مقتل أميركيين في هجوم لـ"داعش" يعيد طرح أسئلة الوجود العسكري الأميركي في سوريا*جريدة القدس
مقتل أميركيين في هجوم لـ"داعش" يعيد طرح أسئلة الوجود العسكري الأميركي في سوريا
أعاد الهجوم المسلح الذي أودى بحياة جنديين أميركيين ومترجم مدني أميركي وسط سوريا، وجرح ثلاثة آخرين، تسليط الضوء مجددًا على طبيعة ومآلات الوجود العسكري الأميركي في البلاد، في لحظة سياسية يُفترض أنها «انتقالية» عقب سقوط نظام بشار الأسد، وتراجع مبررات التدخل العسكري المباشر التي رُوّج لها على مدى أكثر من عقد.
الهجوم، الذي نُسب إلى تنظيم "داعش" ووقع قرب مدينة تدمر، يُعد الأول الذي يُسفر عن قتلى في صفوف القوات الأميركية منذ انهيار النظام السوري السابق قبل عام. إلا أن رمزيته تتجاوز كونه حادثًا أمنيًا معزولًا، ليكشف هشاشة الافتراض الأميركي القائل بإمكانية إدارة حضور عسكري محدود في بيئة لا تزال مفتوحة على الفوضى، والانقسامات، وتعدد مراكز القوة.
ووفق رواية البنتاغون، وقع الهجوم أثناء مهمة ميدانية شملت لقاءً بين عسكريين أميركيين وقيادات محلية، في إطار ما تصفه واشنطن بدعم جهود "مكافحة تنظيم داعش". وأشارت القيادة المركزية الأميركية إلى أن مسلحًا "منفردًا" نصب كمينًا لدورية أميركية، ما أدى إلى اشتباك قُتل خلاله المهاجم. غير أن توصيف الهجوم كفعل فردي لا يحجب حقيقة أن التنظيم لا يزال قادرًا على اختراق الطوق الأمني، واستهداف قوات أجنبية، حتى في مناطق يُفترض أنها تخضع لرقابة استخبارية مكثفة.
في المقابل، قدّم مصدر أمني سوري رواية متقاطعة، قال فيها إن المهاجم كان جزءًا من خلية تابعة لـ"داعش"، واستهدف في البداية الحراسة الخارجية المرافقة لقيادات أميركية، قبل أن يتطور الاشتباك. أما وزارة الداخلية السورية فذهبت أبعد من ذلك، معتبرة أن قوات التحالف الدولي تجاهلت تحذيرات مسبقة بشأن مخاطر أمنية في المنطقة، في اتهام غير مباشر يطعن في فعالية التنسيق الأمني بين الطرفين، ويعكس فجوة ثقة لا تزال قائمة رغم التحولات السياسية الأخيرة.
وتعهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي وصف الضحايا بـ«الوطنيين العظماء»، بالرد على الهجوم، واعتبره "اعتداءً من داعش علينا وعلى سوريا". لكن هذا الخطاب، الذي يعيد إنتاج منطق "الحرب على الإرهاب"، لا يجيب على سؤال أعمق: ما الذي يبرر استمرار تعريض الجنود الأميركيين للخطر في مسرح عمليات لم يعد، نظريًا على الأقل، يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأميركي؟
وشددت وزارة الدفاع الأميركية ، على لسان المتحدث شون بارنيل، على أن القوة المستهدفة كانت تنفذ مهمة تنسيق ودعم مع "شركاء محليين". غير أن هذا التوصيف الفضفاض يثير بدوره إشكالية طبيعة هذه الشراكات، وحدودها، ومدى قبولها محليًا، خاصة في ظل إعادة تشكل السلطة في دمشق، وسعي الحكومة السورية الجديدة إلى بسط سيادتها على كامل الأراضي.
ويأتي هذا الهجوم في وقت تنشر فيه الولايات المتحدة مئات الجنود في شرق سوريا، ضمن إطار التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، رغم أن سوريا انضمت رسميًا إلى هذا التحالف الشهر الماضي، في خطوة عكست تحسنًا في علاقاتها مع الغرب بعد سقوط نظام الأسد. هذا التطور يطرح تساؤلًا منطقيًا حول ما إذا كان استمرار الانتشار الأميركي بات ضرورة أمنية فعلية، أم أنه يعكس ترددًا سياسيًا في التخلي عن أدوات النفوذ العسكري.
ولم ينعكس التحول في العلاقات الأميركية – السورية، والذي تُوّج بزيارة الرئيس السوري المؤقت أحمد الشارع إلى واشنطن ولقائه الرئيس ترمب، بعدُ على شكل مراجعة جذرية للوجود العسكري الأميركي. بل يبدو أن واشنطن لا تزال أسيرة مقاربة قديمة، ترى في قواتها "ضامنًا للاستقرار"، رغم أن الوقائع الميدانية تُظهر أن هذا الوجود نفسه بات عامل استهداف، وربما توتير، بدل أن يكون عنصر ردع.
كما أن هذا الهجوم ليس معزولًا عن سياق أوسع؛ فقد تعرضت القوات الأميركية في سوريا، بما فيها قاعدة التنف، لهجمات متكررة خلال السنوات الماضية، أبرزها تفجير منبج عام 2019. ومع أن الظروف السياسية تبدلت، فإن نمط الاستنزاف الأمني يبدو مستمرًا، ما يضع صانعي القرار في واشنطن أمام معضلة حقيقية: إما إعادة تعريف المهمة والأهداف، أو الاستمرار في إدارة خطرٍ لا يملك أفقًا واضحًا للخروج.
وفي المحصلة، لا يكشف هجوم تدمر فقط عن عودة "داعش" كتهديد أمني، بل يسلّط الضوء أيضًا على إشكالية الوجود العسكري الأميركي في سوريا ما بعد الأسد: وجود بلا تفويض واضح، في بيئة متحولة، وبكلفة بشرية وسياسية تتزايد، من دون إستراتيجية خروج معلنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق