جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

أوقفوا التلوث و الموت البطيء في قابس...!عمران حاضري

 أوقفوا التلوث و الموت البطيء في قابس...!

في قلب الجنوب التونسي، تحوّلت قابس من فضاء طبيعي جميل يجمع بين البحر والواحة و الحضارة و التاريخ إلى مختبر للتلوّث الصناعي المُمنهج، بعد أن تم تنصيب المجمّع الكيميائي منذ سبعينيات القرن الماضي ، كأداة لتحويل الفسفاط من الحكومة إلى أرباح ريعية باسم “التنمية” ، في حين لم يكن سوى وجه من وجوه منطق التبعية واقتصاد السوق المعولم و بإيعاز من بعض الدول الغربية ( فرنسا و المانيا حسب بعض المراجع)...!
فبدل أن يكون مشروعاً سيادياً منتجاً للثروة وللعدالة في المجالين الاجتماعي و البيئي ، أصبح رمزاً للتنمية المشوّهة التي تُحوّل المناطق المهمّشة التي تعاني الاءفقار و الاستبعاد الاجتماعي إلى “مناطق تضحية”، حيث تُدفن السموم وتُختبر حدود الصبر الشعبي...!
و للعلم ، ينتج هذا المجمّع الكيميائي انبعاثات كثيفة من ثاني أكسيد الكبريت والأمونيا وغازات خانقة أخرى ، ويقذف ملايين الأطنان من الفوسفوجبس المشبّع بالمعادن الثقيلة نحو البحر والتربة والهواء، ما حوّل خليج قابس إلى واحد من أكثر الخلجان تلوثاً في المتوسط، حيث أدّى إلى انهيار الثروة السمكية، وتلوث السواحل، وتخريب التنوع البيولوجي، وحرمان الأجيال القادمة من حقها الطبيعي في بيئة سليمة...!
في جانفي 2023 ، نشر موقع* Vakita
بعد القيام ببحث حول الأسمدة المصنوعة في قابس ، حيث أشار التقرير البحثي حول نسبة المعادن الثقيلة مع العتبة الجاري بها العمل في كندا ، أن نسبة
Cadmium
في شاطىء السلام على سبيل المثال و هي واحدة من أخطر المعادن الثقيلة المسرطنة قدرت ب
900
مرة أكثر من معدل العتبة العليا
المسموح بها لدى السلطات الكندية...! و أن بعض العينات أثبتت وجود
Zinc
85
مرة أكثر من العتبة المتداولة
و أن مادة
Arsenic
تفوق اكثر من 112 مرة
العتبة حسب المواصفات ...!
وأن انتاج طن واحد من الحامض الفسفوري يترتب عليه 5 طن من النفايات المشبعة بالمعادن الثقيلة السامة...!
هذا التلوّث البنيوي لم يبقَ بيئياً فحسب، بل تحوّل إلى مأساة صحية صامتة: مما أدى إلى ارتفاع أمراض الجهاز التنفسي والحساسية المزمنة، انتشار أمراض الكلى والكبد، وازدياد حالات السرطان بشكل لافت، وصولاً إلى حوادث تسرب غازي حديثة أدخلت عشرات المواطنين—بينهم أطفال—إلى المستشفيات 310 مواطناً تم ايواؤهم بالمستشفى وسط غياب أي مسؤولية حقيقية من السلطات أو إدارة المجمع...!
تعمل السلطة كما كل السلطات منذ عقود إلى الآن حيث استفحال ظاهرة التسمم ، على تغليف الكارثة بخطاب تسويفي ، تضليلي هلامي ، و تنموي زائف...! بينما تحمي أرباح الصناعات الكيميائية العامة و الخاصة ولو على حساب حياة المواطنين ، مع غياب الرقابة البيئية، وطمس نتائج الدراسات العلمية ذات الصلة ، وترك المواطنين و خاصةً الفقراء منهم يموتون ببطء تحت سطوة “الاختناق اليومي”...! هكذا يتجلى البعد الطبقي التمييزي : حيث مراكز القرار و المستثمرون يستفيدون ، و مجتمع الهامش يدفع الثمن..! ليصبح الجسد الشعبي هو الحقل المسموم الذي
تُجرَّب عليه سياسات اللامساواة...!
في مواجهة هذا الواقع المؤلم ، ارتفع منسوب وعي الأهالي بخطورة تفشي ظاهرة التسمم و التلوث و مخاطر المرض و الموت ، فتحوّلت قابس إلى ساحة مقاومة بيئية شعبية، حيث خرج المواطنون في احتجاجات عفوية فهم ليسوا دعاة شغب كما يسوق البعض ولا يملكون ترف النزول إلى الشارع ، بل تحركهم مطالبهم المشروعة و بحقهم في الهواء النظيف والحياة الكريمة و الحماية من انتشار الأمراض و الموت البطيء، و التأكيد على احترام السلطة تعهداتها القاضية بتفكيك الوحدات الكيميائية
منذ سنة 2017لكن السلطة واجهتهم بالغازات المسيلة للدموع، في مفارقة مأساوية: السلطات التي سمحت و تسمح للسموم الصناعية باختراق صدور الناس لا تتردد في قمعهم ، عندما يصرخون دفاعاً عن رئاتهم و شروط حياتهم...!
لقد تجلّى هنا جوهر الصراع: بين منطق الربح الريعي ومنطق الحق في الوجود، بين الحكومات التي تراهن منذ عقود إلى الآن ، على استمرار النموذج التابع، وشعب يرفع شعار السيادة على الثروة و الحق في الصحة والبيئة و الرعاية...!
إن مطلب تفكيك وغلق الوحدات السامة ليس نزوة عاطفية ولا شعاراً شعبوياً، بل هو تعبير عن وعي تاريخي بأن بقاء هذا المجمع بصيغته الحالية و عدم غلق الوحدات السامة ، هو حكم إعدام بطيء للمنطقة و مواطنيها...
إنه مطلب تحرري وطني ، يعيد تعريف التنمية بعيون العدالة البيئية والاجتماعية، ويؤكد أن لا سيادة وطنية من دون سيادة على الثروات، ولا اقتصادا وطنياً من دون فك الارتباط مع التبعية و واعتماد منوال تنموي منتج فلاحة و صناعة قادر على إنتاج الثروة و القيمة المضافة و تخطي التهميش و القطاعات الاقتصادية الهشة و المضرة و أن تكون صحة الإنسان فوق منطق الربح...!
تلوث مدينة قابس يفتح ملف التلوث في كامل أرجاء البلاد مثل الحوض المنجمي و صفاقس و بن عروس... و الحق في بيئة نظيفة و سليمة...
قابس اليوم ليست مجرد قضية* بيئية ، بل نموذج لصراع الجماهير الشعبية مع التهميش و نموذج تنموي تبعي ريعي رث ، ومع سلطات تبعية حاكمة ، مستعدة للتضحية بالإنسان من أجل جني بعض الامتيازات على حساب حياة كالحياة...!
من هنا، تصبح معركة تفكيك الوحدات السامة و غلقها ، معركة وجود وكرامة وسيادة، ومعركة فتح أفق تنموي تحرري جديد يعيد للجنوب و الجهات المنسية و المناطق التي تعاني التلوث...وولسائر الطبقات الشعبية المهمشة الحق في الحياة، ولتونس حقها في مستقبل أفضل في سياق التحرر الوطني و الانعتاق الاجتماعي بأفقه الاشتراكي ...!
# حياتنا اغلى من أرباحهم #
عمران حاضري
17/10/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *