الكبير قاشى ل"ملفات تادلة": قانون تنظيمي للإضراب أم لأسواق العبيد؟
الكبير قاشى: قانون تنظيمي للإضراب أم لأسواق العبيد؟
-قاشى مولاي الكبير-
ما لاشك فيه أن الإضراب والتفاوض الجماعي يشكلان أهم وسيلة للدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمادية والمعنوية للطبقة العاملة ولعموم منتسبي التنظيمات النقابية، كما أن الإضراب هو جوهر الحقوق والحريات النقابية وأقوى سلاح تملكه الطبقة العاملة لمواجهة الرأسمال ودولته، وفي نفس الوقت هو مظهر هام من مظاهر حرية التعبير عن الرأي، أي التعبير عن الاستياء من تصرفات أو شروط أو تدابير أو سياسات معينة، زيادة على ذلك فهو الملاذ الأخير الذي يتم اللجوء إليه بعد انسداد كل الأبواب واستنفاد كل الوسائل للإقناع والتفاوض والتسوية، وعموما فإن الإضرابات تخاض أساسا في المغرب من أجل احترام قوانين الشغل والتزامات المشغلين ووقف انتهاكاتهم المستمرة وتعسفاتهم وفرط استغلالهم.
صادق مجلس النواب على مشروع القانون التنظيمي للإضراب بالأغلبية، وذلك يوم الثلاثاء 24 دجنبر 2024، بحيث صوت لفائدته 124 مقابل معارضة 41 صوت بمن فيهم أصوات ممثلي حزب العدالة والتنمية الذين تقدموا بالنسخة الأولى منه، والتي لا يميزها أي شيء عن النسخة الحالية باستثناء اختزال عدد موادها من 49 الى 35 وأبوابها من ستة إلى أربعة عبر حذف بنود من مواد ونقلها لمواد أخرى وتجميع بعض المقتضيات وإعادة صياغة بعضها الآخر، وحتى في الحالة التي يتم فيها حذف بعض المقتضيات فإن ذلك لم يكن بقصد العدول والتراجع عن أحكامها وإنما للاكتفاء بالنصوص القائمة وفي هذا السياق، نشير مثلا إلى أن هذا الحزب طالب بحذف مقتضى “السخرة” من مشروع القانون التنظيمي في لجنة القطاعات الاجتماعية بمبرر “وجود ضمانات قانونية بخصوص المرافق الحيوية والحد الأدنى من الخدمة” أي أنه طالب بحذف الكلمة مقابل الإبقاء على مقتضيات السخرة وذلك لإخفاء هذا الوجه البشع وعدم إثارة المشاعر بشأنه، وهو نفس الأمر بخصوص المادة 41، حيث قدم هذا الحزب مقترح تعديله بحذف هذا التنصيص ” دون الاخلال بالعقوبات الجنائية الأشد” وذلك بمبرر أن الأفعال التي تستدعي العقوبات الجنائية لها مقتضيات خاصة، أي أنه يحيل على القانون الجنائي دون خجل.
بتاريخ 28 نونبر 2024 تم وضع التعديلات حول مشروع القانون التنظيمي للإضراب في لجنة القطاعات الاجتماعية وبلغ عددها 334 وفق ما يلي: الفريق الدستوري الديمقراطي 27 تعديل، الفريق الاشتراكي المعارضة الاتحادية 111 تعديل، الفريق الحركي 44 تعديل، التقدم والاشتراكية 49 تعديل، العدالة والتنمية 57، فاطمة التامني 29 تعديل، نبيلة منيب 17 وأخيرا الحكومة قدمت 56 تعديل، ومما لا شك فيه أن هذا العدد الكبير من التعديلات يكشف بشكل مزيف عن وجود حياة سياسية ونقاش صحي ومشاريع وتصورات متباينة وحتى متناقضة بخصوص هذا القانون في المؤسسة البرلمانية، إلا أن تفحصا للوثائق في موقع مجلس البرلمان يكشف زيف هذا الادعاء، ويؤكد بأن هناك مجرد نفخ في الأرقام.
فإذا أخدنا على سبيل المثال شق التفاعل مع التعديلات الذي أشار اليه وزير التشغيل فإن 95 تعديل من تعديلات الفريق الاتحادي من أصل 111 تم رفضها كما أن الفريق الدستوري سحب 20 تعديل من أصل 27 تقدم بها، وهو نفس الأمر بالنسبة لنبيلة منيب التي سحبت 8 تعديلات من أصل 17، وبالنسبة لطبيعة التعديلات فهي سخيفة في عمقها، فعلى سبيل المثال فإن مجرد عبارة: (يجب توضيح معنى يمنع عرقلة حرية العمل خلال مدة سريان الاضراب) تحتسب تعديلا، كما أن مجرد هذه الإضافة البسيطة مثل عوض ( السهر باتفاق مع المشغل على ضمان استمرارية الخدمات الأساسية…من المادة 20) استبدالها بعبارة: (السهر في حالة الاضراب باتفاق مع المشغل على ضمان استمرارية الخدمات الأساسية…) احتسبت أيضا ضمن ذلك العدد المنفوخ والذي يسوق بطريقة مغلوطة.
عود على بدء، فإن المادة الأولى من هذا القانون التنظيمي والتي كانت وفق الصيغة الأولى لا تتجاوز عبارة: “تطبيقا لأحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 29 من الدستور يحدد هذا القانون التنظيمي شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب” وبعد إصرار المركزيات النقابية المشاركة في حوالي 30 اجتماع، لم يرشح عنها أي شيء للعمال ولا حتى للنقابيين، وهي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب والاتحاد المغربي للشغل على ضرورة تضمين المشروع ديباجة تنص على ضمان حق الإضراب والتزام المغرب بتعهداته، فقد أصبحت هذه المادة تحمل عددا من الجمل الانشائية ذات القيمة الفلسفية العامة من قبيل: تعزيز وتوسيع مجال الحريات عبر ممارسة حق الإضراب، وحق الإضراب حق دستوري ومن حقوق الإنسان الأساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعي وغيره… والتي ستأتي المواد اللاحقة لإفراغها من كل معانيها وإقرار كل ما يخالفها، وكما هو معروف فقها و قضاء بأن المشرع حين يقرر حقا معينا فإنه يبيح وسائل استعماله، فإنه في حالة مشروع القانون التنظيمي للإضراب 97.15 فإن المشرع إذ أقر الحق في ممارسة الاضراب في المادة الأولى منه، فإن باقي المواد الأخرى حرصت على سد كل منافذ ممارسة هذا الحق وسعت جاهدة لتجريمه، علما أن 11 مادة من أصل 35 مادة من هذا القانون مخصصة للعقوبات، أي حوالي ثلث مواد القانون وجهت للعقوبات والباقي لترصد الهفوات والتخويف وشرعنة كل الوسائل الاحتيالية لفائدة الباطرون والدولة لجعل كل إضراب غير مفيد وغير ذي جدوى حتى في حالة خوضه، وهذا ما يتضح بداية من المادة الثانية التي سعت لإعادة مراجعة تعريف الإضراب من أجل التضييق من نطاقه.
فإقحام لفظة “الإرادي” في تعريف الإضراب ك” توقف إرادي جماعي” عوض “توقف جماعي” فقط، هو بنية التحضير لمعاقبة النقابيين على تعبئتهم للإضراب، فالنية السيئة لاعتماد “عيوب الارادة” من غلط وتدليس حاضر في نية المشرع، وسنشهد مستقبلا متابعات تحت مبرر استعمال طرق أو طرائق احتيالية للتعبئة بهدف الخديعة ولإيهام المتضررين بصحة أمور غير واقعة لحملهم على الإضراب وإيقاعهم في الغلط، زيادة على ذلك فإن هذا التعريف بمحاولة ربطه بظروف العمل وبتحسين الوضعية المادية للمضربين فقط يكون بذلك قد اعتبر الإضراب التضامني إضرابا غير مشروع يبرر كل العقوبات التي يمكن أن تتخذ في حق المضربين، وجميعنا يعلم بأنه لو اخترنا مرادفا للنقابة لكان هو التضامن، و منظمة العمل الدولية تعتبر كل أنواع الإضراب مشروعة بما فيه الإضراب السياسي والتضامني وحين تحدثت عن إضراب التضامن أو التعاطف أشارت إلى أن :” الحظر العام على إضرابات التعاطف يقود يؤدي إلى التعسف ويجب أن يتمكن العمال من القيام به بشرط أن يكون الإضراب الذي يدعمونه بحد ذاته قانونيا”، وبالإضافة لذلك فإن أنواع أخرى من الإضراب أصبحت في خبر كان من قبيل: الإضراب الدفاعي والإضراب اللامحدود والإضراب الفجائي والإضراب غير المتفق عليه والإضراب غير محدد المددة والإضراب الذي يهم المطالب غير المباشرة للأجراء والإضراب المواجه للسياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة ولو كانت تلك الإجراءات لها أثر مباشر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعمال لأن صاحب التعريف حاول أن يربط مطالب الإضراب بالمؤسسة أو المقاولة أو المرفق المعني، علما أن عبء اثبات شرعية الإضراب يقع على المضربين كما أكدته المادة 15 وهي تعدد بيانات قرار الإضراب.
من المعلوم أننا حين نخوض الإضراب نخوضه كمواطنين وكموظفين ومأجورين وعمال، إلا أن القانون التجريمي للإضراب يحاول تجريدنا من المواطنة ويمنع كل إضراب بهذه الصفة فلا يستبقي سوى الأشكال المهنية الضيقة منه، وهي الأشكال التي لا تخيف ولا تحرج، بل بالإمكان تزكية ودعم زخمها في سياقات معينة، وبذلك يمسخ النقابة ويعزلها عن نبض المجتمع وقضاياه ويجعلها بلا أفق تحرري ويمس علة وجودها بل وحتى مبادئها من قبيل التقدمية والجماهيرية، ويقضي على هوامش حرية الرأي والتعبير الضيقة أصلا.
وزيادة في بلة طين واقع يتسم بالكبس المستمر لشقي الرحى على المواطنين، فإن هذا القانون التنظيمي للإضراب، والذي اتخذ علة لمصادرة هذا الحق كان في نسخته الأولى يقصي كل التنظيمات التي لا تملك صفة النقابة أو التي لاتزال في طور الإنشاء أو التي ليست لها صفة التمثيلية حسب مدونة الشغل من ممارسة حق الاضراب، أما في نسخته المعدلة فقد طور تقييده بإضافة تفصيل جديد وهو “النقابة في وضعية قانونية سليمة” ويقصد بذلك النقابات التي حصلت على وصولات ايداعها القانونية، بمعنى أن كل النقابات التي حرمتها وزارة الداخلية بتعسف وشطط في استعمال السلطة من تلقي ملفاتها القانونية أو منحها وصولات إيداعها، فإنها ستمنع من ممارسة الإضراب تحت طائلة مجموعة من العقوبات التي أفردتها لها في حالة مغامرتها للقيام بالإضراب ولمنخرطيها كذلك ما دامت المادة السادسة في فقرتها الأولى قد حملت حتى المضربين مسؤولية ضرورة التأكد من كل هذه المعطيات قبل خوض الإضراب، ممارسة نوعا من التخويف والضغط المعنوي على المضربين والتهديد بالمتابعة القضائية ودعم التيئيس من أدوات النضال وخصوصا أدوات النضال النقابي المسؤول والصادق، ناهيك عن كون هذا القانون التنظيمي للإضراب لم يشر في أي مقتضى منه للمكاتب النقابية خصوصا في القطاع العام على المستويات الإقليمية والمحلية والجهوية وجميعنا يعلم بأن مجموعة من المشاكل المحلية والإقليمية والجهوية تستدعي الاحتجاج في مستواها الترابي والتفاوض عليها في هذا المستوى كذلك، إلا أن صائغ المشروع تجاهل عمدا ذلك بغية إخراس كل الأصوات وإطلاق يد العبث لتلهو بمصائر الجميع دون إزعاج.
بخصوص مقتضى “العمل مقابل الأجر” فإن القانون التنظيمي اعتبر الإضراب حتى ولو كان مشروعا فإنه يستوجب الاقتطاع من الأجر/ أي أن المضرب يعاقب مرتين، مرة أولى بالخرق أو الانتهاك الذي مسه ومرة ثانية بالاقتطاع من الأجر، حيث يمكن للأجير القيام بإضراب من أجل تلقي الأجور المتأخرة فيعاقب بالاقتطاع منها، هذه الاضرابات التي أصبحت ممارستها داخل المؤسسة أو المقاولة او المرفق تشكل ممارسة جرمية للإضراب، لأنها تعد احتلالا لمقر العمل، وبذلك فإن هذا القانون عمل جاهدا على الحيلولة دون تمكين الشغيلة من أي وسيلة لجعل إضرابها جديا وفي حالة ذلك عمل على معاقبته باقتطاعات لم تعد تحمل اسم السرقة أو اللصوصية أو قرصنة حليب الرضع ودواء المرضى والعجائز الذين يتكلف الموظف أو العامل بضمان حمايتهم الاجتماعية، كما كنا إلى عهد قريب نسمي هذه الإجراءات التحكمية المتسمة بالغلو في الشطط والإسراف في التعسف، بل أصبحت اقتطاعات قانونية وإجراءات مشروعة.
ولن ننسى بالطبع الإشارة إلى كون الإضرابات وفق هذا القانون التنظيمي أضحت محددة المدة وكل إضراب يمكن أن يتجاوز ثلاثة أيام يمكن الطعن فيه لدى القضاء الاستعجالي لإبطاله باعتباره تعسفا في استعمال هذا الحق، وهناك العديد من السوابق والاجتهادات القضائية في هذا الشأن، علما أن إضرابات الأسبوع والأسبوعين وحتى الشهر والشهرين لا يمكنها إطلاقا أن ترغم وزارة ولا غيرها على الجلوس لطاولة الحوار، وقد عشنا هذا الوضع لسنين طويلة، فالإضراب إذا لم يكن ممتدا في الزمان ومصحوبا بتصعيد جدي وحقيقي وإنزالات ميدانية ومواظبة على شحذ العزائم والإصرار على عدم توقيف المعركة فإنه لا يمكن أن يرتب فتح حوار حقيقي مع مسؤولين لا تأتي بهم صناديق اقتراع ولا يمكن بالتالي محاسبتهم انتخابيا أو برلمانيا، لأن وسائل فرزهم لا علاقة لها بهذه الآليات.
بقي أن نشير إلى أن المدة ما بين إعلان الإضراب وممارسته في القطاع العمومي أصبحت هي ستون يوما، أي شهرين كاملين من أجل إضراب لمدة يوم واحد على الأكثر ستقتطع أجرته بالطبع، ويمكن للوزارة أن تباشر بعد هذا الإجراء متابعات قضائية للهيئة المضربة وبعض المضربين بمبررات شتى لا يمكن التكهن بمدى خصوبة العقل المخزني في صناعتها، أما بشأن العقوبات المطبقة على الباطرونا فهي تثير الضحك إذ أن عملية حسابية بسيطة بين ما يمكن ربحه وخسارته من أي إضراب سيشجع كل المقاولات على عرقلته بكل الطرق، أما المقاولات الكبيرة فسيشكل هذا القانون آخر عهد لعمالها بالإضراب.
عموما فإن هذا القانون يشكل نكسة كبيرة للنضال النقابي ولحرية الرأي والتعبير ولكل النقابيين الديمقراطيين المتشبثين بعمق بقضايا الطبقة العاملة، الأمر الذي يستدعي تشكيل أوسع جبهة لمقاومة هذه الترسانة القانونية القمعية والتصدي لها وذلك بدءا بتسليح الأذهان فكريا وإعلاميا وتحريك الرأي العام والتنبيه لفداحة خيارات مسايرة هذه التعديات والتماهي مع عصابة رأس المال وخدمتها، وتكثيف التعاون والتشاور والتنسيق بشأن إطلاق حركة احتجاج واسعة لوقف هذا الغول وإعادته لحضيرته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق