جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

بين نسوية المشهد وإعدام التضامن: (قراءة في حالتي سكينة بنجلون وسعيدة العلمي)للأستاذة Layla Ahdad... ليلى احداد

 بين نسوية المشهد وإعدام التضامن: (قراءة في حالتي سكينة بنجلون وسعيدة العلمي)

لا يمكن قراءة القانون بمعزل عن موازين القوى الطبقية، فالقانون ليس مجرد نصوص مجردة، بل هو أداة في يد "البنية الفوقية" لإعادة إنتاج الهيمنة. حين نقارن بين حالتي سكينة بنجلون وسعيدة العلمي، نحن لا نقارن بين حكمين قضائيين فحسب، بل نحن أمام تعرية سوسيولوجية للمأزق الذي تعيشه النسوية الليبرالية، التي باتت تختار معاركها بناء على الرأسمال الرمزي والقدرة على الاستعراض.
في حالة سكينة بنجلون، نحن أمام فعل يقع في قلب "مجتمع الاستعراض". التشهير ونشر الخصوصيات، رغم كونه انتهاكا قانونيا وأخلاقيا، لاقى تعاطفا نسويا واسعا. لماذا؟ لأن قضيتها قابلة "للتسليع" كقصة درامية فردية. النسوية الليبرالية تجد في هذه النماذج ضالتها، فهي "تمرد" لا يمس جوهر السلطة ولا يفكك البنى الاقتصادية أو السياسية، بل هو صراع أفقي بين أفراد. التضامن هنا كان "تضامنا عاطفيا" يستهلك الصورة، ويسقط إحباطات النساء الشخصية على بطلة رقمية، مما منحها حماية رمزية أدت لتخفيف العقوبة (ثلاثة أشهر).
على الضفة الأخرى، تقف سعيدة العلمي. جريمتها لم تكن التشهير بالأفراد، بل "تسمية الأشياء بمسمياتها" في الحقل السياسي والحقوقي. ومع ذلك، واجهت عقوبة قاسية (ثلاث سنوات) وسط صمت مطبق من "التريند" النسوي. هذا الصمت ليس عفويا، بل هو نتاج خوف طبقي وفقر سياسي. فالمطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية التي رفعتها سعيدة، تتجاوز سقف "الحريات الفردية" الهشة لتصطدم بصلابة الدولة وجهازها القمعي. النسوية التي لا تتبنى وعيا تخشى الاقتراب من سعيدة، لأن الدفاع عنها يعني الانخراط في معركة ضد السياسات الكبرى، وليس مجرد الصراخ ضد "رجل" في فيديو مسرب.
إن قصور النسوية الليبرالية هنا لا يتجلى فقط في صمتها، بل في الكيفية التي تعيد بها إنتاج "التراتبية الطبقية" تحت مسمى الدفاع عن الحقوق. فالامتياز الذي تتمتع به فئة من النساء لا يمنحهن فقط حماية قانونية أفضل، بل يمنحهن القدرة على هندسة المشهد، أي تحويل معاناتهن الفردية إلى منتج يسهل استهلاكه والتعاطف معه. وهنا يبرز الرابط العضوي بين مأزق الامتياز وبين آليات التسليع والتغريب.
تسليع التضامن: في ظل الرأسمالية، لم يعد التضامن فعلا سياسيا يهدف للتغيير، بل استحال إلى "فعل استهلاكي" محكوم بمنطق الربح والخسارة الرقمية. قضية سكينة بنجلون، بما تحمله من "دراما شخصية"من تشهير سب وقذف، هي مادة "دسمة" للميديا والمنصات، إنها "سلعة" تجلب المشاهدات وتثير الغرائز العاطفية الأولية. لذا، تبنتها النسوية الليبرالية لأنها قضية مربحة رمزيا ولا تكلف صداما مع السلطة. في المقابل، قضية سعيدة العلمي "كاسدة" بمقاييس السوق؛ فهي قضية جافة، سياسية، تخلو من الإثارة الاستعراضية وتتطلب وعيا فكريا وموقفا نضاليا مكلفا، لذا تم استبعادها من "سوق التضامن".
تغريب النضال النسوي: هذا الانتقاء القائم على الامتياز والتسليع يؤدي إلى عملية "تغريب" ممنهجة للمرأة عن قضاياها الحقيقية. عندما يضج الفضاء النسوي بالدفاع عن "حق التشهير" كفعل تحرري، ويصمت عن "حق التعبير السياسي" كفعل نضالي، فإنه يزيف وعي النساء ويغربهن عن واقعهن الطبقي. يصبح النضال هنا مستلبا حيث تتوهم النساء أن معركتهن هي مع "الرجل الفرد" في نزاع شخصي (كما في حالة سكينة)، بينما يتم التغاضي عن المعركة الأساسية ضد "البنى المؤسساتية" التي تسجن النساء بسبب آرائهن (كما في حالة سعيدة). هذا التغريب يحول النسوية من قوة ثورية لتغيير المجتمع إلى "نادي امتيازات" يخدم فئة معينة، ويترك المناضلات الحقيقيات في عزلة تامة لأنهن رفضن تحويل نضالهن إلى "شو إعلامي".
تكشف المقارنة بين حالتي سكينة بنجلون وسعيدة العلمي أن الاختلال لا يطال المؤسسة القضائية في بعدها الإجرائي فحسب، بل يمتد إلى منطق التضامن ذاته بوصفه ممارسة مُسيَّسة محكومة بعلاقات القوة، وبالتمفصل بين البنية الفوقية والقاعدة المادية للمجتمع، حيث تتحول النسوية الليبرالية، حين تفصل المسألة النسوية عن شروطها الاقتصادية والاجتماعية وعن الصراع البنيوي مع الدولة، إلى جهاز إيديولوجي ناعم يعيد إنتاج الامتياز الطبقي داخل خطاب الحقوق، ويضبط حدود المسموح والممنوع في الاحتجاج.
إن تغييب سعيدة العلمي لا يمكن قراءته كصدفة أو فتور عاطفي، بل كأثر مباشر لخوف بنيوي من تسييس النضال النسوي وربطه بأسئلة السلطة، القمع، والعدالة الاجتماعية، إذ إن الدفاع عنها يفرض تجاوز أفق الحريات الفردية المُدبَّرة نحو مواجهة الدولة كفاعل مركزي في إنتاج العنف الرمزي والمادي. ففي اللحظة التي يُعاد فيها تأطير التشهير كفعل تحرري مشروع، ويُجرَّم فيها التعبير السياسي بوصفه تهديدًا للنظام العام، نكون أمام انزياح إيديولوجي حاد من منطق التحرر الجماعي إلى منطق التدبير النيوليبرالي للاحتجاج، حيث يُعاد احتواء الغضب، وتفريغه من مضمونه الراديكالي، وتحويله إلى مشهد استعراضي قابل للاستهلاك. وبهذا الانزياح، تفقد النسوية بعدها التاريخي بوصفها قوة تفكيك للهيمنة، وتتحول إلى ممارسة رمزية تعيد إنتاج النظام القائم بدل زعزعته، وتستبدل الصراع السياسي الفعلي بعرض موسمي منزوع الأثر، يُقصي المناضلات اللواتي اخترن مواجهة البنى لا الاكتفاء بتدوير الصور داخل اقتصاد الانتباه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *