المكثف الذي يتعرضون له والعنصرية المحيطة بهم، كل ذلك يجعلهم يتشبثون بهويتهم الوطنية، أحيانا في أشكالها الأكثر تجريدية والأكثر مباشرة في نفس الآن كالدين مثلا.
والحال أن منظمتنا كان لها الفضل التاريخي في أنها تميزت منذ نشأتها عن التصورات البرجوازية السائدة في الحركة التقدمية فيما يخص مسألتين أساسيتين: طبيعية السلطة الثورية ومفهوم الوطن المغربي.
فيما يتعلق بطبيعة السلطة الثورية، طرحنا المفهوم البروليتاري للديمقراطية المباشرة للمجالس الشعبة في مواجهة المفهوم البرجوازي للديمقراطية البرلمانية ووضحنا ذلك باستمرار في عدة نصوص (انظر مثلا نص "ديمقراطيتنا وديمقراطياتهم")، أما بالنسبة لمفهوم الوطن المغربي فقد واجهنا دائما بحزم كل شوفينية في القضية الصحراوية وبينا بكل انسجام موقع الكفاح التحرري الوطني المغربي في إطار كفاح التحرر العربي. لكننا لم نعمق ولم نطور بما فيه الكفاية تصورنا للوطن المغربي وتشكله، كما أننا لم نحلل بالدقة اللازمة أسس موقفنا حول القضية الصحراوية (مما أدى بعض التأرجحات الطفيفة في هذه القضية). كما أننا لم ننتقد بالوضوح اللازم التصور المثالي البرجوازي الصغير للأمة العربية السائدة في حركة التحرر العربية ولم نواجهه بتحليل ملموس مبني على المادية التاريخية، هذا التحليل الذي من شأنه أن يحدد المستويات الثلاث، الوطن المغربي، المغرب العربي – الأمازيغي، والأمة العربية، وذلك في إطار دينامية هذه المستويات الثلاث.
ولا شك أن عددا من المناضلين الطلبة في الخارج في استطاعتهم أن يلعبوا دورا هاما في دراسة هذا المفهوم والإشكالات المرتبطة به، وذلك بالاستفادة من بعض الاجتهادات الموجودة في نصوص المنظمة.
لكن يمكننا منذ الآن، ورغم النقص الكبير في هذا الميدان، أن نقدم أجوبة أولية على أطروحات الرأي المشار إليه أعلاه بالارتكاز على بعض المعطيات الأساسية حول الوضعية الملموسة للمجتمع المغربي.
1- الصراع الطبقي والكفاح الوطني:
يبين التحليل الملموس للطبقات وصراعها (أنظر "الصراع الطبقي في المغرب منذ الاستقلال" لمجدي مجيد) التناقض الأساسي في مجتمعنا، وأن "القوة المحركة للقوات المحركة"، هو التناقض ما بين مجموع الجماهير الكادحة والمضطهدة من جهة، والطبقات السائدة المشكلة من البرجوازية الكمبرادورية وملاكي الأراضي الكبار من جهة أخرى. أما ما اصطلح على تسميته "البرجوازية الوطنية"، فإنها تندمج، من موقع ثانوي، في بنية الرأسمالية التبعية السائدة في المغرب، بينما تشارك البرجوازية الصغرى العصرية حاليا، عبر أحزابها، في المؤسسات السياسية للطبقات السائدة. لذلك فإن الاستراتيجية الثورية الوحيدة الممكنة يجب أن ترتكز على مطامح الجماهير الكادحة، هذه المطامح التي لها طابع وطني وطبقي في نفس الآن.
لكن ما هي المطامح الوطنية للجماهير الكادحة؟ ما هي طبيعة "الوطن" الذي من شأنه أن يلبي مثل هذه المطامح؟
هل هو وطن كما تتصوره الطبقات المتوسطة الممثلة في الأحزاب السياسية، وطن مبني على الشوفينية والتوسعية والدمقراطية البرجوازية المزعومة التي أبانت كل تجارب العالم الثالث عبثيتها؟
هل هو وطن كما تتصوره الفئات الدنيا من البرجوازية الصغرى ويرتكز على تصور مثالي برجوازي صغير للأمة العربية أو الأمة الإسلامية؟
لقد أبان هذين التصورين عن فشلهما.
إن الوطن الذي تطمح إليه الجماهير الكادحة هو وطن ينبني على التحرر من الاضطهاد في شكليه الاستعماري والاستعماري الجديد أيضا من الاضطهاد الذي عانت منه الجماهير الكادحة خلال قرون – وفي المقام الأول الجماهير الفلاحية كجماعات قروية عربية أمازيغية تشكل القاعدة الأساسية للوطن المغربي – هذا الاضطهاد الذي مارسته البرجوازية المخزنية والإقطاع ويمارسه عليهم حاليا ورثتهم: البرجوازية الكمبرادورية وملاكي الأراضي الكبار.
إن الوطنالذي يلبي مطامح الجماهير لا يمكن أن يكون جمهورية شعبوية على غرار الجماهيرية الليبية التي تظهر هشاشتها الذاتية أكثر فأكثر. كما لا يمكن أن تكون جمهورية إسلامية على شاكلة الجمهورية الإيرانية حيث لم تتغير هياكل اضطهاد الجماهير العمالية والفلاحية وحيث حافظت برجوازية البازار على مصالحها.
وعلى عكس من ذلك، إن الوطن المتحرر من الاضطهاد يتمثل في جمهورية المجالس الشعبية المنبثقة من الكفاح الثوري للتحرر الوطني والاجتماعي للجماهير الكادحة العمالية والفلاحية.
إن هذا الكفاح الثوري يتشكل من حرب التحرير الشعبية في المناطق ذات الطابع القروي الغالب.
ومن الأشكال الملائمة للعنف الثوري المنظم في المدن الكبيرة والمراكز المنجميةالرئيسية ويهدف ليس إلى تحطيم الشكل السياسي الحالي للاضطهاد الذي يمثله النظام فحسب، بل أي شكل جديد من أشكال الاضطهاد الذي يمكن أن يحل محله (بما في ذلك الشكل الجمهوري: فهل مصر والعراق مثلا ليسا جمهوريتين يا ترى؟) كما يهدف هذا الكفاح الثوري إلى بناء سلطة المجالس الشعبية في سياق الصيرورة الثورية. وفي مرحلته العليا حين سيتغير ميزان القوى، فإن الكفاح الثوري سيجر إليه البرجوازية الصغرى العصرية وقد يتمكن من تحييد البرجوازية المتوسطة مما سيؤدي إلى عزل الطبقات السائدة وتحطيم سلطتها وجهاز دولتها، وفي المقام الأول جيشها وشرطتها (كما وقع في نيكاراغوا وكوبا مثلا).
2- الصراع الطبقي وإشكالية الهوية بالنسبة للطبقة العاملة المغربية:
ألف: وليتذكر القارئ كفاحات الطبقة العاملة منذ عشرينسنة ابتداء من الإضراب الطويل والتاريخي لعمال مناجم خريبكة ومن شتنبر إلى نونبر 1968 وصولا إلى الإضراب لعمال مناجم اليوسفية في يناير – فبراير 1986 ومرورا بكل النضالات البطولية للطبقة العاملة في بلادنا خلال هذه المرحلة وإلى الآن في الموانئ كما في المناجم والسكك.
إن كل هذه الإضرابات تبرهن على أن الحس الطبقي (أي المعرفة الحسية) للطبقة العاملة المغربية كطبقة مرتفعة نسبيا بشكل خاص بالنسبة للعالم العربي. لكننا كماركسيين لينينيين، نعرف أن الارتقاء من المعرفة الحسية الطبقية إلى المعرفة العقلية، الوعي الثوري، لا يمكن أن يكون عفويا. نعرف أن إديولوجية الطبقات السائدة التي تنشرها القوى الإصلاحية البرجوازية الصغرى هي التي تهيمن على الطبقة العاملة كما يظهر ذلك مثلا في قصة عقا غازي. وتساعد نواقصنا في العمل من أجل التجدر في الطبقة العاملة على استمرار هذه الهيمنة.
في هذا المجال بالضبط تمثل الماركسية كديالكتيك مادي للتاريخ الأداة التي لا تعوض بالنسبة للمناضلين الثوريين والطبقة العاملة نفسها. ذلك أنها تسمح بفهم لماذا وكيف يمكن القضاء على هذه الإيديولوجية انطلاقا من الواقع الموضوعي نفسه ومن الواقع الاجتماعي للطبقة العاملة ومن الطبيعة التناحرية لتناقضها مع البرجوازية.
ويسمح أيضا بفهم كيف تستطيع الطبقة العاملة أن تحرر نفسها من هذه الهيمنة لتتشكل كقوة قيادية للحركة الثورية للجماهير الكادحة ومجموع الشعب، وذلك عبر امتلاكها للديالكتيك المادي للتاريخ في سياق نضالها الملموس وعبر ارتقائها إلى الاستيعاب النظري للمجتمع وحركنه التاريخية بفضل نشاط العمال الطليعيين المنظمين في الحزب البروليتاري والمتجذرين في الطبقة العاملة وداخل المعامل. لذلك فإنه من الضروري بالنسبة إلينا أن نعمل وسط الطبقة العاملة من أجل كسب ثقتها في العمل الصبور في المعامل وفي منظماتها النقابية وفي الأحياء العمالية وأن نتفانى في الدفاع عن مصالها وفي نفس الوقت أن نوضح للعمال، إنطلاقا من مشاكلهم الملموسة، موقع هذه المشاكل في حركة الصراع الطبقي وأن الثورة البروليتارية هي الطريق الوحيدة لتحررهم فعلا من الاستغلال و الظلم.
باء: ورغم أن الارتكاز على الصراع الطبقي يشكل الأساس لأي عمل جدي داخل الطبقة العاملة، فإن شروط الاستغلال المكثف للطبقة العاملة في بلد الرأسمالية التبعية كالمغرب، بما في ذلك العمال المهاجرين، أن هذه الشروط تجعل أنه لا يمكن فصل الصراع الطبقي للطبقة العاملة، كفاحها من أجل التحرر الاجتماعي عن كفاحها من أجل التحرر الوطني. لكنها تخوض هذا بمضمون يستجيب للمطامح الاجتماعية للجماهير الكادحة وكقوتها المحركة. لذلك فإن الصراع الطبقي ككفاح ثوري من أجل التحرر الاجتماعي للجماهير الكادحة وكقوتها المحركة والكفاح من أجل التحرر الوطني يتداخلان ولا ينفصلان ويندمجان في صيرورة الثورة المغربية. إن ذلك يمكن من تجنب السقوط في النزعة العمالية والفوضوية النقابية التي تدافع عنها برقراطية الاتحاد المغربي للشغل، والوطنية البرجوازية التي تدافع عنها الأحزاب الإصلاحية والنزعة المثالية المافوق وطنية التي تدافع عنها التيارات الشعبوية البرجوازية الصغرى. وفي ظل الرأسمالية التبعية في المرحلة الراهنة، فإن إشكالية التحرر الوطني بالنسبة للجماهير الكادحة ترتبط بإشكالية الهوية في التشكيلات الاجتماعية المهيمن عليها. وعدم أخذ هذه الإشكالية بعين الاعتبار، من طرف الماركسيين في الكفاحات الثورية في العالم الثالث بشكل عام، وخاصة في العالم العربي يسمح للقوى الثورية البرجوازية الصغرى التي تجيب، ولو بشكل مثالي على هذه الإشكالية، أن تظهر مؤقتا كأنها تجيب على المطامح الثورية للجماهير الكادحة وأن تقودها (مثلا في إيران ومصر وبعض الطوائف في لبنان).
إن إشكالية الهوية ترتكز أساسا على قاعدة مادية منصهرة تاريخيا من خلال الاندماج بين الجماعات الفلاحية وأرضها. إن الإطار المتماسك الذي يسمح بفهم مسألة الهوية هو الإطار الذي يدمج في كل واحد القاعدة المادية والمكونات غير المادية لهذه الهوية وخاصة اللغة والدين. ونعتبر أن المكون الديني للهوية في بلادنا هو ما يعبر في الإسلام عن الطموحات العميقة للجماهير الكادحة إلى العدل والأخوة بين البشر. إن مضمون الرسالة النبوية في السنوات الأولى للكفاح الثوري في مكة قبل الهجرة والدعوة إلى النضال من أجل فرض العدالة والأخوة في الدنيا هما اللذان يستجيبان لهذه الطموحات عند الجماهير.
إن الربط ما بين المكونات غير المادية للجماهير الكادحة وبين القاعدة المادية يؤدي إلى وضع هذه المكونات في إطارها الصحيح أي في إطار الصراع الطبقي وعلى عكس ذلك، فإن الارتكاز على المكونات غير المادية للهوية وحدها وبمعزل عن قاعدتها المادية وعن الصراع الطبقي يؤدي إلى النزعة الشوفينية المتعصبة والمتزمتة والمختلفة.
جيم: لذلك أيضا، وفي إطار أخذ هذه الإشكالية المعقدة بعين الاعتبار، يجب أن نتشبت بحزم بالمنهج المادي التاريخي الخلاق والمبدع والمتخلص من كل دغمائية وأن لا نخفي منهجنا الماركسي ولا الهوية الماركسية اللينينية لمنظمتنا.
وفي هذه الشروط فإن الحوار الأخوي مع المناضلين التقدميين والثوريين المسلمين سيمكنهم من بلورة البديل التقدمي للتصورات المتخلفة التي تسود حاليا في أغلب الحركات الإسلامية في العالم العربي بما في ذلك بلادنا. ويجب أن نستلهم في هذا المجال، التجربة الرائعةفي أمريكا اللاتينية للحوار الأخوي والكفاح المشترك بين الأحزاب الشيوعية والمنظمات الماركسية – اللينينية من جهة والمناضلين المسيحيين من جهة أخرى الشيء الذي سمح ببلورة لاهوت التحرير. إن هؤلاء الشيوعيين والماركسيين اللينينيين لم يخفوا أبدا هويتهم الاديولوجية (أنظر مثلا حوار فيديل كاسترو وفراي بيطو). ويجب أن نحترم وخاصة في عملنا النضالي وفي حياتنا اليومية وسط الجماهير الكادحة - عقائدنا وتقاليدها. وأن لا نميز أنفسنا بطفولية مناهضة للدين، يجب أن نحترم الجوانب المشرقة قي الثقافة الشعبية، بما في ذلك الاحتفالات الدينية. يجب القيام بذلك بدون أي نفاق ومع تفسير لماذا نعتبر، كماركسيين، وعلى قاعدة المادية التاريخية، أن ليس هناك تناقض تكتيكي ولا استراتيجي بين الطموحات العميقة للجماهير الكادحة، بما في ذلك تعبيراتها الدينية، وبين برنامجنا الثوري، بل أن هذه الطموحات وبرنامجنا متناحرة مع التأويلات الرجعية للدين ومخالفة للتأويلات المختلفة للدين التي تروجها الحركات الإسلامية حاليا.
دال: لكن رغمالاهتمام الذي يجب إعطاؤه للمكونات غير المادية لهذه الهوية (اللغة والدين مثلا). فإن الصراع الطبقي يرتكز على القاعدة المادية المنصهرة تاريخيا والمهددة بالاندثار حاليا.
إن هذا التداخل بين الصراع الطبقي والقاعدة المادية هو الذي يشكل الأساس للمعرفة الحسية للجماهير الكادحة (الفلاحية والعمالية وخاصة العمال المهاجرين المنحدرين من البادية). وانطلاقا من هذا الأساس يجب العمل على تطوير المعرفة الحسية إلى معرفة عقلية، إلى وعي ثوري وفي هذا الإطار لابد من أخذ الواقع الملموس للخصوصيات الاقليمية بعين الاعتبار، التي بدونها لا يمكن فهمالواقع المغربي وديناميكيته الكامنة. ذلك أنه إذا كان العمال المهاجرون يتشبثون بالوطن وإذا كان أبناؤهم الذين ولدوا أو تربوا في أوربا يتعلقون إلى حد ما بالمغرب، فذلك لأنهم متعلقين بأرضهم الأصلية وإن ذاكرتهم الثقافية الجماعية مازالت حية. هذه الذاكرة المنصهرة تاريخيا في ذلك الانسجام المديد مع أرضهم التي انتزعتهم منها الرأسمالية التبعية. لذلك سيتعبؤون أكثر من أجل التحرر الوطني بقدؤ ما يكون هذا التحرر مركزا على هدف تحرر وازدهار هذه الأرض، أرض الجماعة الفلاحية الملموسة التي انبثقوا منها.
مثلا، إن العامل المقتلع من منطقته الأصلية سوس، سيستوعب بشكل أوضح الأفق الثوري، إذا بينت له القوى الثورية الأفق الثوري المتمثل في سوس متحرر من سيطرة المعمرين الجدد في الدار البيضاء والرباط وسماسرة اليد العاملة في أكادير، إن هذا الأفق الثوري يتمثل في استلام الجماهير الفلاحية السيادة على أرضها ومنطقتها وذلك عبر تحطيم سلطة المعمرين الجدد (قوادهم جيشهم ودركهم) واستبدالها بالحكم الذاتي للمجالس الشعبية في المنطقة لإنجاز ازدهارها الشامل في إطار الثورة الوطنية الدمقراطية الشعبية، بينما تعيش الجماهير الكادحة حياة البؤس أو المنفى بدون آفاق بسبب انتزاع المعمرين الجدد للجزء الأكثر غنى من المنطقة وللأساسي من طاقتها المائية.
هل البديل الثوري المقترح لهؤلاء العمال وأبنائهم سيظهر لهم بجلاء إذا ما اكتفينا بالعموميات المجردة حول الجمهورية والوطن دون تحديد مضمونها الطبقي، أم هل يجب توضيح، في إطار نفس البرنامج الثوري الملموس، علاقات تضامنهم، كمضطهدين منذ قرون، مع إخوانهم المضطهدين في الريف وجبالة وفي زمور وزيان... وكذا مع إخوانهم البرولتاريين في مناجم الفوسفاط وفي جرادة وفي معامل البيضاء وفي المدن الأخرى؟ أما إذا استمررنا في تجاهلهم كطبقة وحين سيتمكن منهم اليأس قد يستسلمون إلى القوى الأكثر ظلامية وتعصبا وتخلفا. لكن هل هذه هي طريق تحررهم الفعلي؟ هل سنكون قد قمنا بدورنا كثوريين إذا ما تخلينا عنهم؟
وعند أخذنا هذه الخصوصيات الإقليمية بعين الاعتبار، لا بد من الاهتمام، بشكل خاص، بالمناطق التي تتميز فيها التناقضات الطبقية والتناقضات المرتبطة بالهوية المتداخلة بينها بحدة أكبر.
إن تحديد هذه المناطق يرتكز، من جهة، على الدراسة العلمية للمعطيات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعلى إطارها الجغرافي (ه) ومن جهة أخرى الواقع الحالي للصراع الطبقي في هذه المناطق.
لهذا الغرض طرحنا المشاكل الخاصة بالشمال المغربي، الشمال في مجموعه (الريف-جبالة) في إطار بلورة استراتيجية ثورية ملموسة.
وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على الفكرة الهامة، أن الماضي يستمر في الحاضر ويحمل في أحشائه بدور المستقبل، وخصوصا بالنسبة للماضي الذي عاشته الجماهير الكادحة والمتمثل في كفاحات وانتفاضاتها ضد المضطهدين الاستعماريين والطبقيين.
ونشير هنا إلى الدور الذي يلعبه في ثورات أمريكا الوسطى، ذكرى أبطالها الثوريين ك "خوسي مارثي" و "أغستوسندينو" و "فرابندو مارتي".
هل الأفق الثوري سيظهر بوضوح للجماهير الكادحة إذا لم نربطه بكفاح أبطال وشهداء شعبنا وخاصة البارزين منهم أكثر في هذا القرن، من الهيبة إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي والمهدي بنبركة؟
فالهيبة يجسد الكفاح المشترك للشعبين الصحراوي والمغربي ومحمد بن عبد الكريم يرمز ليس إلى الانتصار الرائع في أنوال فحسب لكن أيضا إلى الإنجاز الجبار لجمهورية القبائل المتحدة للريف وبنبركة رمز الكفاح والصرامة الثوريين ضد الرجعية والامبريالية. فهؤلاء الأبطال يجسدون رمز كفاح الجماهير الفلاحية المضطهدة والمقاومة والمنظمة في إطاراتها الجماعية خلال القرون المتعاقبة وكدا الكفاح المعاصر للجماهير الكادحة المضطهدة من عمال وفلاحين.
ويجب على المناضل أن ينجز القطيعة مع تأثير سطح الظواهر الاجتماعية – السياسية للغوص في حياة ومشاكل الجماهير الكادحة.
فإذا ما نظرنا مثلا إلى مشاكل الشمال الاجتماعية والدمغرافية، نجدها تنطرح بشكل مختلف إذا ما اكتفينا بسطح الظواهر الاجتماعية – السياسية أو تفحصها عمقها.
هكذا فإن، أحمد الطراشن يبين في كتابه أن الفوارق ما بين مناطق المحيط والمركز في المغرب (أي بين المناطق الغنية والمناطق الهامشية الفقيرة مثل الريف) تتقلص فيما يخص "نخبة القطاع العصري" (أي التقنوبوقراطية والبورجوازية الكبيرة) بينما تتعمق بالنسبة للجماهير الكادحة.
أما الهجرة نحو منطقة الشمال من باقي مناطق البلاد فمنعدمة، ما عدا بعض العناصر التقنوبوقراطية والهجرة القروية نحو مدن الشمال تأتي من البوادي المجاورة فقط.
وإذا كانت الملاحظات السابقة تعطي معطيات هامة حول منطقة الشمال، فإنه لابد من المزيد من دراسة الوثائق العلمية المتوفرة والقيام بالتحقيقات الملموسة والحوار مع الجماهير الكادحة المعنية وسط النضال.
وحتى يتمكن المرء من مقاربة مشاكل الخصوصيات الإقليمية، لابد أيضا من التخلص من النظرة المركزية التي تهدف إلى محو الخصوصيات، هذه النظرة التي فرضتها البرجوازية منذ 1930.
3- الإشكالية الثورية في الدار البيضاء:
ألف: الدار البيضاء في قلب إشكالية المدن المغربية الكبيرة:
لقد تطرقنا في الصفحات السابقة لبعض المسائل التي تتعلق بالإشكالية الثورية في "المناطق ذات الطابع القروي الغالب" سنتطرق الآن لإشكالية الثورة في المدن الكبيرة. إن الصيرورة الثورية الشاملة لا يمكن تصورها الآن إلا كاندماج ما بين هاتين الإشكاليتين الثوريتين.
سندرس فيما يلي الإشكالية الثورية في البيضاء لأننا نعتبرها المحور الأساسي لإشكالية الثورة في المدن الكبيرة. لماذا؟
- حينما تكلمنا عن "المناطق ذات الطابع القروي الغالب" مثل الشمال المغربي، فإننا نعتبر أم مدن هذه المناطق، وجماهيرها الكادحة في المقام الأول، تندرج في الإشكالية الثورية لهذه المناطق. وذلك بسبب العوامل الموضوعية الاجتماعية والثقافية التي أشرنا إليها والتي تنطبق على مدن هذه المناطق. وتؤكد نضالات السنوات الأخيرة هذه العوامل: نضالات يناير 1983 بالنسبة للشمال المغربي وكذا تلك التي لم تتوقف في الشمال الشرقي منذ 1981.
ولهذا السبب ينضاف سبب آخر لا يقل أهمية ويتمثل في أخذ الإستراتيجية الممكنة بالنسبة لهذه المناطق بعين الاعتبار، هذه الإستراتيجية التي تتداخل فيها المدن والبوادي بجبالها وسهولها. بالنسبة لبعض المناطق ذات الطابع القروي الغالب، كالشمال الشرقي وتادلة وجبال الأطلس الصغير والكبير الغربي مثلا. لابد من التدقيق أن هذه الإستراتيجية تدمج السهول المسقية في هذه المناطق ويجب أن تأخذ بعين الاعتبار التناقضات الحادة ما بين الجماهير الفلاحية وملاكي الأراضي الكبار – لكن خلافا للتصور الاستراتيجي للسبعينات حول مناطق الصدام، لا نعزل هذه السهول عن هذه المنطقة الأوسع التي يكونون جزءا منها، ولا نعتبر مسبقا أن هذه السهول ستكون نقطة انطلاق للكفاح المسلح في هذه المناطق، كما يبرز ذلك من دروس هذه النضالات وكدا من دروس ثورتي نيكاراغو و السلفادور.
وتتعزز هذه الاستراتيجية بفضل تواجد أنويةبروليتارية في هذه المناطق (مثلا المعامل الكبيرة في تطوان، الصيادين في الحسيمة وعمال الحديد في الناظور بالنسبة للشمال، وعمال جرادة ومراكز السكك والمكتب الوطني للكهرباء بالنسبة للشمال-الشرقي).
وهكذا يظهر جليا أن مفهوم حرب التحرير الشعبية الذي طرحنا، كاستراتيجية ثورية بالنسبة لهذه "المناطق ذات الطابع القروي الغالب" ليس المفهوم الصيني لتطويق المدن من طرف البوادي بل هو التداخل الدينامي لمختلف أشكال الكفاح المسلح والنضال الثوري الجماهيري لجماهير المدن والبوادي في هذه المناطق.
- حين نحدد التناقض الأساسي في مجتمعنا ما بين الجماهير الكادحة من جهة، والطبقات السائدة من كومبرادور وملاكي الأراضي الكبار من جهة أخرى، وإذا كان هذا التناقض لا يقصي من الصيرورة الثورية في مرحلتها العليا الجزء من الطبقات المتوسطة الذي يمكن أن يندمج فيها ولا يدفع بالجزء الذي يمكن تحييده إلى معسكر الأعداء، فإنه لابد في المرحلة الحالية الأولية للثورة المغربية، أن نمحور مجهوداتنا على المدن الكبيرة أو أجزائها التي يتميز فيها هذا التناقض الأساسي بحدة أكبر.
- ما هو إذن، وفي إطار إشكالية المدن الكبيرة المغربية في الفترة الراهنة، المحور الرئيسي الممكن لمثل هاته المجهودات؟
من البديهي أن الأمر يتعلق أولا وأساسا بالدار البيضاء، بما فيها المدينة البرليتارية: المحمدية وذلك دون فصلها عن المراكز المنجميةالفوسفاطية والموانئ والصناعات المرتبطة بها بسبب أهمية النواة البرلتارية المتواجدة فيها وبسبب قربها من الدار البيضاء.
إذن سنرسم الخطوط العريضة للإشكالية الثورية في الدار البيضاء كعاصمة للرأسمالية التبعية في المغرب، لكن نشير أنه يجب تعميق هذه الإشكالية، خاصة من طرف الرفاق المعنيين. وحين نسطر هنا آفاق العمل الثوري في الدار البيضاء لا يجب أن ننسى أن الأمر يتعلق بعمل يومي صبور وسط الجماهير الكادحة في هذه المدينة.
باء: الخطوط العريضة للإشكالية الثورية في الدار البيضاء
إن الفروقات الاجتماعية في البيضاء تتجسد على الأرض وتتخذ شكلا حادا. لذلك يمكن الكلام عن تراتبية اجتماعية مكانية.
لتحديد هذه التراتبية لابد من تحديد الشرائح الاجتماعية المعنية.
سننطلق من دراسة أحمد المبارك ( "المسار" عددي 65 و 67 أكتوبر 86) والتي ترتكز على المقاربة الماركسية الكلاسيكية لتحديد الطبقات بموقعها في علاقات الإنتاج. وهذه المقاربة تظل مركزية في الإشكالية، وندمج بها المقاربة المكملة التي تأخذ بعين الاعتبار الثقافة ونمط الحياة والوسط الاجتماعي المرتبطين بالحياة اليومية لهذه الشرائح الاجتماعية في أحيائها الخاصة بها. مما يجعلنا نخلص إلى ثلاثة أقطاب تميز البنية الاجتماعية المكانية في البيضاء.
القطب الاجتماعي الأول: برجوازية البيضاء (أو القطب السائد)
إن هذا القطب يتكون أساسا من الفئات الاجتماعية الثلاثة التالية:
- نواة الرأسماليين الكمبرادوريين الاحتكاريين التي تكون النواة المهيمنة داخل الطبقات السائدة.
- مجموع الرأسماليين الصناعيين، كبار تجار الاستيراد والتصدير وكبار المقاولين والمضاربين بما فيهم من كانوا ينتمون من قبل للبرجوازية الوطنية والذين اندمجوا في نظام الرأسمالية التبعية، وذلك في الدار البيضاء أكثر من باقي البلاد، رغم أن ذلك الاندماج يتم من موقع أضعف، مما يحمل تناقضات ثانوية وسط برجوازية البيضاء.
- البرجوازية التقنوبوقراطية المشكلة أساسا من الفئات العليا من الشراح التقنوبوقراطية التي حللها أحمد مبارك.
إن تواجد هذه البرجوازية في "الأحياء الراقية" في غرب المدينة ومركز الأعمال واضح كل الوضوح بالنسبة للجماهير المنتفضة في 20 يونيو 1981 وكما كانت واضحة بالنسبة لهذه الجماهير طبيعة هذه البرجوازية اللاوطنية والمتغربة التي تمزج، بعجرفة وقحة، ما بين الممارسات الإقطاعية القروسطيةوالسلوكات الأكثر تفسخا وانحطاطا للبرجوازية الكبيرة الإمبريالية الغربية.
إن الرأسمالية في المغرب لا يمكن أن تكون إلا رأسمالية مصاصي دماء الكادحين، رأسمالية متوحشة. وهذه الحقيقة أكثر بروزا في البيضاء من باقي مناطق البلاد. لذلك نتكلم عن"برجوازية الدار البيضاء" لأن الرأسمالية المتوسطة يمكن أن تتوفر في مدن المغرب الكبيرة الأخرى. على مميزات "برجوازية وطنية"، رغم أن هذه البرجوازية الوطنية في تراجع متزايد.
ولا تتمتع الجماهير البرلتارية بنفس المستوى من التماسك، النسبي طبعا لكن الفعلي، في أي منطقة أخرى من البلاد كما هو في الدار البيضاء ما عدا المراكز المنجمية الكبيرة في خريبكة واليوسفية وجرادة.
والحقيقة أنه بقدر ما تنحو الجماهير البرلتارية إلى تأكيد هويتها الطبقية وكرامتها في الكفاح بقدر ما ينمو التناحر الطبقي كحلزون ديالكتيكي متصاعد يبلور البرجوازية كبرجوازية متوحشة وفاشيستية.
القطب الاجتماعي الثاني: البرجوازية الصغرى العصرية (أي القطب الوسيط)
يتشكل بشكل رئيسي من رجال التعليم، وخاصة في الثانوي والأطر التقنية والإدارية المتوسطة للإدارات والشركات والشرائح الاجتماعية الأخرى المشابهة. ويلتحق بنفس القطب الاجتماعي أيضا،وحتى في أحياء السكن وبالنسبة لنمط الحياة والمستوى الاجتماعي، الملاكون والتجار المتوسطون، أرباب الأوراش الصغيرة وبشكل عام ما يمثل الفئة الدنيا من البرجوازية المتوسطة.
وتقطن هذه البرجوازية الصغرى والمتوسطة في أحياء مثل المعاريف والعمارات القديمة وسط المدينة وفي عمارات جنوب المدينة...
القطب الاجتماعي الثالث: الجماهير الكادحة (القطب الحاسم)
تتكون الجماهير الكادحة من مجموع العاملين في القطاعين "العصري" و "الغير مقنن" في الصناعة والتجارة ومن الموظفين الصغار والحرفيين والتجار الصغار وكل الذين يحاولون العيش بأي عمل كان.
وتمثل هذه الجماهير الكادحة الأغلبية الساحقة من الناحية الكمية من الجماهير الغفيرة المضطهدة في الدار البيضاء الكبرى التي تتواجد، بشكل رئيسي، بالشرق والشمال – الشرقي لهذه المدينة.
إن الإشكالية الثورية تتمثل هنا في تحديد الأرضية السياسية والاجتماعية والبنيات التنظيمية التي ستمكن التناقض الأساسي في المجتمع المغربي من التطور في الاتجاه الثوري في هذه المدينة. هل يتعلق الأمر بأرضية للصراع الطبقي أو أرضية للنضال الوطني ذات الطبيعة البرجوازية أو البرجوازية الصغرى كما فسرنا أعلاه؟
إن الواقع الملموس للتناقضات الطبقية في الدار البيضاء يجيب بدون التباس على هذا السؤال وقد عبرت الجماهير الكادحة عبر إضرابها وانتفاضتها في 18 و 20 يونيو 1981 عن جوابها الحسي عليه.
لكن لماذا وكيف تنطرح بالنسبة لهذه الجماهير إشكالية الهوية؟
إن هذه الإشكالية تنبثق بالنسبة لهذه الجماهير الحضرية من الاضطهاد الذي ينفي جوهرها الإنساني بما في ذلك بالنسبة للطبقة العاملة "العصرية" المستغلة بشكل مكثف والمحرومة من حقوقها البسيطة وكرامتها. وينطبق ذلك على الجمهور الغفير للمضطهدين العاملين في القطاع الغير مقنن والشباب العاطل في الأحياء الشعبية.
والحقيقة أن هذه الإشكالية لا تأخذ طابعا حادا، بشكل خاص في العواصم الكبيرة من العالم الثالث ولا تعطي الانطباع بتجاوز الإشكالية الطبقية للسقوط في المثالية الدينية أو الإثنية إلا حين لا تتمكن الوحدة الثورية لمجموع الجماهير الكادحة المدينية من التبلور كقوة ثورية برلتارية كافية واديولوجية ثورية مرتكزين على الماركسية الحية والمبدعة والمتجدرين وسط هذه الجماهير الكادحة.
ولا بد هنا من تحليل مفهوم البرليتاريا، بشكل نقدي بالنسبة للدغماتية السائدة راهنا وبشكل خلاق بالنسبة للواقع الملموس للبيضاء وتمشيا مع الروح الماركسية الحية.
منذ ما يقرب من 50 سنة والحركة الشيوعية العالمية تميل إلى اختصار البرليتاريا في "الطبقة العاملة العصرية"، وذلك تحت تأثير الفلسفة الوضعية والنزعة الاقتصادية التي بدأت هذه الحركة في التحرر من سيطرتها منذ وقت قصير.
وقد نتج عن ذلك أن الفكر الماركسي المعاصر قد طابق ما بين البرلياريا الرثة “Lumpen-prolétariat”.
وبين أغلبية الجماهير الكادحة الغير مندمجة في "الطبقة العاملة العصرية في المدن الكبيرة في العالم الثالث وهذا ما دفع بأحد أحسن المحللين الفرنسيين للمجتمعات المغاربية، القريب من الماركسية إلى الوصول إلى أن خصوصية الطبقة العاملة قد انمحت وأن الصراع الطبقي قد تجاوز (كدا).
وإذا ما رجعنا إلى ماركس، فإنه يكتب (إن البرليتاري هو الأجير الذي ينتج الرأسمال ("الكتاب الأول من "الرأسمالية").
والأجير هو الشخص الذي ليس له ما يبيع ليبقى على قيد الحياة، سوى قوة عمله. ويحصل، كثمن لبيع قوة عمله هاته للرأسمالي، على دخل يساوي، في أحسن الأحوال قيمة قوة عمله. وهذا الدخل هو الأجر ويمكنه أن يكون أجرا حسب مدة العمل أو حسب الإنتاج (العطاشة).
هذا الشكل الأخير من الأجر يمكن الرأسمالية من تكثيف الاستغلال ومراقبة العمل أكثر حتى حين يتم القيام في المنزل.
إذن فالقطاع الغير مقنن الضخم يشكل جزءا من الاستغلال الرأسمالي ونظام الإجازة، هذا القطاع الذي شهد انتفاخا صاروخيا في العالم الثالث، وفي بلادنا منذ 15 سنة.
حقا إن مفهوم البرلتاريا لا يمكن فهمه بإرجاعه إلى أساسه الاقتصادي فقط، وأنه يتضمن معنى يرتبط بقدرة العمال على المقاومة ضد الاستغلال الرأسمالي، وبصيغة أعم "ضد ضغط البرجوازية. في "الاديولوجيةالأمانية" يميز ماركس وإنجاز ما بين البرليتاريا وبين البرليتاريا الرئة التي سمياها “Paupérisme”.
إن “Paupérisme” هو فئة البرليتاريا المفلسة، وهو الدرجة الدنيا التي ينزل إليها البرليتاري عاجزا عن مقاومة ضغط البرجوازية. والبرليتاري لا يصبح Pauper إلا عندما يفقد كل طاقة (بمعنى كل طاقة للعيش الكريم). لكن هل الكادح أو الكادحة في القطاع الغير مقنن الذين يناضلون يوميا من أجل الحياة والكرامة لهم ولعائلاتهم، وحتى حين تفرض عليهم الرأسمالية أجورا بخصة هل أصبحوا بسبب ذلك "عاجزين عن مقاومة ضغط البورجوازية"؟ هل فقدوا كل طاقة؟ إن الجوانب هو: لا، فإضافة إلى صمودهم اليومي في مواجهة شظف العيش، فإنهم قدموا البرهان على مقاومتهم بدمائهم خلال انتفاضات 20 يونيو 1981.
لذلك كان ماركس يرتكز على المعطيات الملموسة للصراع الطبقي لتحديد البرليتاريا الملموس. لقد كانت كومونة باريس التعبير الأكثر عظمة والأكثر وزنا عن الصراع الطبقي خلال حياة ماركس وإنجاز. وقد حياها ماركس وانجلز والأممية الأولى كاول تجربة تاريخية لدكتاتوريةالبرليتاريا. فما هي يا ترى طبيعة برليتارياكومونة باريس؟
كان 500.000 عامل يشتغلون آنذاك عدد 40.000 رب معمل. وعلى العكس من ذلك، كان هناك العديد من الأوراش الصغيرة للصناعة والبناء وعمال يعملون في منازلهم. لم يفكر المناضلون البارسيون في الأممية البرليتارية ولا ماركس ولا إنجلز، لم يفكرا بتاتا في تقسيم هذه الجماهير البرليتارية إلى برليتاريا بالنسبة لعمال المعامل الكبرى وبرليتاريا دنيا “sous-prolérariat” أو برليتاريا رئة بالنسبة للآخرين.
ومن الهام الملاحظة أن العمال الخمسة وعشرين المنتخبين إلى مجلس كمونة بارس المكون من تسعين عضوا، أن هؤلاء العمال كانوا "إما حرفيين أو عمال في معامل متوسطة وصغيرة".
هذا البرليتاريا الملموس هو الذي كان العامل الحاسم في كمونة باريس المجيدة.
ما هو إذن اليوم، وعلى ضوء ما سبق، برليتاريا الدار البيضاء؟ وإذا رجعنا إلى توصية لينين الأساسية، ما هو التحليل الملموس للجماهير الكادحة في الدار البيضاء؟
في الدار البيضاء يوجد نصف "الطبقة العاملة العصرية" مشتت على عدد كبير من الأعمال والأوراش الصغيرة، بل إن لا يمكن أن يميز ما بين عمال هذه المعامل والأوراش الصغيرة وكادحي القطاع الغير مقنن بما في ذلك العمل الذي ينجز في المنازل لفائدة الرأسماليين الذين يوفرون المواد الأولية وحاجيات الإنتاج. إن كل هؤلاء العاملين يشكلون الجماهير البرليتارية للدار البيضاء.
هناك أيضا عدد محدد من المعامل الكبيرة أو المتوسطة، وأهم هذه المعامل لها، في كثير من الأحيان، تاريخ طويل من النضال والتقاليد البرليتارية الذي يرجع إلى مرحلة الحماية (معامل التعدين والكيمياء الكبيرة ومعامل الإسمنت والصناعات الغذائية الكبيرة، المركز الحراري للكهرباء، الأوراش المركزية للسكك الحديدة مثلا).
بالنسبة للجماهير البرليتارية التي حددناها من قبل، يشكل عمال هذه المعامل الكبيرة موضوعيا ما يمكن تسميته بـ "الأنويةالبرليتارية" بينما تمثل هذه المعامل القلعاتالبرليتارية.
ويجب هنا القيام بتدقيق له أهمية في تحديد الأولويات التكتيكية للعمل في هذه القلعاتالبرليتارية (حين تكون إمكانية الاختيار طبعا). إن المكتسبات والتقاليد النضالية تختلف حسب المعامل لأسباب تاريخية ملموسة، وهكذا فإن هناك اختلاف كبير في التقاليد النضالية ما بين السكك الحديدية وبين المكتب الوطني للكهرباء حيث هذه التقاليد محدودة وخاضعة أكثر لسيطرة البروقراطية النقابية. لذلك فإن بعض الأنويةالبرليتارية، أنوية كامنة، بينما هناك أنوية فعلية منذ الآن. ومن البديهي أن الأنوية الثانية يجب أن تحتل الأولوية من الناحية التكتيكية. لكن الهدف الاستراتيجي يجب أن يتمثل في تنظيم مجموع الأنويةالبرليتارية.
نعتبر أن مجموع الأنويةالبرليتارية والجماهير البرليتارية للدار البيضاء يشكلون، في وحدتهم الدينامية، برليتاريا الدار البيضاء.
وهذا إذا استعملنا الصور المجازية لغرامشي الذي يقارن الصراع الطبقي بالفن العسكري، لا يجب أن ننحبس في حرب مواقع بل يجب الوصول إلى حرب متحركة الصحيحة والأساسية والتي أكدها واقع النضالات الاجتماعية في بلادنا والمتمثلة في ضرورة غزو هذه القلعاتالبرليتارية والقيام بمجهود خاص حيثما أمكن ذلك لإنجاز هذا الهدف. لكن يجب أيضا، وبموازاة ذلك، غزو الجماهير البرليتارية بالدار البيضاء. وذلك ليس ممكنا إلا من خلال عمل المناضلين في الأحياء الشعبية ووسط نضالاتها. ما هي إذن الأرضية الثورية الاستراتيجية للنضال والعمل لبرليتاريا الدار البيضاء الذي حددناه كالمجموع الدينامي لهذه الأنويةالبرليتارية والجماهير البرليتارية؟ ما هي الأرضية التي يمكن أن تعبئ مجموع الجماهير الكادحة بهذه المدينة؟
على أساس التحليل الملموس للطبقات الذي رسمنا خطوطه العريضة هنا، فإن هذه الأرضية واضحة وهي أرضية كمونة باريس:
الإطاحة بسلطة البورجوازية بواسطة العنف الثوري للجماهير المادحة المنتفضة، تحطيم جهاز دولتها وإقامة سلطة المجالس الشعبية تحت قيادة البرليتاريا.
لكن لتلافي المأزق المأساوي لكمونة باريس المتمثل في عزلتها عن باقي البلاد وصحقها، فإن هذا المشروع والكفاح الثوريين يجب أن يندمجا في المشروع الثوري الشامل للثورة الوطنية الدمقراطية الشعبية. يجب أن يندمجا في الصيرورة الشاملة التي ستشمل، بموازاة تطور هذا الكفاح، على تطور حرب التحرير الشعبية في أهم "المناطق ذات الطابع القروي الغالب" وامتداد الكفاح الثوري البرليتاري إلى المدن الكبيرة الأخرى وأهم المراكز المنجمية. إن تطور مجمل هذه الكفاحات سيشكل آنذاك الصيرورة لربح الحرب الثورية، وبالتالي يجب علينا، في نفس الوقت، أن نغزو القلعاتالبرليتارية وأن ننظم الجماهير البرليتارية. والهدف الاستراتيجي هو الوصول إلى بنية دينامية للصراع الطبقي لبرليتاريا الدار البيضاء. بنية سيلعب فيها عمال هذه القلعات الدور الحي النشيط و المحرك كأنويةبرليتارية دينامية وسط جماهير برليتارية هي نفسها في حركة.
يجب الإضافة أن مثل هذا التداخل الدينامي ما بين أنويةبرليتارية منظمة وجماهير برليتارية في حركة (في وسطها هي نفسها أنويةبرليتارية منظمة) سيشكل البنية التي ستنجز بفضلها القيادة الثورة لمجموع الجماهير الكادحة للبيضاء، وذلك دائما في ظل تنسيق وثيق مع قيادة الكفاح الثوري على الصعيد الوطني. وهذه النضالات يمكنها في مرحلتها العليا أن تجر إليها جزءا من الطبقات المتوسطة.
هل يجب أولا غزو القلعاتالبرليتارية والمعامل المتوسطة، وبعد ذلك وانطلاقا منها، العمل في الجماهير البرليتارية؟
لقد كانت هذه الفكرة موجودة ضمنيا في التوجيه المرسوم في 1989. لكن النضالات الاجتماعية في 1981 و 84 فرضت علينا عدم البقاء حبيسي هذه الفكرة، لكن دون التخلي عن الفكرة الثورة الشاملة التي ستؤدي إلى تحطيم جهاز الدولة الكمبرادوري في مجموع البلاد، وفي المقام الأول الجيش والبوليس، ولا قامة سلطة المجالس الشعبية.
إن هذا المشروع وهذه الصيرورة الثوريين، نظرا لكونهما يجيبان على متطلبات الثورة الوطنيةالشعبية ويندمجان فيها، سيجران إلهما البرجوازية الصغرى العصرية والفئة الدنيا من البرجوازية المتوسطة وبذلك سيعزلان البرجوازية كما حددناها أعلاه ويتمكنان من تقسيمها في المرحلة الأخيرة المؤدية إلى الانتصار الثوري وذلك بهدف تحطيم نواتها المركزية: الرأسمال الاحتكاري الكمبرادوري بكل مؤسساته السياسية والاقتصادية والقمعية.
لنرجع الآن إلى مشكلتنا الأولى حول إشكالية هوية الجماهير الكادحة بالدار البيضاء، وكإمتداد لذلك في المدن الكبيرة الأخرى بالمغرب. هذه الإشكالية تنطرح بالنسبة لأغلبية السكان، الشباب بالخصوص، الدين لا يستطعون العمل في القطاع العصري والمهملين من طرف النقابات العمالية والآحزاب الإصلاحية والمؤسسات الاجتماعية والمفروض عليهم العيش بواسطة الأشغال الغير قارة في القطاع الغير مقنن وحتى بالنسبة لعضهم الذين يتعاطون للعهارة أو تجار المخدرات...
لقد بينا أن الشباب الذي يعمل في القطاع الغير مقنن جزء من الجماهير البرليتارية للدار البيضاء ويمكنهم بالتالي أن يؤكدوا هويتهم كبشر وكرامتهم في إطار النضال الثوري لبرليتاريا الدار البيضاء.
فهل لا يستطيع الأكثر مهمشين من ضمن هؤلاء أن يتحولوا إلى أمثال "علي لابوانت" و "جميلة" في إطار الكفاح الثوري بالدار البيضاء؟
إن السلطة البرجوازية تنفي هويتهم الإنسانية. إن نفي سلطة البرجوازية بواسطة الثورة سيعيد لهم هويتهم وكرامتهم.
ذلك هو الجواب الصحيح والممكن على مأساة هذه الجماهير وإشكالية هويتها.
لابد من الإضافة أن منظمتنا لا يمكنها لوحدها أن تنجز المهمات التاريخية الشاملة التي سطرناها أعلاه. لكن بقدر ما تستطيع منظمتنا تأكيد هويتها كمنظمة شيوعية للكادحين بقدر ما سيمكنها أن تعمل على بناء جبهة ثورية تجمع مجموع القوى الثورية التي تعيش مرحلة مخاض الآن في بلادنا.
20 دجنبر 1986
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق