/ رحلة صيف نحو الشمال // كلمات مبعثرة \\ الحبيب الحنودي
/ رحلة صيف نحو الشمال \
// كلمات مبعثرة \\
في الجزيرة الخضراء لا اتذكر أية تفاصيل. ما عدا مغادرة الباخرة عند الرصيف. ومزحة لصديقي عندما قلت له: "شككوا فيك أنت المهاجر الشرعي وتركوني أنا المتسلل الغير قانوني. يا له من عالم أخرق" . ذهبنا إلى مطعم في الجوار، أكلنا فيه وجبة سمك. ثم ركبنا حافلة في اتجاه مدينة مالغا.
داخل الحافلة وهي في الطريق تطوي المسافات، شعرت برأسي متصدع من عدم النوم في الليلة الماضية. ومع ذلك لم أحس بخدر النعاس في عيناي. صديقي إلى جانبي مسندا رأسه على رأس الكرسي خلفه وعيناه مغمضتين. ربما بسبب الإرهاق النفسي أثناء عملية العبور. عادت بي الذاكرة إلى الضفة الجنوبية التي غادرتها منذ فترة قصيرة. مرت تلك الصورة في ذهني عندما تركتها وأنا غاضب، بينما بقيت هي واقفة حائرة لا تدري ما اقترفته. لم تكن تعلم ان موافقتها على هجرتي لما أخذت رأيها إن كنت سأهاجر أم انني سأبقى، سيجعلني اثور وأذهب دون ان أودعها. بل سيجعلني أنهي كل صلة بها. كنت على الأقل، اود أن اسمع منها كلمات فيها تردد على القبول. بعدها، سأشرح أسباب اضطراري للهجرة وأعمل على إقناعها كي تقبل. مع العلم انها كانت تعرف موقفي من الهجرة إلى أورپا وتحفظي الدائم منها. شعرت بموجة من الغضب تجتاحني مرة أخرى وكأنني أعاود عيش تلك اللحظة. أخذت من الحقيبة ورقة بيضاء وقلم وبدات في كتابة هذه الكلمات المبعثرة، التي وجدتها بين أوراقي القديمة. تركتها كما هي :
لم أعد أهتم.
ابتعدتِ أو اقتربتِ. كنتِ طبيعية أو لطخت وجهك بالمساحيق. ابتسمت حتى أشرقت أسنانك، أو ضحكت حتى ظهر بلعوم حنجرتك. تكلمت بهدوء أو رن صوتك لعنان السماء. كان صوتك رقيقا ناعما أو مبحوحا. شعرك كان طويلا أو قصيرا. صففتيه بالمشط أمام المرآت أو ظفرتيه عند المزينة. لمعتيه او غيرت لونه أو تركته في فوضى عارمة على طبيعته. أظافرك قمت بتقلميهم أو صبغتيهم أو غلفتيهم بأظافر طويلة مصطنعة. لبست الأسود أو الأبيض، أو غيرت في الألوان، في تناسق او غير تناسق. انتعلت الكعب العالي أو صندلة. مارست الرياضة او التزمت المطبخ. سمينة كنت أو نحيلة. مؤخرتك كبيرة مكورة، او متوسطة الحجم رطبة، أو صغيرة ضحلة. صدرك ضامر أو منتفخ. تركت نهديك طليقين يتدليان او أسندتهما بدعامات. عيناك كبيرتان جميلتان كعيني غزالة أو أكبر كعيني بقرة. فمك كبير كفم "جوليا روبرتس" أو صغير كفم سمكة تختنق. شفتاك مكتنزتين أو رقيقتين. أنفك كأنف "الموناليزا" أو مفلطح أو معقوف. عنقك طويل أو قصير، زينتيه بحلي من ذهب او من فضة أو نحاس. مشيتك كمشية بطة أو كمشية حمامة. غنوجة دلولة، أو متعجرفة متكبرة. كنت فقيرة أو غنية. موظفة أو سيدة أعمال. معلمة أو أستاذة أو محامية، ممرضة أو طبيبة أو مهندسة. ربة بيت او شخصية عامة. ركبت حمارا او قدت سيارة، أو امتلكت قصرا وطائرة. متعلمة او أمية. قرات القرآن او قصائد نزار قباني. تستمعين لأغاني جوليا بطرس أو لأغاني فيروز. بدوية كنت أو بنت مدينة. عضوة في حزب سياسي أو رئيسة جمعية، أو تحلبين بقرة ولادة. عاقلة أو متهورة. حكيمة أو سفيهة...
كوني ما شئت. قد تستهوين آخرين وقد يكونون كُثُر. أما أنا فلم أعد أهتم. أحلامي هجرتني وغسلتُ صدري على سطح باخرة. بعد أن اقتفيت أثر بن زياد. هو بحد السيف وانا بكراس أخضر مستعار من صديق، إسمه جواز السفر.
تركت الورقة والقلم على ضفة عند ظهر الكرسي أمامي. أسندت رأسي للخلف فغفوت. ولم أفتح عيني إلا بعد أن اقتربنا من مالغا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق