جاري تحميل ... مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

بين غازي الصوراني وسامي الاخرس وابو شملة

 

اجابات الرفيق غازي الصوراني على بعض اسئلة المقابلة

أسئلة موجهة إلى أ.غازي الصوراني

 

 

سؤال من أبو شمله : دكتور غازي مساالخيرأعلم أنكم لاتخرجون عن الأجماع الوطني كجبهةشعبيه أريدأن أعرف تصوراتكم في إصلاح م ت ف وموقفكم من المفاوضات مع اسرائيل في ظل الواقع العربي الآني وماهي البدائل بنظركم وشكرا

 صديقي ابو شملة

 ان التحولات والمتغيرات التي تعرضت لها م.ت.ف، منذ مرحلة ما بعد أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية منذ منتصف عام 1994 إلى يومنا هذا، قد أدت إلى تبهيت واضعاف دورها   كفكرة مركزية توحيدية في الذهنية الفلسطينية عموماً وفي أذهان الشباب خصوصاً، ولذا فان من حق الجيل الشاب من أبناء شعبنا الذي تتجاوز نسبته اليوم حوالي 55% من مجموع الفلسطينيين في الوطن والشتات، ان يتساءل عن ماهية المنظمة ودورها ومكانتها كوطن معنوي او كإطار جامع لوحدة شعبنا، ومن حقه أيضا ان يسأل عن قيمة ومغزى الإصلاح الهيكلي للمنظمة، سواء بالنسبة لإعادة تشكيل المجلس الوطني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية وكافة المؤسسات الأخرى اذا لم تستطع استعادة دورها او وظيفتها الأساسية الأولى التي أنشئت أصلاً من اجلها ، لتكون بالفعل إطاراً جامعاً لكافة القوى المناضلة في سبيل تحرير فلسطين .

اننا في الجبهة ، كنا وما زلنا ،  ندرك أن استمرار الانتساب إلى المنظمة جاء لكونها باتت تجسد هوية الشعب الفلسطيني الوطنية المؤسسية بغياب دولة له،  أما بالنسبة لمجلسها الوطني، فقد نظرنا له باعتباره رديف البرلمان في دولة أو سلطة تحكم  وتسود فيها البورجوازية ، ولا بأس بالتالي للجبهة من العمل في هذه الحلبة البرلمانية على تشكيل محور يساري داخل م.ت.ف للنضال ضد انحرافات اليمين – بكل تلاوينه ومنطلقاته - عن البرنامج الوطني ، وذلك انطلاقا من تحليلنا بان  السبب الجوهري لاخفاقات منظمة التحرير الفلسطينية  يعود الى بنيتها الطبقية عموماً ، وبنية وسياسات حركة فتح خصوصاً ،حيث لم تستطع  التمسك بمنطلقاتها وأهدافها السياسية في تحرير كل فلسطين، وفق نصوص ميثاقها،الامر الذي ادى إلى مسار الهبوط والتراجع في م.ت.ف بصورة تدرجية وبذرائع مختلفة عبر محطات تاريخية  متصلة منذ عام 1974 الى يومنا هذا .

  ولكن على الرغم من رفض أو معارضة الجبهة الشعبية المبدئية ، لذلك المسار الهابط، إلا أن هذه المعارضة لم ترتقي إلى حالة امتلاكها القدرة الفعلية على وقفها ، وبالتالي استمرت حركة المسار الهابط في مسلسل تنازلات قيادة م.ت.ف ووصول المنظمة  إلى وضعية يرثى لها، حيث جرى تغيير برنامجها بعد أوسلو لكي يتوافق مع الاتفاقات الموقعة، وبالتالي بات برنامجها هو برنامج أوسلو لا غير.  بمعنى أن المنظمة لم تعد منظمة للتحرير، بل للتفاوض العبثي المساوم على الشروط الامريكية الاسرائيلية كما نشهد اليوم في ضوء خطاب رئيس حكومة العدو نتنياهو (أمام الكونجرس 24/5/2011) من ناحية وخطاب حليفه الاستراتيجي " اوباما " ، لهذا فان شعور القلق الذي ينتاب القسم الاكبر من ابناء شعبنا وخوفهم من ان تتحول منظمة التحرير الفلسطينية ، عبرالقيادة  الحالية  الى معبر أو  جسر للتنازلات  هو شعور مبرر ومشروع . وفي هذا السياق فإنه من حقنا كجبهة  بل من واجبنا أن نفضح ممارسات هذه القيادة وتنازلاتها، وأن نتصدى لهبوطها و أوهامها ، انطلاقاً من أن تأييدنا لنضال شعبنا  ضد مضطهديه تأييداً غير مشروط ، بمعنى تأييد هذا النضال بمعزل عن طبيعة قيادته، لا يعني بتاتاً تأييد قيادة م.ت.ف بدون شروط .

  استنادا إلى ذلك فان خيارنا كفلسطينيين وجبهاويين يقوم على أساس أن المنظمة، وبالرغم من كل ما لحق بها، لا تزال تمثل شعبياً وقانونياً ووطنياً إطاراً جمعياً، ومُعَبِّراً معنوياً وكيانياً عن وحدة الشعب الفلسطيني، لان شعبنا لم يحقق استقلاله وسيادته بعد، فان الحفاظ على المنظمة يعتبر ضرورة ومصلحة وطنية عليا تستدعي ايلائها الأهمية التي تستحق الارتقاء إلى ما تفرضه من مهام ومسؤوليات، وجعل هذه المسألة قضية وطنية عامة أو فكرة توحيدية مركزية يجري التحشيد والتأطير على نطاق شعبي واسع من اجل الالتفاف حولها وتطويرها وشطب كافة الاتفاقات المعقودة مع دولة العدو الإسرائيلي باسمها.

وحتى لا أكون واهماً ، أو داعياً لزراعة الأوهام ، فإنني أقول بصراحة إن  معركة الصراع على م.ت.ف ودورها وبرنامجها ومشروعها، لن تحسم بين ليلة وضحاها، فهي تحتاج لجهد ودأب وتحشيد وطني وجماهيري شامل يبقى مُنْشَدَّاً لهدف الحفاظ عليها كضرورة وطنية راهنا وفي المدى المنظور بالاستناد إلى ميثاقها وثوابتها .

وبناء على هذا الهدف ومتطلباته واستنادا للرؤية السياسية التي تحكمه  ، فان تصورنا لعملية  إعادة بناء وإصلاح م.ت.ف ،تتطلب الارتكاز إلى الأسس التالية : 

  1. وجوب التمسك بالثوابت الوطنية والقومية في الصراع مع العدو الإسرائيلي، انطلاقاً من أن الصراع هو صراع عربي صهيوني بالدرجة الأولى .
  2. التمسك بـ م.ت.ف والحفاظ عليها ككيان وطني وكهوية وشخصية وطنية وإطار جامع موحد للشعب الفلسطيني، وكبرنامج وميثاق وطني، والعمل على إعادة بناء مؤسساتها على أسس ديمقراطية بما يحافظ عليها كإطار وطني وجبهوي ديمقراطي تحرري.
  3. إعادة بناء المنظمة وهيئاتها ومؤسساتها على أسس ديمقراطية، عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني في مختلف تجمعات شعبنا داخل الوطن وخارجه حيثما أمكن ذلك، وبما يضمن تمثيله لكل القوى الوطنية والإسلامية ومختلف الفعاليات والمؤسسات الشعبية ، عن طريق اعتماد مبدأ انتخاب مختلف الهيئات على أساس التمثيل النسبي الكامل ، والحفاظ على تكوين م.ت.ف الجبهوي وعملها كمؤسسات، واختيار الرجل المناسب للمكان المناسب على أساس المصداقية والكفاءة دون تمييز ووفقا لأنظمة وآليات شفافة وديمقراطية .

 

أخيراً ، إن نقطة الانطلاق الصحيحة صوب الاتفاق على برنامج سياسي مشترك في إطار م.ت.ف ، تفترض من وجهة نظرنا، التمييز بين م.ت.ف باعتبارها كيانا معنويا، وتعبيرا سياسيا عن الشخصية الفلسطينية، التي يجب أن ترتكز سياستنا لحمايتها كمنجز وطني، وبين كونها إطاراً جبهوياً نتصارع فيه وحوله ومن خارجه، وإذ ننطلق من ذلك في ظل الواقع العربي الذي نعيش دينامياته وتحولاته  المختلفة  في هذه المرحلة، فإننا نرى أهمية التمييز أيضا بين المنظمة وبين مؤسساتها التي تظل موضوعاً للصراع والاختلاف السياسي الديمقراطي حولها، وحتى ننتقل إلى ممارسة خلاقة وفاعلة، فان المنطق يفترض التعامل مع المنظمة ومقدراتها كملك للشعب الفلسطيني لنا- كجبهة - الحق فيها كما للآخرين، وعلينا العمل لإنقاذها من التبديد والمصادرة، لان معركة الصراع على م.ت.ف ودورها وبرنامجها ومشروعها لن تحسم بين ليلة وضحاها، فهي تحتاج لجهد ودأب وتحشيد وطني وجماهيري شامل يبقى منشداً لهدف الحفاظ عليها كضرورة وطنية راهنا وفي المدى المنظور .

  اما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك حول موقفنا من التفاوض ، فهو يتلخص فيما يلي : لقد أوضحت تجربة التفاوض التي بدأتها قيادة م.ت.ف.، والتي توجت بقيام سلطة الإدارة الذاتية، أن حل الدولتين أو الحل المرحلي وفق شروط الإذعان، الاسرائيلية الأمريكية، ليس إلا نوعاً من الوهم ،  علاوة على أن مطالبة البعض بالحل المرحلي أو الدولة على الأرض المحتلة 1967 كحل نهائي، فإن هذا يعني من الناحيتين القانونية والسياسية الدولية شطب حق الفلسطينيين في العودة وشطب أية حقوق تاريخية لهم في أرض فلسطين ، إلى جانب القبول والتعايش  مع الدولة الصهيونية كقوة مسيطرة، كما الإمبريالية، أو بالترافق معها ، وهنا تتجلى وضوح موقف الجبهة الشعبية في إصرارها على استمرار النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها، وحل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الديمقراطي الاشتراكي . وانطلاقاً من هذا التحليل، يتوجب علينا أن نستنبط خطابنا السياسي وممارسة دورنا في م.ت.ف ، كما في أوساط الجماهير، لكن لا ينبغي علينا استسهال الأمر ، فهي ليست عملية ارتجالية ولا ميدانا للمزايدات ، انه تحدي المستقبل الذي يفرض علينا ثورة في الوعي ، وثورة في تفعيل وتطوير الحياة الداخلية للخروج من أزمتنا الداخلية الراهنة صوب النهوض السياسي والفكري والتنظيمي ، وكذلك ثورة في تعزيز وتوسيع إطار التحالفات الوطنية الديمقراطية( على المستويين الوطني والقومي ) ، وتفعيل وتطوير الفعاليات الجماهيرية والسياسية ، وتطبيق شعار المقاومة الشعبية والكفاحية ضد الاحتلال في الضفة الغربية (ساحة الصراع السياسي الرئيسية اليوم ) بصورة منهجية وهادفة ، ستضمن بالضرورة استقطاب قطاعات واسعة من الجماهير في الداخل والخارج والتفافها حول جبهتنا ، بما يضمن تحقيق البعد الثوري لعملية التوسع التنظيمي وأساليب النضال السياسية والديمقراطية والكفاحية ، والالتحام بالجماهير في علاقة تبادلية محكومة لوحدة الأهداف والتطلعات حيث ستفرض هذه الأهداف نفسها علينا كتحدي تاريخي ، كي نكون بمستوى التحدي والإدراك العميق لآليات التاريخ ونطابق بنانا الفكرية والعملية والعلمية معها، ونصبح بمستوى الغاية الحقيقية المحركة للطاقات والخبرات والضمائر ، وبأننا بمستوى وطن ننتمي إليه ونستحقه ونحن واعون لما نفعل ، بوعي وإرادة .  

 

 

 

أسئلة من سامي الأخرس:  

 

س1 : الرفيق أبو جمال: رأيك بحالة الاغتراب الفكري الذي تعيشها الجبهة الشعبية بين القومي والماركسي؟ وهل كان الإنتماء بحقبة السبعينات والثمانينات للجبهة مرتبط بعملها العسكري أم بأيديولوجيتها الفكرية؟ وهل حالة التراجع الحالية هي نتاج حالة الاغتراب الفكري التي تعيشها الجبهة الشعبية؟

الاغتراب، كمفهوم ذي دلالات، يمثل نمطا من تجربة يشعر فيها الإنسان بالغربة عن المجتمع من حوله وليس غربة عن الذات (جنون). ومعاني الاغتراب متعددة، اجتماعية ونفسية واقتصادية، ويمكن إجمالها في انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع،فيصبح المرء مرهونا له/ لها، بل مستلَبا. وهذا ما يولِّد شعورا داخليّا بفقدان الحرية والإحباط والتشيؤ والتذرِّي والانفصال عن المحيط الذي يعيش فيه.

حوَّل ماركس الاغتراب من ظاهرة فلسفية ميتافيزيقية، كما كان عند هيغل، إلى ظاهرة تاريخية لها أصولها التي تنسحب على المجتمع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. وبهذا استعمل ماركس مفهوم الاغتراب لوصف “اللاأنسنة” التي تنجم عن تطور علاقات الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، أو  لوصف "اللا أسنة" في مجتمع الاستبداد والقمع للحريات والتخلف.

ان البداية الصحيحة لنقاش أي مسألة كانت، تكمن في الاتفاق أولاً على ماهية المنهج السليم للنقاش ولإدارة الحوار ، وهذا ليس اختصارا للوقت ، بل الشرط الذي لا غنى عنه لكي يذهب البحث والنقاش صوب جوهر القضايا ولا يغرق في التفاصيل بما يضمن، تحقيق هدف الحوار ووظيفته التي تتحدد في استشراف الخطوط الرئيسية للمستقبل انطلاقا من الحاضر والماضي .

وفي كل الاحوال فإن الاغتراب من حيث المبدأ نتاج الإنسان، ورغم أن البشر بهذا المعنى هم الذين يصنعون العالم الاجتماعي الذي يعيشون فيه، فان هذا العالم يصبح فيما بعد غريبا عنهم لا يملكونه وإنما تملكه وتملك الإنسان معه أشياء أخرى صنعها الإنسان بنفسه ثم استقلت عنه وسيطرت عليه كما هو الحال في ظل علاقات السيطرة والاستغلال والقهر في المجتمعات الرأسمالية والمجتمعات التابعة والمتخلفة ، كما في بلداننا العربية ، حيث تسود هيمنة المؤسسات السلطوية وآلياتها السياسية والأمنية والاجتماعية بكل اجهزتها القمعية المتنوعة ، التي تخضع لآليات شبه مستقلة لا لإرادات الأفراد، وهكذا يحدث الاغتراب الذي لا سبيل لهزيمته إلا بمزيد من المعرفة المتحررة المبنية على الإدراك الشامل للطبيعة والمجتمع لكي تتيح له الانغماس في ممارسة الحياة مثل العمل المبدع والحب والتذوق لمختلف الفنون وإنتاجها بناء على الإدراك الشامل وتوسيعا له وتعميقا لأبعاده المختلفة.

الاغتراب يصبح له معنى أشمل عندما يرتبط بالفعل السياسي لدى الفصائل والأحزاب والحركات السياسية (الأحزاب، النقابات..) حينما تشعر أن ثقافتها السياسية ذاتها لم تعد من ممتلكاتها وأن الأسس النظرية والفكرية للممارسة السياسية لم تعد تلهمها في شيء لفهم التحولات الجارية وقواعد اللعب الجديدة في الحقل السياسي، فتنكمش على ذاتها وتنسحب من الواقع تدريجيا حتى تفقد تلك الصلة التي تربطها به، وذلك حينما تتكرس حالة الانفصام أو العزلة أو الفجوة بين الوثائق النظرية للحزب وبين ممارساته العملية ، بحيث تصبح هذه الممارسات  بعيدة إلى حد كبير عن مضمون وأهداف الرؤية او المحددات النظرية كما وردت في وثائق الحزب، لكنني على الرغم من ذلك ، لا اعتقد بأن الجبهة الشعبية تعيش حالة من الاغتراب بين الرؤية القومية من ناحية والرؤية الماركسية من ناحية ثانية ، مع اقراري بضعف العلاقة بين البعدين القومي والماركسي داخل الجبهة، مما سيؤدي في حال استمراره إلى ظهور وتبلور حالة الاغتراب ، السؤال هنا ما هي مظاهر الضعف ، والأزمة الداخلية في الجبهة التي يمكن أن تؤدي إلى سيطرت مناخ الاغتراب فيها ؟ سأحاول على هذا السؤال من خلال إبداء بعض الملاحظات .

الملاحظة الأولى: تتعلق بحالة الضعف التاريخي للوعي العميق بمفهومي القومية والماركسية ، حيث جاء انهيار الاتحاد السوفيتي وتحولات العولمة الرأسمالية ليضفي مزيداً من الارباكات والحيرة والفوضى الفكرية على الجبهة الشعبية وجميع أحزاب اليسار العربي ، وفي هذا السياق أشير إلى أن معظم احزاب اليسار الفلسطيني لا ينطبق عليهم صفة اليسار الماركسي ، فمن يقبل باتفاق أوسلو أو يقبل بالتفاوض مع دولة العدو الإسرائيلي بذريعة الحل المرحلي وفق شروط العدو ، ومن يقبل المشاركة في حكومة سلطة الحكم الإداري الذاتي، ومن وافق على الذهاب إلى ما يسمى بمؤتمر جنيف الذي استهدف شطب حق العودة وشطب الحقوق التاريخية ، فلا يجوز موضوعياً ان يندرج تحت مسمى اليسار، وبالتالي فإن هذه الأحزاب تعيش داخلياً حالة شديد من الاغتراب لدى عموم الاعضاء  عندما يصعب على هذا المكون الأيدلوجي إيجاد مكانه الطبيعي ويعيش نوعا من التيه والحيرة معا على مستوى الموقع أولا وقد يمتد إلى ذلك ليشمل المرجعية أيضا.

الملاحظة الثانية: هي أن اليسار الفلسطيني (والعربي عموماً) لم يعد قادرا على إنتاج معرفة جديدة للواقع السياسي ، الاجتماعي ، الاقتصادي ، الثقافي ، القانوني ، برؤية وطنية وقومية يسارية واضحة المعالم ، ويعود السبب في ذلك إلى أزمة القيادة المستفحلة تاريخياً ، والتي انتشرت في أوساط الهياكل والمراتب الحزبية الاخرى ، إلى جانب غياب أو ضعف الوعي العميق بالأفكار المركزية التوحيدية لهذه الأحزاب والفصائل من جهة وتراجع حالة الشغف والدافعية الذاتية أو القناعة لدى الأعضاء بتلك الأفكار من جهة ثانية ، ليس بسبب عدم صلاحية الفكر أو المنهج الماركسي ، بل بسبب الضعف الفكري والبنيوي للقيادة وعجزها أو قصورها في تطبيق البرامج الفكرية والسياسية والمجتمعية التثقيفية لدى أعضائها ، ذلك إن إنتاج معرفة نظرية ، فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية ... إلخ ، يتطلب عددا من الشروط العلمية منها قدرة القيادة ومؤسساتها أو دوائرها على التحليل المجتمعي، وهذا ما تفتقر له أحزاب وقوى اليسار الفلسطيني بدرجات متفاوتة ؛ إذ أن أغلب تساؤلات اليسار اليوم لا تزال حبيسة ماضيه دون أي ابداع أو تجديد يتناسب مع المستجدات والمتغيرات الراهنة ، بل إن اليسار الفلسطيني رهن عدد من القضايا والإشكالات السياسية والمقاومة على حساب الاشكالات المجتمعية ، وعلى الرغم من أهمية ذلك فإنه لا يمكن من الناحية العلمية أن نرهن كل المشكلات بالقضايا التحررية أو السياسية ، فلا بد من مقاربات علمية لكافة الظواهر الاجتماعية وإيجاد علاقات سببية وروابط واضحة بين التحرر الوطني وقضايا التطور الاجتماعي الديمقراطي ، وإعمال أدوات تحليل مناسبة قادرة على إظهار هذه العلاقات ، بما يمكن الحزب أو الجبهة من الاقتراب والتفاعل مع القضايا المطلبية واقناع الجمهور المعني بالعلاقة التفاعلية المتصلة بينه وبين الحزب.

الملاحظة الثالثة: عدم قدرة اليسار على التكيف مع متطلبات التغيير الجديدة في المجتمع الفلسطيني بعد أوسلو والسلطة وبقي مشدوداً للقضايا والشعارات السياسية اللفظية دون أي ممارسة فعالة ومؤثرة ضد أثار أوسلو وممارسات السلطة على الصعيد المجتمعي ... الأمر الذي عزز عوامل الاغتراب لدى الحزب من ناحية ولدى الاعضاء من ناحية ثانية .

الملاحظة الرابعة: اليسار بحاجة ماسة اليوم إلى مراجعة التنظيم وأسلوب العمل، بما يسمح له بإعادة ترتيب البيت الداخلي والفعل المباشر في المجتمع والالتحام بقضاياه، مما يطرح السؤال العريض أين اليسار من حلم تأطير الجماهير وتحريك الشارع...؟ إن احوال التراجع السياسي والجماهيري لدى الجبهة وفصائل اليسار ترك –إلى جانب أسباب أخرى- مجالا خصبا للإسلاميين للاشتغال دون مزاحمة عندما عجز عن الاشتغال الطبيعي في أوساط الفقراء وتجمعاتهم السكنية في المدن والمخيمات والقرى في الوطن والشتات .

والاشكالية هنا أن الجبهة وقوى اليسار ، اعتبروا على الدوام أن المشكلة الأساس تكمن في القضايا السياسية أو التحررية الكبرى، وهذا صحيح من حيث المبدأ ،لكن الفقير الذي لا يملك قوت اسرته أو علاج اطفاله أو تأمين دخل لائق له ولأسرته ، لا يمكن ، بل يستحيل أن يناضل من أجل القضايا السياسية الكبرى ، ولذلك فإن الموضوعية في مسيرة النضال السياسي لليسار الماركسي ، واخص بذلك جبهتنا الشعبية ، تقتضي ايلاء القضايا المجتمعية والاقتصادية للجماهير الفقيرة اهتماماً فائقاً يتوازى ويندمج مع القضايا السياسية التحررية، ذلك إن الضعف الشديد في هذه الممارسة اتجاه الشرائح الفقيرة جعل اليسار يفقد البوابة الرئيسية للنشاط السياسي والتوسع التنظيمي في أوساط الفئات الفقيرة والالتحام بها تمهيداً لتأطيرها في خضم النضال الوطني التحرري .

 

ولمزيد من التوضيح في الإجابة على سؤالك حول اغتراب الجبهة الفكري بين القومي والماركسي ، أقول ، إن المراجعة الموضوعية تقتضي الاعتراف  بان تبني الجبهة للماركسية منذ أوائل عام 1968م، وقرارها بجعل حركة القوميين العرب في خدمة الجبهة ،كان قرارا متسرعا رغم انه كان يستهدف  ابراز البعد الكفاحي والثوري للجبهة على الصعيد الفلسطيني دون القطيعة السياسية والمعرفية مع المنطلقات القومية لحركة القوميين العرب ،حيث نلاحظ ان   الخصوصية الكفاحية التي تميزت بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكانت بالفعل حافزاً رئيسياً لانحياز الشباب للجبهة في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي ، لكن الجبهة حملت منذ بداياتها الأولى الرؤى القومية الثورية ضد الانظمة الرجعية ، ولذلك كان من الطبيعي ان تبادر الجبهة  انذاك الى تأسيس وبناء " الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي " و " جبهة تحرير ظفار" واحزاب ثورية اخرى في السعودية والكويت واليمن ، وكل هذه الجبهات والاحزاب كان محددها الرئيسي وحدة المنطلق القومي مع الفكر والمنهج الماركسي 

وعليه اعتبرت الجبهة أن من أولويات الفكر السياسي العلمي السليم تحديد معسكري الأعداء والأصدقاء للشعب الفلسطيني والعربي، وثورته المسلحة. وصنفت المعسكر الأول بالإمبريالية العالمية، والصهيونية، وإسرائيل، والرجعية العربية، الممثلة "بالطبقات الرجعية من إقطاع وبرجوازية، الذين ترتبط مصالحهم بالامبريالية،وصنفت المعسكر الثاني – آنذاك- بالشعوب المستعبدة التي تعاني من الهيمنة الاستعمارية – الامبريالية واستغلالها لثروات الشعوب العربية   ، وهنا يتجلى ايضا الوضوح في الموقف والرؤية بالنسبة لوحدة القومي والماركسي، وهو ما دفع بالجبهة مد خيوط التشابك ثم التحالف مع المعسكر الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي ثم كوبا والصين وكوريا رغم اية ملاحظات نقدية حول هذه التحالفات .

 لقد جاء تبني الجبهة الشعبية للفكر الماركسي في ضوء قراءتها للأزمة السياسية، والفكرية، والتنظيمية، التي عصفت بالحركة القومية العربية عموماً، وحركة المقاومة الفلسطينية خصوصاً، بعد هزيمة 1967م، 

وهذا لا يعني أن الجبهة قطعت صلتها مع الفكر القومي؛ بل عملت على الربط الجدلي بين هذا الفكر وهويتها الفكرية اليسارية الجديدة، "فالجبهة الشعبية منذ انطلاقتها اقرت بالطبيعة القومية الشمولية للصراع في المنطقة، إلى جانب تأكيدها على المضمون الطبقي؛ لأن معركة التحرير الفلسطينية هي بالنسبة للجهبة، معركة قومية، ولكنها في نفس الوقت معركة طبقية، ضد كل القوى الرجعية والرأسمالية العربية التابعة .

وهكذا ربطت الجبهة في وثائقها بين النضال الوطني التحرري، والنضال الطبقي الاجتماعي والاقتصادي، بمنطلقاته الفكرية الماركسية والقومي .

وقد استطاعت الجبهة انطلاقاً من تبنيها للفكر الماركسي أن تسهم في بلورة المسائل الإستراتيجية لحركة النضال الوطني الفلسطيني، والربط النظري بين الوطني والقومي والأممي في المراحل الأولى من تجربتها النضالية إلى حد بعيد، وتميزت بكفاحيتها وثوريتها، إضافة لخوضها جدالات فكرية وسياسية. وساهمت إيجابياً في نشر الفكر الاشتراكي العلمي، الذي ارتبط برفعها لواء الكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين.

 وهذا ما حدا بالجبهة إلى عدم اتخاذ خطوات متسرعة على صعيد التغير الفكري، كما ذهبت بعض الأحزاب العربية والفلسطينية؛ بل بقيت تؤكد على ضرورة امتلاك رؤية وبعد أيديولوجي مغاير ونقيض لمفاهيم العولمة، أو الليبرالية الجديدة. انطلاقاً ، من الرؤية القومية المعبرة عن مصالح الطبقات الفقيرة والكادحة في البلدان المتخلفة، الحاملة للفكر الماركسي إلى جانب منطلقاتها القومية في الخلاص والنهوض، ومن هنا فإن الرؤية القومية المستندة لمصالح الطبقات الفقيرة والكادحة في البلدان المتخلفة، لا يمكن إلا أن تكون جزءاً عضوياً من مكونات الماركسية الفكرية  كما تجسدها الجبهة الشعبية .

وعلى الرغم من كل ما تقدم ، فانني لا استطيع تجاوز حالة الاغتراب الفكري او حالة الاضطراب أو "الانفصام" الفكري، التي لا زالت مفاعليه قائمة حتى اللحظة. وهو يتضح من حالة التشتت أو عدم الوضوح الفكري، وانتشار مظاهر التدين الداخلي، والتأثر بأفكار قوى الإسلام السياسي (الخصم الأيديولوجي)، أو الأفكار الليبرالية، وبقاء الفكر الماركسي غريباً عن الواقع، وعدم استطاعة تعريبه أو توطينه، كما دعت الجبهة في العديد من أدبياتها، ووثائقها النظرية، على صعيد تمثل هويتها الفكرية الماركسية للواقع العربي والفلسطيني، المبني على وعي عميق بهذه الهوية الفكرية، وبناءً على قراءة عميقة للواقع العربي الفلسطيني؛ بحيث ترتدي هذه الهوية الثوب القومي العربي كما قال القائد الراحل جورج حبش.

وبالتالي فإن القول بدور تاريخي للجبهة الشعبية ليس إلا فرضية على جميع الرفاق واجب إثباتها عبر التفاعل والتطابق الجدلي بين النظرية كما بلورتها وثائق مؤتمرات الجبهة وبين الممارسة النضالية والسياسية والمجتمعية والجماهيرية. وبالتالي لا مجال لاستقامة القول بـ"الحزب الطليعي" وفي آن القول بـ"الحزب متدني المستوى فكرياً" ، وهنا استدرك بالقول : إن الأسس والمنطلقات السياسية والكفاحية والتننظيمية والفكرية التي حكمت مسيرة الجبهة منذ نشأتها إلى يومنا هذا ، هي أسس ومنطلقات تتوحد فيها بصورة جدلية – الرؤيتين القومية والماركسية معاً ، وهذا ما نلحظه بوضوح في الجانب النظري أو وثائق وأدبيات الجبهة خصوصاً ، مع اقرارنا بتراجعه نسبياً في الممارسة على الصعيديين الوطني والقومي، حيث  تعرضت هذه  الأسس او المبادئ   لأشكال من  التعطيل أو الرخاوة ، ما أدى إلى تعريض الحزب بهذه الدرجة أو تلك لحالة من الركود أو التراجع المعرفي والسياسي، ومن ثم الخضوع لعوامل الأزمة الداخلية وتراكماتها التي عززت النزعات الانتهازية والشللية المدمرة لأفكار الحزب ومبادئه وفاعليته ، وخلقت ما يمكن تسميته –كما يستنتج سامي في سؤاله- بحالة الاغتراب الفكري أو الانفصام بين  المرتكزات القومية والماركسية في الجبهة ، وهو وضع غير مستغرب يا صديقي سامي ، فإذا كفّت أيديولوجيا الحزب ومبادئه ومنطلقاته وممارساته عن الاستجابة لما يرغب ويفكر به الرأي العام ويعبر عن مصالح الجماهير الشعبية وطموحاتها فإن الحزب يبدأ في حالة من التراجع والاغتراب، ويفقد تأثيره تدريجياً إذا ما تعززت حالة الانفصام بين الممارسة والنظرية .

لكن ما تملكه الجبهة الشعبية من رؤى ومواقف سياسية وطنية وقومية، ومنطلقات فكرية ماركسية، بالإضافة إلى تاريخها النضالي المتصل حتى اللحظة ، يوفر كل الامكانات الكفيلة بخروجها من ازمتها الراهنة واستعادتها لدورها الطليعي على الصعيدين الوطني والقومي وفق منطلقها الأيديولوجي الماركسي ، الذي يجعل من الجبهة ، الأكثر تعبيراً –من حيث المصداقية- عن طموحات الأغلبية الساحقة من شعبنا، لكن نجاح هذا الاستثمار مرهون بإزالة كل العقبات التي تحول دون بناء الحزب الثوري ، وبالطبع إزاحة كل مظاهر وأشكال الاغتراب الذي يعود في احد أهم أسبابه إلى حالة الاغتراب الذاتي لدى الاعضاء، التي تتجسد في فقدان بعض الأعضاء للدافعية الذاتية أو تراجع قناعاتهم واخلاصهم الثوري لبمبادئ الجبهة وأفكارها ، إلى جانب الضعف الملموس بالنسبة لامتلاك الوعي الفكري والسياسي والتنظيمي في قسم كبير من العضوية ، مما فاقم في مظاهر وأدوات الازمة الداخلية التي تعززت في ظل ما اسميه بحالة الفوضى الفكرية ،وغموض المفاهيم واضطرابها ، كظاهرة سائدة اليوم ليس في أوساط الجبهة فحسب بل أيضاً ، وبصورة أشد وضوحاً ، في أوساط كافة فصائل وأحزاب اليسار العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً .

من هنا كانت أهمية المراجعة واستعادة المبادرة فكرياً وتنظيمياً ، لتفسير ما حدث وتقديم أطروحة صائبة لأسئلة مطروحة وفراغ ذهني يخطئ من يظن أن العدو لا يحاول سده بأطروحة فكرية فاسدة، والحال هذه فإن المراجعة الجادة ومن ثم تكريس وتعميق وعي الرفاق بأطروحتنا الفكرية السياسية ببعدها القومي الماركسي معاً ،وهي  ليست ترفاً كما يتوهم البعض، بل ضرورة لا غنى عنها في معركة فكرية مشتعلة، في إطار الصراع ضد العدو الامبريالي الصهيوني من جهة ، وفي الصراع الديمقراطي الداخلي بالتفاعل والتضامن الحقيقي مع قوى التقدم والديمقراطية في الانتفاضة الثورية في معظم العواصم العربية ضد أنظمة ورموز الرجعية والتخلف والاستبداد والتبعية  من جهة ثانية ، بما يمكننا كخطوة نوعية لاحقة من تأسيس واستنهاض التحالف اليساري الماركسي تمهيداً لبلورة الحركة الماركسية العربية  على الصعيد القومي ، الكفيلة – مع عوامل أخرى- بفك الاستقطاب القائم بين السلطة من جهة ، وقوى الإسلام السياسي من جهة أخرى، ومن ثم إتاحة مساحة أوسع لحزبنا وأحزاب اليسار القومي الديمقراطي في أوساط الجماهير تعزز دورنا المستقبلي، خاصة وأن ظروف الانتفاضات العربية الراهنة تؤكد على أن آفاق المستقبل مفتوحة أمام الجبهة وكل القوى اليسارية العربية إذا ما التزمت بالقضايا الوطنية التحررية والمجتمعية للطبقات الشعبية برؤية قومية، ولكن رغم انفتاح هذه الآفاق، رغم نضوج الظروف الموضوعية في فلسطين وكل البلدان العربية ، بدرجات متفاوتة ، إلا أن قوى اليسار لم تتفاعل كما ينبغي مع هذه الآفاق أو الظروف، وظل العامل الذاتي (الحزب) قاصراً أو متردداً أو رخواً، رغم كل نصوص وثائق هذه القوى والأحزاب اليسارية ، بما في ذلك الجبهة الشعبية ، ولذلك ليس من المستغرب أن تنشأ هذه الحالة من الإغتراب الفكري بين القومي والماركسي ، وهي كما قلت ظاهرة لها أسبابها الموضوعية ،  لكن أسبابها الذاتية تشكل العامل الرئيسي في بروز هذه الحالة من الاغتراب ، ما يدعوني إلى الحديث

وهنا بالضبط يتجلى دور الجبهة الشعبية في العمل الاستراتيجي الجاد من أجل الإسهام الفعال في وقف انحراف قيادة حركة التحرر الوطني وإعادة توجيه مسارها التحرري الديمقراطي في إطار إستراتيجية التحرر القومي العربي الأشمل .

إن ثمة دور تاريخي واجب الجبهة أن تؤديه تجاه القضية الوطنية والقومية العامة أولا وتجاه نفسها ثانياً، انطلاقاً من رؤية إستراتيجية واضحة تقوم على إنهاء الوجود الإمبريالي والصهيوني في بلادنا ولتكون فلسطين جزء من المجتمع العربي الاشتراكي، ما يعني مقاومة كل أشكال ومظاهر الاستسلام لميزان القوى الراهن، كما للوجود الصهيوني، وبالتالي النضال مع كافة القوى اليسارية والتقدمية العربية من أجل تغيير هذا الواقع العربي المهزوم، ليصبح الصراع ضد الوجود الصهيوني صراعاً عربياً – إسرائيلياً يستهدف تحقيق التحرر الوطني والقومي وينهي كل أشكال التبعية والخضوع والتخلف على طريق التطور والحداثة والعدالة الاجتماعية والوحدة.

 

س2 : من سامي الأخرس : ما هو رأيك في حالة الاغتراب السائدة لدى الكثيرين من الرفاق اعضاء الجبهة الشعبية في هذه المرحلة ؟

على الرغم من أن الاغتراب من أكثر المفاهيم التباساً في العلوم الاجتماعية ، وعلى الرغم من اختلاف معناه باختلاف استعمالاته ، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً أو فلسفياً بأن الاغتراب يشير إلى غربة الانسان عن تراجعه عن وضعه أو موقعه الذي ينبغي أن يكون فيه ، سواء كان موقعاً اجتماعياً أو سياسياً أو تنظيمياً ، وهنا يكون الاغتراب نقصاً أو تشويهاً أو تخاذلاً من المغترب عن الوضع الصحيح الذي كان من الواجب عليه أن يقاتل من أجله ، ولكن – في الكثير من الحالات- خاصة في ظروف تراجع أو تهميش قوى حركة التحرر العربية الديمقراطية واليسارية ، وسيادة مناخات الهزيمة والاستسلام والتبعية والتخلف والخضوع لمقتضيات التحالف الإمبريالي الصهيوني في بلادنا ، وما رافق هذه الأوضاع من تزايد حالات الارتداد أو الردة الفكرية والسياسية والتنظيمية من أرضية الانتهازية الذاتية لدى العديد من الكوادر والمثقفين من الجبهة وأحزاب اليسار العربي لحساب مصالحهم الأنانية الذاتية، كل ذلك ، أدى إلى مراكمة عوامل أو أسباب "الاغتراب بالمعنى الموضوعي أو الخارجي، لكن الأسباب الذاتية لدى العضو –في تقديري- تظل هي العامل الرئيسي الأول في خلق حالة الاغتراب ، خاصة حينما يكون وعي هذا العضو – في الجبهة أو غيرها من أحزاب اليسار – بالمبادئ والمنطلقات الفكرية والسياسة والتنظيمية ، وعياً هشاً ، ضعيفاً ، بسيطاً ، دون أي تطوير أو اهتمام جدي من الحزب أو من العضو تجاه تقوية وتعميق وعيه ، علاوة على ما يتعرض له الحزب من أوضاع داخلية مأزومة ، تراكم عوامل تراجعه الملموس في أوساط جمهوره وأصدقائه ، وفي مثل هذه المناخات تتراجع روح العضو ودافعيته ومشاعره وقناعاته الثورية التي أصبح بموجبها عضواً في الجبهة، وهنا يتجلى مفهوم الاغتراب، فكلما تراجعت دافعية العضو وشغفه وروحه الوطنية أو الثورية من  أجل استنهاض الجبهة وتوسعها وانتشارها ، تزايدت حالة الاغتراب لديه ، بمعنى شعوره بالغربة في علاقاته برفاقه وبمؤسسات ومراتب الحزب ومن ثم بالحزب كله ، وبالمقابل كلما قل انخراط اعضاء الجبهة بالعملية التنظيمية بابعادها السياسية والفكرية والكفاحية والنضالية الديمقراطية في اوساط الجماهير ، زاد شعورهم بالاغتراب السياسي والفكري عن الجبهة ، لكني استدرك هنا وأقول، إن شعور بعض الرفاق بالاغتراب، هو بشكل رئيسي ، نتاج لشعورهم الذاتي بضعف امكانياتهم التنظيمية أو السياسية أو النضالية أو الفكرية ، وعدم قدرتهم على التأثير أو التغيير في الأوضاع السلبية القائمة او المأزومة ، لكنه شعور خاطئ ، أقرب إلى الاحباط واليأس ، وهي  مشاعر تعكس صفات البورجوازي الصغير قصير النفس ، المتردد ، الذي لا يجهد نفسه في تحصل الوعي وبالتالي يعجز عن التأثير والتغيير ، حيث يسهل استخدامه من قبل مراكز القوى أو الشلل والتكتلات الانتهازية ، فالعضو المغترب هو القابل للإحباط ، أو الهروب من مواجهة الواقع وتغييره، هو عضو فقد دافعيته واخلاصه لمبادئ حزبه ومستقبله ، وهو أيضاً عاجز أو ضعيف الشخصية أو فاقداً للوعي والقدرة على التأثير في من حوله من الرفاق أو في صنع القرارات التي تتناول منظمته أو مرتبته التنظيمية أو تلك التي تتناول حياته الشخصية، وبالتالي هو إنسان عاجز عن تحقيق ذاته أو الاسهام في صنع  مستقبله طالما أنه عجز عن الاستمرار في التمسك الواعي بأهداف و بمبادئ حزبه والبقاء فيه مناضلاً من أجل تحقيق تلك الاهداف كمدخل وحيد التحقيق تطلعاته وامانيه الوطنية والاجتماعية في إطار تطلعات واماني الجماهير الشعبية التي يناضل الحزب من اجل مستقبلها ، فإذا لم يشعر العضو أن ممارساته النضالية من خلال الجبهة أو الحزب هي تحقيق المستقبلة ومستقبل الجماهير الشعبية التي ينتمي إليها ، فإنه لن يتقدم خطوة واحدة إلى الامام ، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يغترب عن الحزب ومبادئه ، ولا داعي أو مبرر لاستمرار عضويته ، فالحزب يقوى بتطهير نفسه من كل متردد أو فاقد الايمان والوعي بمبادئ الجبهة واهدافها الكفيلة وحدها بتجسيد طموحات وتطلعات جماهيرنا الشعبية في الخلاص من الاحتلال الصهيوني من ناحية والخلاص من كل اشكال الاستغلال والقهر الطبقي من ناحية ثانية  .

 

س3: من سامي الأخرس : ما رأي الرفيق أبو جمال بأحداث ليبيا وسوريا على وجه الخصوص؟

أن ما جرى و يجري في تونس ومصر وليبيا واليمن والأردن والبحرين ، لا يتعدى كونه انتفاضة أو حالة ثورية لا تجسد مفهوم الثورة بكل مضامينها السياسية والاجتماعية (الطبقية) والاقتصادية والثقافية ، دون أن يعني ذلك تجاوزاً أو تقليلاً من أهمية هذه الحالة الثورية التي نجحت في تجاوز واسقاط المطلق السياسي ، أو دكتاتورية ونظام الحاكم أو الرئيس المتفرد ، وخلقت مناخاً سيتيح بالضرورة ولادة أشكالاً متعددة من الليبرالية السياسية والتعددية الحزبية ستشكل في حد ذاتها فرصة مواتية لجميع القوى السياسية بمختلف تلاوينها ومنطلقاتها الفكرية ومصالحها الطبقية ، وفي هذا المناخ لابد من اعادة تأطير وتوحيد القوى اليسارية الديمقراطية على قاعدة التوافق المبدئي الملتزم بمجمل القضايا والرؤى السياسية والفكرية والتنظيمية التي تتقاطع معها ولا تختلف عليها ، مع استمرار الحوار فيما بين هذه القوى لتجسير الفجوة فيما بين أطرافها بالنسبة للقضايا الخلافية الأخرى ، إذ أن هذا الإطار التوحيدي أو الائتلاف الشعبي المقترح سيشكل اطاراً جامعاً يمكن أن يوفر عناصر قوة إضافية لليسار في مجابهة محاولات الثورة المضادة أو محاولات اليمين المتمثل في رجال الأعمال من ناحية و التيارات الدينية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين من ناحية ثانية الذين سيبادروا بالتأكيد إلى تأسيس أحزاب جديدة تتكيف مع المتغيرات الراهنة وتستجيب لها بصورة انتهازية ، بمثل ما ستجسد مصالحهم الطبقية في كل الأحوال . وفي هذا السياق ، فإن حديثي عن الإطار أو الائتلاف التوحيدي لا يلغي أهمية وضرورة بلورة الحزب الثوري ، بل لابد –من وجهة نظري- أن يكون ذلك الائتلاف مدخلاً لهذا الحزب، آخذين بعين الاعتبار الكف والتوقف عن آليات العمل النخبوي لدى اليسار المصري بالذات ، والبدء بالحوار والتواصل والانتشار مع الشباب الديمقراطي الذين اسهموا بتفجير شرارة التغيير ، وكذلك الأمر التواصل الفعال والانتشار السياسي والتنظيمي في أوساط الفلاحين الفقراء ، كما في أوساط العمال وكل الكادحين والنقابات العمالية والمهنية بكل مكوناتها الطبقية البرجوازية الصغيرة (محامين ومهندسين وصيادلة وأطباء ومعلمين ومثقفين وإعلاميين ..إلخ).

لا شك أن الانتفاضات والمناخات الثورية العربية تفتتح مشهداً عربيا زاخرا بالمتغيرات التي تستدعي قلقَ التفاؤلِ المشوب بالحذر ، بمثل ما هو حاملٌ للكثير من الآمال رغم الغموض الذي يكتنف مستقبلَه المهدد بدوره بمخاطر إعادة إنتاج التبعية والتخلف ورموزهما ضمن قوالب ليبرالية قد لا تختلف في محتواها عن جوهر الديكتاتوريات التي أسقطتها الانتفاضات او تلك التي تتفكك اليوم على طريق السقوط .. ففي الوقت الذي لا اشكك فيه بإمكانية النهوض والتحرر الديمقراطي في المشهد الجديد رغم كل المحاذير ، إلا أنني أتوقفُ لأستدرك القول إن القطعَ بذلك النهوض الديمقراطي السياسي الاجتماعي بوصفه أمراً حتمياً لا ريبَ فيه ، هو ضربٌ من اليقين الغيبي او المثالي الواهم ، يستعيض أصحابُه به عن التحليل والتشخيص والتوقع للواقعِ المعاش في صيرورتِه ومحدداتِه الطبقية او الاجتماعية الفاعلة فيه ، إلى جانب تغييبِهم لدور القوى الامبريالية في سعيها للتكيف مع هذه المتغيرات وصولاً إلى أشكال جديدة من الاستغلال والتبعية والتجزئة .. (كما جرى للانتفاضات الشعبية ، ضد ديكتاتور الفليبين "فرديناند ماركوس" وسقوطه عام 1986 ،  وإسقاط ديكتاتور مالي "موسى تراوري" عام 1990 ، وضد ديكتاتور اندونيسيا عام 1998 التي أسقطته دون أن تُسقط النظام وكذلك الأمر بالنسبة لنتائج الانتفاضات في البلدان الاشتراكية في أوروبا الشرقية عام 1989 ) ، وفي مثل هذه الحالة فإن الخشيةَ أو المحاذير من أن يزدهر المنهج اليميني الرجعي المُعبِّر عن مصالح الكومبرادور ورجال الأعمال والبيروقراطية العسكرية والمدنية وجماعة الإخوان المسلمين أو الإسلام السياسي ، إلى جانب المنهج المثالي وتكريس مفرداتِهما في الخطاب السياسي ، مما سيشكلُ سياجاً مانعاً في وجهِ القوى الديمقراطية والثورية العقلانية من ممارسة مسؤولياتها السياسية والفكرية بمنطلقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية النقيضة لكل أشكال الاستغلال والهيمنة والتبعية والتخلف... وفي كل الأحوال ، فإنني لا أنكر أن الثابتَ في وعيِ بعض المثقفين الفلسطينيين والعرب بما وقع، مازال محكوماً اليوم بذهول التفاؤلِ الانفعالي الذي لا يمكن الخروجُ منه إلا بالعودةِ إلى أدواتِ المنهج العلمي المادي الجدلي التاريخي ، لضمان وضوح التفكير والرؤية للحركات والقوى الديمقراطية اليسارية واستنهاض أوضاعها الذاتية بما يمكنها من التفاعل الخلاق مع كافة الظروف الصعبة والمعقدة في اللحظة الراهنة . .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *